إبراهيم فاضل الناصري
الأبارتايد الطائفي والمناطقي والقبلي:وكيف بات قَدَرًا يتجلّى في الواجهات والنقابات الثقافية العراقية
في زمنٍ أنهكته إفرازات التحوّلات الاجتماعية والسياسية والدينية، تزداد الحاجة إلى واجهاتٍ ثقافية ونقابية قادرة على احتضان الجميع، وتجسيد وحدة البشر والإنسانية المشتركة. غير أن ما نراه اليوم في واقع تلك المؤسسات يدعو للأسف؛ إذ باتت تتعانى من آفة التمييز ـ أو ما يمكن تسميته بـ"الأبارتايد" ـ الذي اتخذ أشكالًا متجددة، كالأبارتايد الطائفي والمناطقي والقبلي، متجاوزًا بذلك رسالتها النبيلة، ومحولًا إياها إلى واجهاتٍ للصراع بدلًا من أن تكون منابر للتلاقي والانصهار.
إنّ التصدي لهذه الظاهرة، وتمكين ثقافة الوحدة والعدالة، هو واجب ملحّ على كل مثقف ونقابي يسعى إلى مستقبل أفضل.
فالنقابات والدوائر الثقافية، بوصفها فضاءات حيوية للفكر والإبداع، من المفترض أن تكون صروحًا للدفاع عن الحريات، وحواضن للتنوع الثقافي، لا بؤرًا لإعادة إنتاج الانقسامات الضيقة. غير أن ما يعصف بها من تمييزٍ ممنهج ضد شرائح معينة من النخب الثقافية والفكرية، يشكّل تهديدًا مباشرًا لتماسك المجتمع، ويدفعنا إلى الوقوف بحزم في وجه هذا الانقسام الذي يقسم ولا يجمع، ويفرّق ولا يوحِّد.
حين يُذكَر مصطلح "الأبارتايد"، تتبادر إلى الذهن صور الفصل العنصري في جنوب أفريقيا أو غيرها من العالم. لكنّ الظاهرة تجاوزت حدود العِرق لتأخذ اليوم أشكالًا أكثر خفاءً، منها ما يُسمى بـ"الأبارتايد الثقافي"، والذي بات يتجلى في مؤسساتنا، حيث يُمارَس التمييز والتمايز على أسس طائفية ومناطقية وقبلية، فيُقسَّم المثقفون والنخب إلى فئات تُغذّيها حسابات ضيقة، وتُدار وفق أجندات تفتيتية، لا وحدوية.
وهذا التمييز ما عاد قاصرًا على حالات فردية، بل أصبح بنيةً داخلية في العديد من الواجهات الثقافية، حيث تُحتكر المواقع القيادية والمناصب العليا من قبل فئات منطقة او جهة محددة، دون اعتبار للكفاءة أو الجدارة، ما يضعف دور هذه المؤسسات، ويُقصي عددًا كبيرًا من الطاقات الخلاقة التي لا تقلّ استحقاقًا أو أهلية.
في الواقع العراقي، تتكرّر مظاهر هذا الفصل في صور عديدة: من توزيع الأدوار والمناصب على أساس الانتماء المناطقي أو الطائفي او القبلي، إلى تمييز واضح في دعم المبادرات والأنشطة الثقافية، وصولًا إلى إقصاء المبدعين بسبب خلفياتهم الجغرافية أو القبلية. بل إن الخطاب الثقافي، في بعض الحالات، بات منحازًا ومشحونًا، يدعم الانتماءات بدلًا من الدعوة إلى التلاقي والشفافية .
ولا يمكن لمجتمع يدّعي النهوض أن يتسامح مع هذه الممارسات؛ فالفصل القائم على هذه الأسس ليس إلا جرحًا غائرًا في جسد الوطن، يضعف وحدته الداخلية، ويُفرغ العمل الثقافي من روحه، ليحوّله من أداة توحيد إلى ساحة تجاذب وصراع. إنه شكل جديد من الشعوبية، يرتدي عباءة المناطقية والطائفية ليخفي جوهرًا إقصائيًا فاسدًا.
الخطوة الأولى نحو تجاوز هذا الواقع تبدأ بالاعتراف الصريح بوجود هذه الأبارتايدات الثقافية داخل مؤسساتنا، والعمل الجاد على محاربتها وتفكيكها عبر آليات عادلة وشفافة، تُعيد الاعتبار للمساواة، وتُعلي من شأن الكفاءة والمعيار الوطني على حساب الولاءات الضيقة.
فالثقافة، بطبيعتها، تحتضن التنوع وتغتني به، ولا تصلح أن تكون حلبة لتصفية الحسابات أو فرض الهيمنة. وعندما تتلوث بهذه الانقسامات، تفقد قدرتها على البناء والتجديد، وتتحول من منارة إلى ركام.
لهذا، فإنّ على النخب الثقافية والمثقفين، وعلى القيادات النقابية، أن يرفعوا الصوت عاليًا برفض الأبارتايد الطائفي والمناطقي والقبلي، وأن يعملوا بإخلاص لترسيخ قيم الوحدة الثقافية والعدالة الاجتماعية، كي تصبح هذه الصروح مناراتٍ للحرية والكرامة، لا أدواتٍ للتفتيت والإقصاء.
إنّ المجتمعات الحية لا تُبنى إلا على أساس الشمول والإنصاف، وعلى احترام الإنسان في جوهره، لا في انتمائه. فليكن رفض التمييز الثقافي، بكل صوره، بدايةً حقيقية لمسيرة عراقٍ أكثر عدلًا وازدهارًا، يعيش فيه كل إنسان بقيمته ومكانته، لا بهويته الفرعية.
ولا يكفي أن نرفض التمييز بالكلمات؛ بل علينا أن نُجسّد هذا الرفض في سلوكنا اليومي، ونزرع قيم التآخي في ضمائرنا، ونغرسها في قراراتنا ومواقفنا ومؤسساتنا.
وقد قال المفكر التونسي محمد الطيب العلّوش:
"الانتماء الحقيقي يبدأ من الانتماء إلى الإنسان قبل كل شيء، فكل القوميات والطوائف والأجناس تتلاشى أمام عظمة الإنسان."
وقال مارتن لوثر كينغ جونيور:
"أنا أحلم بعالم لا يُحكم فيه الإنسان على أساس لون بشرته أو أصله، بل على أساس جوهر شخصيته."
وفي ثقافتنا العربية، نجد صدى هذه القيم في كلمات محمود درويش:
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة، فلا تدع انتماءك يقتل الإنسان فيك."
هذه الأقوال ليست مجرّد حِكم، بل منارات تهدينا إلى أن الوحدة الثقافية هي السبيل الأمثل لبناء مجتمع متماسك، يعلو فيه صوت الإنسان الحر، وتتفتح فيه آفاق الإبداع بعيدًا عن التحزّب والانغلاق.
فلنكن نحن نواة التغيير، برفض الأبارتايد الطائفي والمناطقي والقبلي، وبناء صروح ثقافية تمثّل الجميع، وترتقي بالإنسان العراقي إلى فضاءات الحرية والكرامة.
659 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع