بدري نوئيل يوسف
الإعلام والانحياز الرسمي
مقدمة
في دولة الفساد، يصبح الإعلام الرسمي ليس مجرد ناقل للخبر، حيث تشرق الشمس بأمر الحكومة، والقنوات الرسمية التي تنشر إنجازات وهمية وتهاجم من ينتقد. والمراسل الذي يشكر الحكومة حتى في نشرات الطقس. بل أصبح مصنع للمعجزات اليومية. هنا تتحول المساحات الإخبارية إلى مسرح ضخم لتوزيع قصص البطولات الوهمية والتصفيق الحار لأي مسؤول أو مشروع حتى لو كان قد انتهى قبل أن يبدأ. يكفي أن تتابع نشرة الأخبار لتكتشف أن البلاد دخلت جنة الإنجازات فقط على الشاشة!
في عالم الإعلام الرسمي، لا شيء يحدث صدفة، ولا إنجاز يُذكر إلا إذا كان ممهورًا بختم الحكومة الذهبي. إنه عالم ساحر، حيث تتحول الأزمات إلى انتصارات بضربة ميكروفون، والنقد يُعتبر خيانة عظمى تستحق الحرب الإعلامية الشاملة. دعونا نأخذ جولة سريعة في هذا الكرنفال الإعلامي الذي لا ينتهي.
إنجازات وهمية تُزيّن الشاشات
القنوات الرسمية لديها موهبة خارقة في اكتشاف الإنجازات، حتى لو كانت غير مرئية للعين البشرية. افتتاح جسر نصفه مكسور؟ أو حزان ماء مثقوب يخر منه الماء، إنه صرح تنموي يعكس رؤية القيادة الحكيمة. نقص الكهرباء؟ خطة عبقرية لتقليل استهلاك الكربون وتعزيز الاستدامة. وحتى لو غرقت الشوارع بالمياه، فإن ذلك مجرد اختبار ميداني لقدرات الصرف الصحي المتقدمة. كل شيء يُحوّل إلى قصة نجاح، وإذا لم تصدق، فالمشكلة فيك، أيها المواطن المتشكك!
الجميل في هذه الإنجازات أنها لا تحتاج إلى دليل. صورة فوتوشوب لمشروع لم يبدأ بعد، أو إحصائيات مرسومة على عجل في غرفة التحرير، تكفي لملء نشرة الأخبار. وإذا تجرأ أحدهم وسأل: أين هذا المشروع؟، يأتي الرد الجاهز: إنه في مرحلة التنفيذ الاستراتيجي، ولا يراه إلا أصحاب الرؤية البعيدة.
القنوات الرسمية: آلة صناعة الإنجاز الوهمي.
هل سمعت يومًا عن قناة رسمية تعترف بالفشل؟ مستحيل! فشغلهم الشاغل تحويل كل إخفاق إلى ملحمة وطنية وكل شكوى إلى مؤامرة خارجية. لا يمر يوم إلا ونرى افتتاح أكبر جسر لم تكتشفه خرائط العالم، أو مشروع تحت الأرض أو فوق السحاب، وتصريحات تؤكد أن الاقتصاد في أفضل حالاته منذ أيام الديناصورات، بينما الشعب يتساءل إذا كان يتابع أخبار كوكب آخر.
الهجوم على المنتقدين صار جزءًا من الديكور. من يجرؤ على التشكيك في الإنجاز العظيم؟ الإعلام يتكفل بتقديمه كعدو النجاح، طامح في إسقاط هيبة الدولة ولو كان ينتقد فقط سوء تصريف مياه
الأمطار!
النقد ممنوع، والشكر واجب
في عالم الإعلام الرسمي، النقد ليس مجرد رأي، بل هو مؤامرة خارجية تستهدف زعزعة استقرار الأمة. إذا كتبت تغريدة على منصة إكس تشكو فيها سوء الخدمات، فاستعد ليتم تصنيفك كـعميل أو مروّج للإشاعات. القنوات الرسمية لا تتردد في شن حملات شعواء ضد أي صوت يجرؤ على السؤال: لماذا؟ الصحفيون هنا ليسوا مراسلين، بل جنودًا في معركة الدفاع عن الإنجازات، وكل كلمة نقد هي طلقة طائشة يجب إسكاتها.
لكن لا تقلق، فهناك دائمًا بطل القصة: المراسل المخلص. هذا الرجل العجيب الذي يجد طريقة لشكر الحكومة في كل مناسبة، حتى لو كان يقدم نشرة الطقس. اليوم الجو مشمس بفضل الجهود الحثيثة للحكومة في استقرار المناخ، يقول بابتسامة عريضة، بينما الجميع يتساءل: هل الحكومة فعلاً تتحكم بالشمس؟ وحين تهب العواصف، لا ينسى أن يضيف: نشكر الحكومة على توفير هذه الرياح المنعشة التي تذكرنا بأهمية الوحدة الوطنية.
المراسل المثالي: آلة شكر متنقلة
المراسل الرسمي هو كائن فريد من نوعه. لا ينام، لا يتعب، ولا يفكر إلا في عبارات المديح. لو أُرسل لتغطية كارثة طبيعية، سيعود بتقرير يبدأ بفضل القيادة الرشيدة، تم احتواء الكارثة بسرعة قياسية. ولو كان في منطقة لا توجد فيها طرق، سيصرخ في الميكروفون: هذا المشهد الطبيعي يعكس التزام الحكومة بالحفاظ على البيئة الأصلية. إنه لا يكتفي بالإشادة، بل يبتكر أسبابًا جديدة للشكر كل يوم. وإذا نفدت الأسباب؟ لا مشكلة، يمكنه دائمًا الإشادة بـالاستقرار الأمني، تلك العبارة السحرية التي تناسب كل المواقف.
مراسل الأحوال الجوية الراصد الوفي للحكومة!
حتى نشرة الطقس لم تسلم من الانحياز. ما إن يظهر المراسل ليحدث الناس عن احتمالية الأمطار، حتى يبدأ بتوجيه الشكر للحكومة على الجهود العظيمة في دعم السحب وترطيب الجو، وينهي النشرة بتهنئة للقيادة على تحقيق طقس مستقر يناسب الاستثمارات السياحية. وإن هبّت عاصفة، فالأمر بتوجيه حكومي حكيم لتجديد بنية الشجر والاستفادة من الأمطار.
وللصيف ميزة مضاعفة، إذ تكون درجة الحرارة 48 مئوية لكن المراسل مصر أن الأجواء لطيفة بفضل مشاريع تلطيف الهواء المدعومة رسمياً، وإن شكي المواطنون فالمراسل يبتسم قائلاً: لنرفع القبعات للحكومة التي جعلت من العرق علامة على الحيوية الوطنية!
عيش في الوهم، واستمتع بالبث
الإعلام الرسمي ليس مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل هو بوابة إلى عالم موازٍ حيث كل شيء مثالي،
والحكومة هي البطل الخارق الذي لا يخطئ. إذا كنت تشعر أن الواقع لا يتماشى مع هذه الرواية، فلا تعتقد أن المشكلة في الإعلام. المشكلة، عزيزي المواطن، هي أنك لا تشاهد التلفاز بما فيه الكفاية. فتشغّل القناة الرسمية، واستمتع بالإنجازات، ولا تنسَ أن تشكر الحكومة حتى لو كنت تشاهد توقعات الطقس.
طقوس الإعلام الرسمي
الخبر الوحيد المسموح به: نجاح جديد وإنجاز باهر رغم المؤامرات.
الضيف الدائم في كل برنامج: محلل يذكرنا كل خمس دقائق أن الوطن بخير والمغرضون غاضبون.
صور المسؤولين تزيّن المونتاج، وكأن الملحنين عزفوا النشيد الوطني فقط لشكر الوزارة المعنية.
خاتمة
في إعلام دولة الفساد، لا مكان للواقع ما لم يكن مصدّقًا عليه من مكتب العلاقات العامة. كل نشرة إنجاز، وكل خبر معجزة، والمواطن إما مصفق أو خصم متآمر! إذا ضاعت الحقيقة بين الإنجازات المعلنة، لا تقلق، فربما يعلنون غدًا عن اختراع بوصلة الحقيقة الرسمية التي لا تشير إلا للجهة المطلوبة بثقة وأمانة إعلامية.
الإعلام الرسمي في دولة الفساد: حين تتحول النشرات لإنجازات خارقة!
880 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع