كازو إيشيغور في بقايا النهار.. ذاكرة الإنسان المعذبة

د. عصام البرّام
القاهرة

كازو إيشيغور في بقايا النهار.. ذاكرة الإنسان المعذبة

حين أعلنت الاكاديمية السويدية في عام 2017، فوز الكاتب البريطاني الياباني الأصل كازو إيشيغورو بجائزة نوبل في الأدب، جاء في حيثيات التكريم أنه كشف في رواياته ذات القوة العاطفية العظيمة عن الهاوية الكامنة تحت شعورنا الواهم بالارتباط بالعالم. لم تكن هذه الجملة مجرد مديح أدبي، بل توصيف دقيق لجوهر الأدب الذي يكتبه إيشيغورو، والذي يجد ذروته في روايته (بقايا النهار).
نُشرت بقايا النهار عام 1989، ونالت جائزة البوكر في نفس العام. تدور أحداثها في بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وتُروى من خلال مذكرات كبير خدم يُدعى (ستيفنز) يعمل في أحد القصور الانجليزية العريقة. يشرع ستيفنز في رحلة عبّر الريف الانجليزي، يتأمل خلالها حياته الماضية، وعلاقته بمخدومه اللورد دارلينغتون، الذي يتضح لاحقاً أنه كان متعاطفاً مع النازية. لكن الرواية لا تدور فقط حول السياسة، بل حول الولاء والتفاني والقمع العاطفي. كان ستيفنز الذي عاش حياته كلها في خدمة (المثالية الانجليزية) يكتشف متأخراً أنه ضحّى بفرص الحب والصدق والحياة نفسها، بآسم الواجب. فالرواية تُعد مثالاً على الأدب الهادئ والقوي معاً، وتحقق حضورها في الوعي الإنساني من خلال صمت طاغ بين سطورها.
قوة الرواية لا تكمن في الأحداث، بل في الصمت الطويل بين السطور. إيشيغورو لا يكتب بصرخة، بل بهمسة، أبطاله غالبًا أشخاص عاديون، يعيشون على هامش الحدث التأريخي، لكنهم يحملون في داخلهم مآسي إنسانية عميقة. نجد بطل الرواية ستيفنز لا يصرّح بندمه، لكنه يترك للقارئ أن يستنتجه من التردد في كلماته، ومن الفجوات التي تكشف أكثر مما تُخفي؛ وبهذا يُمسي القارئ شريكاً في الألم، ومراقباً لصراع داخلي مرير بين الكرامة والندم.

الأسلوب والهيكل والسرد بصيغة الشخص الأول الموثوق

يستخدم إيشيغورو أسلوب الراوي الأول القصصي الممتنع. فشخصية بطله ستيفنز يبدو موقراً ومتحفظاً. ومع ذلك، فإن ما لا يقّله هو جوهر الرواية. فالصمت، والهفوات في السرد، والتبرير المستمر للواجب والكرامة، كلها تؤسّس إرثاً من الغموض السيميائي، فالقارئ هو من يتلمّس الواقع خلف الضفة الرسمية للكلمات.
إن البساطة الظاهرية والعمق الخفي، تبدو في الكلمات معتدلة، لكن كل كلمة مفّعمة بصدى الندم. فالعبارات القصيرة واللغة اليومية، تُخفي عمقاً تعبيرياً هادئاً يسكن بين الأسطر. هذا الاسلوب يُعيد ملامسة فلسفة الأثر الرمزي في الأشياء الصغيرة، فالإستيقاظ المبكر، وتناول القهوة والعناية بالمبلابس، كلها رموز للواجب والقيمة الاجتماعية، وحتى للهُوية التي تبناها بطل الرواية ستيفنز.
أما الزمن الداخلي مقابل الزمان التأريخي، فالرواية تتجاوز أحداث خمسة أيام، لتطوّق حياة ستيفنز بأكملها. إذ الزمن الراهن في الرحلة هو حقل ذاكرة يُغذي الماضي ويُعيد تشكيل آنهياراته. هذا التلاعب الزمني يخلق ما يُسمّيه النقاد (السرد البطئ) ؛ سرد لا يتسارع نحو الحدث، بل نحو التفاصيل التي تنفض الغبار عن النفس والتأريخ.

البعد السيميائي والدلالات الفلسفية

يشكل البعد الدلالي لعنوان الرواية بمستويات متعددة، (فالنهار) رمز للنور وللتقدم والعقل، بينما عبارة (بقاياه) تعني ضوءاً محتشماً نهاية يوم طويل، بل يُمكن أن تمثل باق من حياة شخص عاشها أعمى بطاعته مع سيده. الحركة في الرواية ليست نحو يوم جديد، بل نحو ما تبقى بعد رحيله عن الصفوة، والامتناع عن التعبيرعن المشاعر، وعن الأخطاء التأريخية. أما الصور البيئية والطقس في ثيمة النص، فنجد السماء الرمادية والمطر الخفيف والكثبان على جانب الطريق؛ كلها توظّف لنقل الحالة النفسية. الطقس لا يُذكر مجرد خلفية؛ بقدر ماهو مرآة نفسية، يعبّر عن كثافة الوحدة، وعن قرار بريئي، أو ربما يقع في غرام الظل. حتى الرحلة في الرواية هي ليست فقط رمزية تنقّلاً من مكان الى آخر، بل هي ضرب من أكاديمية الوعي؛ تجربة وجودية يبدأها راوي يظن نفسه في طريق طبيعي، لينتهي بإدراك قاس للفراغ، وللقدرة المحددة لديه على تغيير الماضي أو آمتلاك المستقبل.
إن قيمة الرواية الإنسانية والذاتية، رغم أن الرواية تدور في أطر إنجليزية، فأن رسالتها عالمية. فالبطل ستيفنز هو الضحية والمتحمّل، والرافض في آن واحد، إذ يُخفي وراء مجهوده الشكوك، ويُخفي وراء إخلاصه البعد السياسي، ويُخفي وراء صمته حرمانه من الحديث الصادق. وعلى هذا ، فإن الرواية تعرض سؤالاً جوهرياً : الى أيّ حد ينبغي أن يضحي الإنسان بالذات لصالح القيم المجتمعية؟ وعندما يكتشف ان هذه القيم كانت كذبة، ماذا يبقى!؟

يدفعنا الكاتب إيشيغورو الى إستخدام مرجعيات فلسفيةعدة أبرزها: اللغة والوجود، حيث يتحول ستيفنز عنده الى كائن لغوي أكثر من كونه إنساناً بين الناس، فاللغة هي العمل والعمل هو الهُوية والهُوية هي السجن. كما هو تردد الراوي العاطفي يُشبه نوبة أمّلات الوجود لدى سارتر، لكن ما جعل الرواية عميقة، ليس هو الإمتلاك الفكري للموضوع فحسب، بل الإستخدام الواقعي للعادات والتقاليد والعاطفة المنغلقة. في حين يحاكي الكاتب إشكالية مروّجات الذاكرة: هل نحن فعلاً مراقبون لحياتنا، أم خدم لها؟ هل نستعيد الماضي، أم نصنعه؟ إشارة الى ما قاله شخصية بورديو: إن الذاكرة (ترفض الحقيقة أحياناً لإبقاء الكرامة) وهو ما يبرر الإصرار على الصمت، رغم أنه جرّ الى أزمة داخلية.
ما الذي تبقى ؟
إن رواية بقايا النهار، ليست رواية لتسلية وقت، إنها تجربة إنسانية وفكرية وبعضها ما يحمل من الخفايا السياسية. وهي دعوة لأسئلة لا تهدأ: حينما يقول الكاتب: هل إيماننا بالواجب يُحسب مساوئه؟ وهل يستحق الحيوان الاجتماعي الذي نتخيّله ثمن تدمير الذاتية؟ ولماذا نبقى نبحث عن بقايا ضوءنا ونحن نمضي في ظلّ التأريخ؟
ففي النهاية، لا يستعيد البطل ستيفنز شيئاً، بل يُخرج ما بقي منه. فالرواية تدعو لمن يريد الاستماع الى صمت ضاغط بين السطور، والى النفس التي لم تختر الإنصياع، لكنها الآن تُفكّر في عواقب الإنصياع. فضلاً عن؛ فإن قراءتها تستدعي البطء في الانتقال بين الأحداث، وربطها بتجربة شخصية لرؤية ما يمكن أن يخسر الإنسان عندما يختار الإنصياع الفائق على أن يكون مستقلاً.
إن فوز إيشيغورو بجائزة نوبل، لم يكن مفاجئاً بقدر ما كان آعترافاً بتجربة أدبية متميزة. فرواياته، (لا تدعني أذهب أبداً) و(فنان من العالم الطافي) تنبش في الذاكرة وتطرح أسئلة وجودية دون أن تقدم أجوبة جاهزة. لكن روايته (بقايا النهار) تبقى عمله الأهم ، كونها تختزل كل ما يميز أسلوبه، وتشكل جوهر أدبه، أنها ليست فقط حكاية خادم نبيل، بل مرآة لكل من عاش عمراً يطارد المثاليات ثم وجد نفسه في مواجهة الحقيقة، متسائلاً: هل فات الآوان؟
كما انها تجربة ليست آنية، بل زمنية منشطرة بين ثقافتين: الشرقية التي تقدر الذّل، والغربية التي تمجّد التقدم. فالرواية ليست آحتفاء باللغة أو السلطة، بل نزع هويتها، وتأسيس للحاجز الذي يفصل الفرد عن وجدانه الشخصي.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

831 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع