قلم باندان
(انقلاب الأدوار بين المدينة وبين الريف وبطل دور المثقف الحصيف).
ليست المدينة، في منظور علم الاجتماع، هي مجرد جغرافيا أو عمران؛ بل إنها نظام رمزي وثقافي يعيد تشكيل القيم وينظم العادات وفق معايير جديدة. فالتمدن (Urbanization) يعني، كما يرى ماكس فيبر، الانتقال من البنى التقليدية إلى البنى العقلانية القائمة على القانون والبيروقراطية والنظام. ومن هنا، كانت المدينة تاريخيًا مصنعًا للحضارة، ومختبرًا للحداثة، وحاضنةً للمثقف باعتباره ضمير المجتمع وناقده.
أما المثقف، فقد شغل عبر العصور موقع "الفاعل الثقافي" بالمعنى الذي يشير إليه بيير بورديو، أي المنتج للرموز والمعاني، والضامن لانتقال المجتمع من الفعل العفوي إلى الفعل الواعي. رسالته كانت تهذيب العادات وصقل التقاليد، وتحويل ما هو موروث إلى ما هو صالح للعيش في أفق الحضارة. بهذا المعنى، كان المثقف قوة تغييرية داخل بنية العمران كما عبّر ابن خلدون، حيث ترتبط الحضارة دومًا بانتقال المجتمع من البداوة إلى الاستقرار، ومن العفوية إلى النظام.
لكن المعادلة اليوم انقلبت؛ فلم تعد المدينة مركز إشعاعٍ حضاري، بل غدت مستقبِلة لعاداتٍ دخيلة من الأطراف. وكأنّ دورة "العصبية" التي وصفها ابن خلدون قد انبعثت من جديد، حيث يفرض الريف إيقاعه على المدينة بدل أن يستلهم منها.
هذا التحول يفضي إلى ثلاث نتائج أساسية:
تراجع وظيفة المدينة: فهي لم تعد منتجة للقيم، بل رهينة لتقاليد هجينة تتغلب فيها العادة على القانون.
صعود الريف كفاعل مهيمن: لا بفضائل التكافل والبساطة، بل بأنماط سلوك لم تخضع لعملية التهذيب الحضاري.
اغتراب المثقف (Alienation) على نحو ما وصفه إميل دوركهايم حين تحدّث عن "الأنومي" (Anomie) أي حالة فقدان المعايير، حيث يغيب الضابط الجمعي، فينكمش المثقف ويكتفي بالتلقي بدل الفعل.
إن التمدن ليس واجهة عمرانية فحسب، بل هو — كما تؤكد السوسيولوجيا — نظام أخلاقي وثقافي يحدد طريقة العيش المشترك، وينظّم علاقة الفرد بالمجتمع والدولة. وإذا غاب المثقف عن لعب دوره، تضعف المناعة الفكرية للمجتمع، ويحل الفراغ القيمي محل النظام، والفوضى محل القانون.
لكن التاريخ يعلّمنا أن استعادة التوازن ممكنة. فكما يرى دوركهايم، يمكن للمجتمع أن يعيد بناء تماسكه عبر إحياء الضمير الجمعي، ولا يتم ذلك إلا بإعادة الاعتبار للمثقف باعتباره الناطق باسم الوعي العام. أما بورديو فيذكرنا أن الحقول الثقافية لا تموت، لكنها قد تُختطف مؤقتًا، وهنا يأتي دور الفاعلين لإعادة إنتاجها بمعايير جديدة.
إن مجتمعًا يتخلى عن رسالته التمدنية يغامر بفقدان هويته، ويخاطر بأن يصبح مجرد صدى لفوضى العصر. أما إذا استعاد المثقف صوته، وأدركت المدينة أن قيمها ليست ترفًا بل شرطًا للحياة، فإنها ستعود لتكون مختبر المستقبل، حيث يلتقي العقل بالتاريخ ليصنعا معًا معنىً جديدًا للتمدن.
543 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع