حين استوت السفينة ... آن للبناء أن يبدأ، وللحياة أن تُستعاد تصوير لواقع مجتمعنا المحلي بعد العودة من التهجير

إبراهيم فاضل الناصري

حين استوت السفينة... آن للبناء أن يبدأ، وللحياة أن تُستعاد تصوير لواقع مجتمعنا المحلي بعد العودة من التهجير

حين انحسر الطوفان، واستقرت السفينة على الأرض من جديد، خرج الناجون بخطى مرتبكة متعثرة، تتقدّمهم الدهشة، ويقودهم الرجاء، كأنهم وُلدوا من رحم الفناء إلى أرضٍ لم تعد كما كانت، بل كأنها خُلقت لهم من جديد. ومن هناك، من التربة التي ارتوت بالعِبرة، وامتلأت بالحكمة، ابتدأت حكاية النشور العظيم: غُرست أول بذرة، وشُيّد أول جدار، وسُطّر أول سطر في ملحمة العودة والبقاء.

إنها حكاية الإنسان حين يُمنح فرصةً ثانية؛ لا ليعيد ما فات، بل ليقيم المعنى في قلب الخراب، ويشيّد القيم على أنقاض الفقد، وينهض من الرماد بمعول الإيمان والأمل.
وهكذا يأتي حديثي عن الموضوع الذي يعنيه العنوان بالقول: لقد عدنا، نعم، عدنا بعد التهجير المرير، والتغريبة القاسية، والتشريقة القاهرة، بعد الفقد والتشظي والتشريد. عدنا إلى مدننا، إلى شوارعها، وأزقتها، وأحيائها. عدنا إلى المساجد التي كانت تحتضن مناجاتنا لربنا، وسجودنا وشكرنا، وإلى البيوت التي عشنا فيها أعمارنا. لكننا، للأسف، قد عدنا ولسنا كما كنّا. فقد استأنفنا الحياة، لكن كلٌّ على شاكلته وعالمه، وكلٌّ بما ناله من التغريبة من تشويه أو تبديل أو تبدد.
لم يخرج الناجون سعداء بما كسبوا، بل متأملين أرضًا كأنها لم تكن، وخطوا في الفراغ بخوفٍ من المجهول، يحملهم الرجاء، وتكتنفهم دهشة البعث، ووجيب العودة إلى الحياة من جديد.
وعلى ذلك، فإن التاريخ لا يعود إلى الوراء، والإنسان الذي خرج من المحنة قد عاد بمليء إرادته، ودون فرض عليه، مثقلاً بتغيرات عميقة في بنائه النفسي والاجتماعي والقيمي؛ تغيرات لم يكن ليدركها وهو في قلب العاصفة. لقد تعرّض نسيجنا الاجتماعي لزلزال صامت؛ زلزال لم يهزّ البنية التحتية وحدها، بل هزّ القيم والمبادئ، والأخلاق والعلاقات، وأنماط العيش، وسلوك المجتمعات.
فقد تآكلت الأعراف، واندثرت التقاليد، وتلاشت العادات التي كانت تحكم علاقاتنا الاجتماعية. واختل الناموس الذي كان يسري في النفوس، وذبل الحياء الذي كان يحفظ النظام الأخلاقي، وانتهكت الموانع التي كانت تردع الانحلال والفوضى والعبثية. فتفشّت في المجتمع طبائع غريبة، وأخلاقيات دخيلة، وسلوكيات مريبة لم نكن نعرفها من قبل، ولم تكن أصيلة في بيئتنا.
فطفح كيل المحافظة على الأصول، وتراجع الارتباط بالقيم، وبدأت تنبت في جسد المجتمع نباتات خبيثة، جذورها في التهاون، وأغصانها في الانحراف؛ بعضها مشين، وبعضها مهين.
وانهارت منظومة الحياة الاجتماعية التي كانت متماسكة ومتوازنة إلى حدٍّ بعيد. لم نعد بحاجة إلى كثير من المراقبة لنشهد علامات الانهيار المتفاقمة من حولنا، بل يكفينا أن ننظر حولنا: كثرت حالات الطلاق والخلع بين الأزواج، وتراجعت مكانة الأسرة كوحدة متماسكة، وتقلص الصدق والحياء في الأقوال والأفعال بين الناس، وسقطت هيبة العيب والحرام، حتى بات الحرام يُرتكب بلا خوف، والعيب يُجاهر به بلا خجل.
ظهر الكذب، والنصب، والاحتيال، والابتزاز، والانتحال، وأُحل الربا، وغُضّ النظر عن الزنا، وشاعت الفواحش. وانتشر أكل المال الحرام، وساد الغش والخداع في المعاملات، واختلت الموازين، وغاب القسط، والعدل، والإنصاف، وغلت المهور.
وهذا الانهيار الأخلاقي ليس ظاهرةً سطحيةً عابرة، بل هو انعكاس لانهيار رأس المال الاجتماعي؛ ذاك الرصيد الخفي من القيم، والثقة، والتكافل، والمسؤولية المشتركة، التي تحفظ تماسك الجماعة. فحين يفقد المجتمع حياءه ووازعه الداخلي، لا تعود الرقابة الخارجية كافية، لأن المجتمع يكون قد دخل مرحلة التحلل الأخلاقي، وهي مرحلة لا تُعالج بالوعظ وحده، بل تحتاج إلى إعادة بناء شاملة للمنظومة القيمية، من جذورها وحتى ثمارها.
إنها الجاهلية بحذافيرها تعود، ولكن برداءٍ عصري.
ومن رحم هذا الواقع المرير، ينبثق ضوء الإصلاح الحقيقي؛ لا على هيئة ارتجال أو شعارات جوفاء، بل كمشروع متكامل، يحمل في طياته تشخيصًا علميًا لجذور الأزمة، وفهمًا عميقًا للبنية النفسية والاجتماعية التي أنتجت هذه الظواهر المقلقة.
علينا أن نتوجه لا إلى ظاهر السلوك فحسب، بل إلى منابعه النفسية، والثقافية، والدينية، لنعيش إصلاحًا شاملًا يعيد للإنسان توازنه، ولمجتمعه تماسكه.
إننا بحاجة إلى إحياء المرجعيات القيمية الأصيلة، عبر تنشيط دور الأسرة كمؤسسة تربوية، وإعادة الاعتبار للمؤسسات الدينية والتعليمية، وبثّ قيم الحياء، والعيب، والنخوة، والناموس، والمروءة، التي كانت في السابق تاج رؤوسنا، قبل أن تُفرّغ من معناها أو تُسخر منها الألسن الجاهلة.
كما أن المجتمع بحاجة ماسّة إلى بناء رأس مال اجتماعي جديد، يستند إلى الثقة، والتكافل، والمسؤولية الجماعية، لأن المجتمعات لا تنهض فقط بالقوانين، بل بالقيم التي تُشكّل الضمير المشترك، والحس الجمعي، والرقابة الذاتية التي تحمي المجتمع من داخله.
لا يمكن تحقيق الإصلاح إلا من داخل المجتمع نفسه، عبر مبادرات أهلية صادقة، يقودها المصلحون من رحم الواقع؛ أولئك الذين يحملون الوجع، ويعيشون الغيرة الحقيقية، ويعرفون تفاصيل معاناة مجتمعهم، لا عبر حلول مفروضة من الخارج، ولا تصورات نظرية منفصلة عن الميدان.
إنني أوجّه ندائي إلى كل ذي بصيرة وصلاح وغيرة ، وكل من في قلبه ضمير نيّر، وكل من يخاف الله ويتألم لما آل إليه حال المجتمع.
يا حضرات الأعيان والأشياخ، يا أعمدة الأسر ووجهاءها، يا مصلحون، يا خبراء علم الاجتماع، ويا رجال الدين... لا تقفوا مكتوفي الأيدي أمام العودة الجديدة للجاهلية. لا تتركوا مجتمعكم ينزف، ولا تسمحوا للسقوط أن يصبح قدرًا محتومًا.
انهضوا، وارفعوا الصوت، وشمّروا عن سواعدكم، وابدؤوا مشروعًا حضاريًا لإصلاح ما تبقى من نسيجنا الاجتماعي، الذي بدأ يتفكك أمام أعيننا.
علّموا أبناءكم أن الرجولة ليست في بناء الأجسام داخل مراكز "الجم"، بل في الاتزان، والحشمة، والشهامة، والكرامة، والثبات، والحزم.
وأن الأنوثة ليست تبرّجًا وتزيّنًا وخلاعة، بل حياء، وعفّة، ونقاء، وصونًا للذات.
علّموا شبابكم أن الوسامة والأناقة لا تكون بالميوعة والخنوثة، بل بالمظهر الحسن، الطبيعي، النظيف.
وأن الجمال الحقيقي لا يُشترى من مراكز التجميل، بل هو جمال الخُلُق، ونقاء السريرة، وسمعة الإنسان.
نحن بحاجة إلى إعادة أنسنة المجتمع، إلى استعادة "الإنسان" في مركز "الإنسان"، لنغرس في نفوسنا الحس الأخلاقي الذي لا تضمنه القوانين وحدها، بل التربية، والقدوة، والمثال الذي يرسّخ المبادئ في الأجيال.
فالخراب الحقيقي ليس في المباني التي دمّرتها الحرب، بل في النفوس التي تصدّعت، والضمائر التي تآكلت، والمفاهيم التي تشوّهت، والعلاقات التي انفرط عقدها.
هذا المقال ليس نصيحة عابرة، ولا موعظة تقليدية، بل هو نداء من القلب، محمّل بمرارة التجربة، وثِقَل المسؤولية.
إنها صرخة غيور يرى أبناءه يكبرون في بيئة تائهة بين مفاهيم الحلال والحرام، وصوت أم تخاف على بناتها من عالم غابت فيه الخطوط الحمراء.
فيا كل من لا تزال في قلبه بقية من غيرة، وشرف، ونور... هلمّ إلى الإصلاح.
لا تنتظر اكتمال الخراب لترفع صوتك، ولا تؤجّل دورك حتى تُطفأ آخر شمعةٍ من نور الطُّهر.
كن جزءًا من مشروع النجاة لسفينة المجتمع... المشروع الذي يبدأ الآن.
لقد غاض الماء، واستوت السفينة، وحان أوان البناء والعُمران.
حان وقت إعادة بناء وطننا، ومجتمعنا، وقيمنا، بعيون مفتوحة، وقلوب نابضة بالأمل، وأيدٍ تتشابك، وأكتافٍ تتساند، لنصنع من البقاء حياةً تستحق أن تُروى.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

557 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع