أحمد العبداللّه
القرامطة .. وأحفادهم الجُدد
(القرامطة)؛حركة باطنية هدّامة, ذات جذور فارسية مجوسية، اتخذت من(التشيّع لآل البيت)ستارًا لها. وقد ظهرت على مسرح الأحداث في أواخر القرن الثالث الهجري. وتنتسب لشخص يدعى؛حمدان بن الأشعث, ولُقّب بـ(حمدان قرمط)لقصر قامته وساقيه, وهو من سكنة جنوب غرب إيران, ثم رحل إلى الكوفة(موئل الفتن). وقد اعتمدت هذه الحركة التنظيم العسكري السرّي, وتمكنوا, بسبب ضعف الدولة العباسية في بغداد, من إقامة كيان لهم في إقليم البحرين؛(وهي المنطقة الممتدة على ساحل الخليج العربي من جنوب البصرة حتى عُمان), وتمدّدوا نحو اليمن واليمامة والحجاز وأجزاء واسعة من بلاد الشام.
ويقول المؤرخ ابن الجوزي البغدادي؛(ت؛597 هجرية)في كتابه عن القرامطة؛إن دينهم الذي(ظاهره الرفض, وباطنه الكفر), أخذوه من أتباع زرادشت والمجوس والملحدين, ومن الفلاسفة المتقدمين. وهم على دين مزدك في إباحة الأموال والنساء, وإن الناس شركاء فيهما كالماء والكلأ, بحُجّة استئصال أسباب المباغضة بين الناس. ومن معتقداتهم المنحرفة, إنه؛(لا يجوز لأحد أن يحجب امرأته عن إخوانه)!!. ويذكر ابن الجوزي؛ إنهم كانوا ينشرون بين الناس؛(إن الله يمقت العرب لأنهم قتلوا الحسين، وأنه يحبّ الفرس وأتباعهم لأنهم الوحيدون الذين قاموا لنصرة حقّ الأئمة من آل البيت في الخلافة)!!.
ويضيف ابن الجوزي؛كذّب القرامطة جميع الأنبياء, ولكنهم ركّزوا على نبيّنا الكريم محمّد(صلى الله عليه وسلم)وأتباعه من العرب, ونعتوهم بـ(الطغام)!!, أي؛الأراذل. وهم يتميّزون غيضًا عليهم, إذ يقولون؛(أخذوا ممالكنا وطالت مدتهم.. والآن قد تشاغل أتباعه؛فمنهم مقبل على كسب الأموال, ومنهم على تشييد البنيان, ومنهم على الملاهي, وعلماؤهم يتلاعبون, ويكّفر بعضهم بعضا, وقد ضعفت بصائرهم. فنحن نطمع في إبطال دينهم. إلا إننا لا يمكننا محاربتهم لكثرتهم, فليس الطريق إلا إنشاء دعوة في الدين والانتماء إلى فرقة منهم, وليس فيهم فرقة أضعف عقولا من الرافضة, فندخل عليهم نذكر ظلم سلفهم الأشراف من آل نبيهم, ودفعهم حقهم, وقتلهم, وما جرى عليهم الذل لنستعين بها على إبطال دينهم)!!.
وقد حصل نوع من التحالف بين القرامطة والدولة العبيدية الناشئة في المغرب العربي قبل انتقالها لمصر, والتي وصفها الشيخ جلال الدين السيوطي بـ(الدولة العبيدية الخبيثة), وقال الذهبي عن حكامها الـ14, إنهم؛(أربعة عشر متخلفًا، لا مُستخلفا)!!. وقام ذلك التحالف الخبيث على العداء المشترك للعباسيين, وأيضًا بحكم الجذر العقائدي الذي يجمعهما.
وسعى كلاهما لتحطيم صورة العباسيين في العقل السُنّي الجمعي في أنحاء العالم الإسلامي، وإظهارهم بمظهر العاجز عن حماية أقدس أماكن المسلمين الدينية، وهو(مكة المكرمة), وتعرّضوا للحجيج والمعتمرين وقطعوا طريق الحج. وفي عام 312هـ، كانت أولى غاراتهم، إذ خرج ألف راجل وثمانمئة فارس قرمطي من البحرين وهاجموا قافلة كبيرة للمعتمرين، ضمّت آلافا من الرجال والنساء والبضائع, فذبحوا 2200 رجل و500 امرأة، وأخذوا البقية أسرى إلى هجر؛(المنطقة الشرقية من السعودية, حاليا)، ونهبوا أكثر من مليون دينار ذهبي, وهو مبلغ هائل, قوّى من شوكتهم.
وفي سنة 317 هـ / 930 م، هجم القرامطة على مكة المُكرّمة, وفي موسم الحج، وراحوا يقتلون الناس في كل مكان داخل الحرم وفي الطرقات, حتى امتلأ البيت الحرام بالجثث، فأمر أبو طاهر القرمطي أتباعه بدفن القتلى في ساحة الحرم، وإلقاء البقية في بئر زمزم. وكان عدد من قتلوهم زهاء ثلاثين ألفا من أهل مكة ومن الحجّاج, كما سبوا النساء والصبيان ونهبوا المدينة. ولم يكتفِ القرامطة بذلك، بل خلعوا باب الكعبة، وسرقوا كسوتها, كما اقتلعوا الحجر الأسود من جوف الكعبة وأخذوه إلى الأحساء, وبقي هناك لمدة(22)سنة, وعُطّلت فريضة الحج طوال هذه السنين. وبعد وساطة شاقة، ودفع أموال هائلة تسلّم العباسيون الحجر الأسود وأرجعوه لمكانه.
وكانت تلك صدمة قاسية جدًا على المسلمين, ومنتهى الذل والمهانة لهم, وهم يرون عصابة إجرامية كافرة تستبيح أشرف مقدّساتهم وتفعل به الأفاعيل, وهم قاعدون ينتظرون من الله النصرة, متناسين إنه سبحانه وتعالى لا ينصر المتقاعسين المتخاذلين الذين ركنوا للحياة الدنيا وتلوّثوا بشهواتها المحرّمة. فهناك دولة وخليفة وراية للمسلمين في بغداد, كان عليه أن يعلن النفير العام ويتصدّى لتلك الشرذمة الملحدة, ويحمي بيت الله الحرام من دنسهم وشرِّهم.
وكانت الدولة العباسية حينذاك, تمر بواحدة من أضعف مراحلها, وأهملوا كل التحذيرات التي كانت تصلهم عن خطورة القرامطة, وبأنهم؛(أحدثوا دينًا غير الإسلام، وأنهم يرون السيف على أمّة محمد)!!. ومتأخِرًا؛ قام الخليفة(المقتدر بالله), والذي كثرت في زمنه الفتن والتمرّدات, بإرسال جيش قوامه أكثر من ثمانين ألف مقاتل للقضاء على القرامطة. ولكن ذلك الجيش العرمرم مُني بهزيمة نكراء أمامهم, رغم عددهم القليل الذي لا يتجاوز(2700)مقاتل. وكانت هزيمة مذلّة للعباسيين الذين خضعوا للقرامطة, واضطروا لدفع(جزية)سنوية كبيرة تُقدّر بـ(120)ألف دينار ذهبي!!.
ومن إجرامهم وهمجيتهم الذي صبّوه على المدن الشامية, يصف المؤرخ الطبري, والذي كان معاصرًا لتلك الأحداث, جرائم القتل والحرق والسبي, إذ يقول: سار القرامطة إلى حماة ومعرّة النعمان فقتلوا أهلها، بما فيهم النساء والأطفال. ثم ساروا إلى بعلبك فقتلوا عامّة أهلها, حتى لم يبقَ منهم إلا قليلا. وفي مدينة(سلمية), قاتله أهلها ولم يمكّنوه من دخولها، ثم وادعهم وأعطاهم الأمان، ففتحوا له بابها، فدخلها، فبدأ بمن فيها من بني هاشم فقتلهم، ثم ثنّى بأهل البلدة فأبادهم أجمعين, وحتى البهائم لم تنجُ من الهلاك، ولم يترك فيها(عين تطرف)!!.
ومما رواه الطبري؛إن امرأة هاشمية من العلويين لم تَسلَم من فظائعهم, إذ تناوب على اغتصابها والمساكنة معها أربعة من القرامطة المجرمين. ولما حانت ولادتها قالت شاكية:(فأنا مُقيمة معهم أربعتهم.. والله ما أدري ممّن هو هذا الولد منهم)!!.
وفي منتصف القرن الخامس تمكّن العرب(العيونيون)مع بعض القبائل العربية الموالية للعباسيين والسلاجقة من هزيمة القرامطة ودحرهم عن إقليم الأحساء والبحرين، بعد أن استشرت فيهم أسباب الانكماش والضعف والتفكك, وارتحل الكثيرون منهم إلى إيران, حيث جاءوا منها أول مرة. وانهارت دولتهم بعد ما يقرب من قرنين ذاق الناس فيها الويلات, وارتكبوا فيها أفظع الجرائم والمذابح, وانتهكوا مقدسات المسلمين, واستباحوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم.
***
وفي القرون اللاحقة ظهرت على المسرح دول شيعية متعددة, كالبويهيّين والصفويّين, وصولا للخمينيّين حاضرا. وجميعها نسخ مستحدثة من دولة القرامطة الغابرة. واتّصفت هذه الدول بالدجل والنفاق والفساد والإجرام وتحريف عقيدة الإسلام. وكانت الظروف التي ظهرت فيها متشابهة تقريبا, وهي ضعف المسلمين وتفكّكهم, بسبب عدم تمسكهم بدينهم وعقيدتهم.
وقد كانت السنون العجاف العشرين التي أعقبت غزو العراق واحتلاله وانهيار الدولة العراقية في 2003, هي من أقسى ما مرّ على أهل السُنّة في العراق. وسبق ذلك تسلّط عصابة نصيرية قرمطية فاجرة على بلاد الشام لمدة زادت على نصف قرن. ودفع الخمينيّون الكفرة المجرمون بأوباشهم وحثالاتهم من ميليشيات القرامطة الجدد, والتي جلبوها من كل فج عميق, وشنّوا حرب إبادة طالت الملايين من المسلمين في العراق والشام, رافقها تغيير سكاني واسع لتحقيق حلمهم القديم ببعث الإمبراطورية الفارسية التي قوّضها العرب المسلمون. ولكن هيهات..هيهات, فلا كسرى بعد كسرى.
629 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع