البرنامج الانتخابي في دولة الفساد

بدري نوئيل يوسف
بقلم مواطن سرقت منه البرامج والوعود

البرنامج الانتخابي في دولة الفساد

تعريف:
موسم الانتخابات وعود على ورق في دولة الفساد، لا يختلف عن موسم التين؛ الجميع يصعد إلى الشجرة ويوزع وعودًا بطعم الحلاوة، لكن المواطن ما أن يذوقها حتى يكتشف أن التين نبت في الإسمنت لا في التراب. المرشح هنا لا يحتاج برنامجًا حقيقيًا، يكفيه بوستر ضخم وابتسامة أعرض، مع شعار غامض مثل "نبني وطنًا مزدهرًا"، وكأن الوطن ينقصه ورشة صيانة لا منظومة أخلاقية.
فالمواطن المسكين يسمع ويمضي، كمن يشاهد مسرحية مكررة مئة مرة ولا يستطيع تغيير القناة. وفي يوم الاقتراع، يستيقظ على نغمة "التغيير قادم"، لكن التغيير الوحيد هو شكل البوسترات، أما الوجوه فهي نفسها، صارت فقط أكثر خبرة في فنون الوعود. في أول أسبوع من الحملة، يوعد المرشح بالوظائف، وبالبيوت، وبالكهرباء ٢٤ ساعة. وفي الأسبوع الثاني، يوعد إن المطار الجديد سوف يربط المدينة بالعالم. وفي الأسبوع الثالث يوعد إن القمر الصناعي الوطني سوف يبثّ نشرة أخبار تقول إن كل شيء تمام. وفي الأسبوع الرابع يختفي، بعد ما يكتشف أن القمر الصناعي نفسه ما يتحمّل إشعاع الكذب. حيث الناخب المسكين يسمع ويمشي، مثل الذي يشاهد مسرحية شافها مئة مرة لكنه يقدر يغير القناة. وفي يوم الاقتراع، يصحى على نغمة التغيير قادم لكن التغيير الوحيد هو شكل البوسترات، أما الوجوه فهي نفسها فقط صارت أكثر خبرة في فنّ الوعود.
البرنامج الانتخابي في دولة الفساد: وعود بالجملة، ونتائج بالقطّارة
في دولة الفساد، موسم الانتخابات ليس حدثًا سياسيًا، بل مهرجان سنوي للضحك الجماعي. الناس تعرف النتيجة مسبقًا، لكنها تشارك من باب الفضول، مثل من يشاهد مسلسل قديم يعرف نهايته، لكنه لا يمانع أن يعيد الضحك على نفس المشهد. من أول يوم تُعلن فيه الحملة، تمتلئ الشوارع بصور المرشحين، وجوه مبتسمة، عيون حنونة، وعبارات مثل معًا نحو التغيير ومن أجل المستقبل المشرق. الغريب أن نفس الوجوه علّقت نفس الشعارات قبل أربع سنوات، لكن النتيجة كانت تغيير في الأرصدة، لا في الأوضاع. المرشح في دولة الفساد لا يحتاج برنامجًا انتخابيًا. هو يحتاج فوتوشوب جيد، وفريق تسويق بارع، وصبر على الأسئلة المزعجة. وحين يسأله أحدهم: سيدي، ما خطتكم لحل أزمة البطالة؟ يرد بثقة: سنعمل على تمكين الشباب وتوفير فرص عمل مناسبة. وإذا سأله آخر: وماذا عن أزمة الكهرباء؟ يبتسم ويقول: سنحوّل الدولة إلى طاقة نظيفة. وطبعًا لا يحدد هل يقصد بالطاقة كهرباء أم صبر المواطن!
في الأسواق، الناس تتحدث بجدية عن المرشحين، لكن دائمًا تنتهي الجلسة بنكتة. أحدهم يقول: أنا سوف أصوت للذي يوزع بطانيات، ليس لأن عندي برد، بس لأن وعده على الأقل ملموس. وآخر يرد: كلهم يوزعون، بس بعد الانتخابات يسحبونها بحجة المراجعة.
خلال الحملات، تتغيّر ملامح المدن. تُطلّى الأرصفة التي لم تُرمم منذ سنين، تُنار الشوارع ليلاً (لأول مرة منذ انقطاع الأمل)، وتظهر جمعيات خيرية فجأة لتوزّع الطعام والوعود معًا.
لكن بعد يوم الاقتراع، تختفي الجمعيات، وتنطفئ المصابيح، وتبقى الأرصفة تتساءل: أين ذهبوا؟
أما الإعلام، فهو جزء من المسرحية. الفضائيات تستضيف المرشحين لتسألهم أسئلة قوية جدًا: كيف ستنهض بالاقتصاد؟ فيجيب المرشح: بالعمل الجاد. وكيف ستكافح الفساد؟ بالنزاهة.
هل يمكن أن توضح خططك بالأرقام؟ الأرقام ليست مهمة الآن، المهم نية الإصلاح. فتصفق المذيعة بحرارة، وكأنها سمعت خطة اقتصادية تُدرّس في الجامعات. والناس، بين السخرية واليأس، لا تجد إلا النكتة ملجأ. فحين ترتفع الأسعار، يقول أحدهم: أكيد رفعوها استعدادًا للمشاريع القادمة. وحين تنقطع الكهرباء، يضحك آخر: يمكن المرشح الجديد يريد يختبر صبرنا. وفي كل مرة يُعاد فيها الوجوه ذاتها إلى مجلس النواب، يتنفس المواطن الصعداء ويقول: الحمد لله، على الأقل ما تغيّر شيء للأسوأ!
ومع ذلك، تبقى دولة الفساد ديمقراطية جدًا الكل يملك حق الكلام، بشرط ألا يسمعه أحد. والمرشحون يستمرون في وعد الناس بمستقبل أفضل، حتى صار الشعب يحلم أن يترشح هو ضد نفسه لعلّه يفوز أخيرًا بشيء. بعد الفوز، ينطلق المرشح في رحلته الوطنية من مجلس النواب إلى القصور، ومن وعود الإصلاح إلى عقود الإعمار، التي تعمر جيوبه فقط. وتبقى دولة الفساد ديمقراطية جدًا: للجميع حق الكلام، لكن لا أحد يسمع أحدًا.
مهرجان وعود ونتائج بالقطّارة مع موسم الانتخابات في دولة الفساد ليس أكثر من مهرجان سنوي للضحك الجماعي. الجميع يعرف النتائج مسبقًا، لكن يشارك من باب الفضول، كمن يعيد مشاهدة مسلسل قديم يعرف نهايته. الشوارع تمتلئ بصور المرشحين المبتسمين وشعارات مثل "معًا نحو التغيير ومن أجل المستقبل المشرق". الغريب أن ذات الوجوه والشعارات تكررت منذ أربع سنوات، لكن ما تغير هو الأرصدة البنكية، لا الأوضاع.
يوم التصويت الكاميرا لا تكذب يتحول يوم الاقتراع إلى مهرجان وطني للصور التذكارية؛ المرشح يوزع ابتسامات أمام الكاميرا، والناخب يرفع إصبعه الملوّن بفخر، كأنما يقول للعالم: "ساهمت في إعادة نفس الوجوه!"
بعد الفوز احتفالات ونسيان، تعلو حفلات النصر، ويعلن مرشح انتصار الإرادة الشعبية، ويشكر آخر من آمن بمشروعه الوطني، وثالث يتعهد بخدمة الجميع. أما الناخب فيكتشف أن إرادته الوحيدة كانت في اختيار من سينساه أول ما يدخل القصر. مجلس النواب الجديد لا يختلف عن القديم إلا بلون الكراسي. أما اللغة السياسية فهي نفسها: "نعمل لأجل المواطن، نرفض الفساد، سنحاسب المقصرين"، لكن حين يأتي وقت الحساب، الجميع في إجازة.
إدارة الفساد لا مكافحته، الفساد لا يُحارب، بل يُدار؛ يشبه المطر الذي يستظل الجميع به بدل البحث عن مظلة. والشعار الدائم: "الإصلاح يبدأ غدًا"، لكن الغد لا يأتي لأنه مشغول بترتيب أكاذيب اليوم.
الإعلام جزء من المسرحية، فالفضائيات تستضيف المرشحين وتوجه لهم أسئلة قوية: كيف ستنهض بالاقتصاد؟ فيجيب: بالعمل الجاد. كيف ستكافح الفساد؟ يرد: بالنزاهة. هل لديك خطة بالأرقام؟ يجيب: الأرقام ليست مهمة، المهم نية الإصلاح! فتصفق المذيعة بحرارة وكأنها استمعت لخطة اقتصادية تدرّس في الجامعات.
السخرية ملاذ الشعب، بين السخرية واليأس لا يجد الناس ملجأ سوى النكتة. إذا ارتفعت الأسعار، يقول أحدهم: "رفعوها استعدادًا للمشاريع القادمة." وإذا انقطعت الكهرباء، يضحك آخر: "ربما المرشح الجديد يريد اختبار صبرنا." وعندما تعود الوجوه ذاتها للبرلمان، يتنفس المواطن الصعداء: "الحمد لله، لم يتغير شيء للأسوأ!"
ديمقراطية بلا استماع، تبقى دولة الفساد ديمقراطية جدًا؛ للجميع حق الكلام بشرط ألا يسمعه أحد. والمرشحون يستمرون في وعودهم بمستقبل أفضل، حتى صار الشعب يحلم أن يترشح ضد نفسه لعلّه يفوز بشيء يوماً ما.
البيان الانتخابي الأخير لمرشّح دولة الفساد
أيها المواطنون الكرام، يا شعب الوطن الطيب الصبور، أقف أمامكم اليوم لأعلن برنامجي العظيم الذي سيغير وجه الوطن أو على الأقل سيغير وجه حسابي البنكي. أعدكم أن أعمل ليل نهار من أجلكم، ليلًا في القصور ونهارًا في المؤتمرات الصحفية. سأوفر فرص عمل لكل الشباب بشرط أن يكونوا من أقاربي أو عشيرتي الكريمة.
سأبني المدارس والمستشفيات وأجعل التعليم مجانيًا، لكن الدروس الخصوصية إلزامية. أما الكهرباء، فسأجعلها لا تنقطع أبدًا فقط عند الناس المهمين. وسأحارب الفساد بكل قوة وسأفتح ملفات كبرى بعد أن أتأكد أن اسمي ليس ضمنها. وسأحاسب كل المقصرين، خصوصًا من لم يصوت لي. وسأرفع شعار الشفافية، حتى لو اضطررت أن أعلقه على باب مكتبي فقط.
أعدكم بوطن مزدهر واقتصاد قوي ومستقبل مشرق لكن إلى أن يتحقق ذلك، لا تنسوا أن تصوتوا لي، فالأمل، مثلكم، لا يعيش بلا راتب. والنصر لنا.
في الختام يتضح أن الانتخابات في دولة الفساد ليست سوى مسرحية تتكرر فصولها كل دورة، حيث تتبدل الشعارات وتبقى الوجوه والوعود على حالها. المواطن يشارك بدافع الأمل أو السخرية، لكنه يدرك في النهاية أن التغيير الحقيقي مؤجل دائمًا إلى إشعار آخر. وبينما يستمر المهرجان الديمقراطي في توزيع الوعود، يبقى الشعب يبحث عن بصيص أمل في واقع لا يتغير إلا في تفاصيله السطحية.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الساعة حسب توقيت مدينة بغداد

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1014 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع