د.رعد العنبكي
لم تذكر سابقا ولفترة قل ماكتب عنها وهي فترة قبيل الحرب العالمية الاولى لما اوردتها فشكر لك والف شكر يااخي العزيز :
ان ذكرياتي عن بغداد في تلك الايام هي ذكريات مرة اشد مرارة من الحنظل والعلقم بعضها باهته جدا لا اتذكرها بوضوح وبعضها صارخة بقيت اثارها في نفسي حتى اليوم وبعضها سمعت عنها فانطبعت بذاكرتي
ومن هذه الذكريات كانت الايام التي تلت المشروطية ( اعلان الدستور العثماني سنة 1908 وخلع السلطان عبد الحميد الثاني )
عندما وصل من اسطنبول شعار ( حريت عدالت مساوات اخوت ) فاستبشرت بغداد واستبشر العراقيون جميعا خيرا ولكن بين عشية وضحاها وبعد تحكم حزب الاتحاد والترقي في رقاب رعايا الامبراطورية العثمانية من كافة القوميات والشعوب ادرك البغداديون والعراقيون بانهم لا يملكون حرية ولا عدالة ولا مساواة ولا اخوة فاصيبوا بخيبة امل مريرة
اتذكر بغداد في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الاولى يوم كانت في اوج ظلامها الحالك واتذكرها جيدا يوم كان كل شئ فيها بدائيا ومتاخرا وسيئا وكانها تعيش في القرون الخوالي
اتذكرها يوم كان فيها جسر واحد فقط من ( الدوب الخشبية العائمة ) واذا ما انقطع هذا الجسر وهربت الدوب الى ( كرارة ) او نزلت ( حدار ) الى البصرة انقطع الاتصال بين صوبي الكرخ والرصافة الى ان تعود ( الدوب ) من حيث هربت مصحوبة بالمزيقة وارى بغداد اليوم وفيها سبعة جسور حديدية ثابتة ومثلها عددا قيد التصميم والانشاء
اتذكرها يوم كنا نستضئ وندرس على ضوء الشمعة والقنديل والفانوس والاداره واللالة والاويزة وعند وصول الكهرباء الى شارع الجسر احتفلنا به وصرنا ندرس على ضياء مصابيح الشارع واراها اليوم وقد وصل الكهرباء الى كل بيت من بيوتها والى القرية والهور والبادية
واتذكرها يوم كان ( السقا ) يطوف ( بكربته ) يحملها على ظهره او على ظهر حماره ليزود بها البيوت بماء النهر ويؤشرعلى الحائط بباكورته حساب الدروب التي اوصلها الى كل بيت واراها اليوم وقد وصل الماء الصافي المعقم بالكلورين الى كل بيت من بيوتها وتعد قوائم الحساب بالحاسبة الالكترونية
اتذكرها يوم كان ( النزاح ) يطوف ازقة بغداد ليفرغ محتويات البلاليع والمراحيض و ( الجشمه ) في الصلوخ وينقلها على ظهور الحمير في حين لم يبق بيت من بيوت بغداد لم يريط الانابيب بشبكة المجاري ولم يدفن( السبتك تانك ) القديم وما عليه الا ان يسدد حسابها ضمن قوائم حساب الماء الصافي المعدة بالكومبيوتر
اتذكرها يوم لم يكن فيها شارع واحد مبلط او مرصوف باستثناء عكد الصخر ( شارع الجسر ) المرصوف بالصخر الجلمود الاسود واراها اليوم وقد بلطت الاف الكيلومترات في شوارعها احدث تبليط ولم يبق شارع او زقاق من ازقتها لم تمر فرق التبليط التابعة لامانة العاصمة مرة واحدة في السنة على الاقل
اتذكر بغداد يوم اصطحبت عائلتي من محلة الدنكجية الى مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني بعربة ( تكلكاتها ) مكسوة بالحديد اذ لم تكن عربات الربل واللاندون قد وصلت الى بغداد بعد وبعد سفرة استغرقت قرابة الساعة نزلت جدتي من العربانة وتنهدت من اثر التعب والمغل وقالت ( بني ادم طير ويحسد الطير ) وانا اشاهد اليوم مئات الباصات الحمراء ذوات الطابقين والتكسيات
الحديثة ذوات اللونين تطوف شوارع بغداد وتصل الى ابعد ناحية منها كما ارى في بعض شوارعها لافتات مكتوبا عليها( مترو بغداد) واخرى مكتوب عليها ( السير السريع)تعلوها جسورعبور السابلة واضوية المرور الحمراء والخضراء والكهرمانية التي تسر الناظرين وتطمئن السائقين والراكبين على سلامتهم
اتذكر بغداد يوم لم تكن فيها الا سيارة واحدة من نوع ( فورد ام اللوكية) هي سيارة الوالي خليل باشا تسير في الشارع الوحيد الصالح اسير السيارة وهو الشارع الجديد الذي فتحه الوالي لهذا الغرض
واذكر يوم كان ( الكاري ) الذي يعمل بين بغداد والكاظم اسرع واسطة نقل في بغداد يومئذ فيما ارى بغداد فيها مئات الالاف من السيارات والباصات من كافة الانواع تزخم الشوارع ولا تترك موطاء لقدم في الشارع او على الرصيف
اتذكر بغداد يوم كنا نمتطي ظهورالحمالين عندما تغدوا العكود والدرابين والطرق سواقي وانهارا وبحيرات بعد كل مطره
واشاهدها اليوم وقد بلط اضيق عكد ودربونة فيها حتى شمل التبليط ( دربونة النملة ) الواقعة خلف سينما الحمراء القديمة والبنك المركزي حاليا والمعروفة بضيقها ولا تؤدي الا الى دار واحدة تعود الى وقف عادلة خاتون
اتذكر بغداد يوم لم يكن في كل محلة من محلاتها الا بضعة اشخاص يحسنون القراءة والكتابة وفي بعض المحلات لا نجد شخصا واحدا يقراء ويكتب واراها اليوم وقد قاربت نسبة محو الامية المائة بالمائة وقد لا نجد في السنة القادمة ان شاء الله بغداديا او عراقيا لا يقراء ولا يكتب
اتذكر بغداد يوم لم تكن فيها مدرسة واحدة للبنات ويوم قل ان يشاهد بغدادية تطوف الاسواق وهي ليست مجللة بالسواد من قمة راسها حتى اخمص قدميها باستثناء المخمرات منهن كما ليس بينهن واحدة تقراء او تكتب واليوم نشاهد الاف الطالبات العراقيات يتوجهن او يغادرن كلياتهن وهن بزيهن الموحد المحتشم: الجاكيت الازرق والتنورة الرمادية او اشاهد الفتاة العراقية وهي
تجوب الاسواق والمخازن بالبلوز و (الجينز ) الازرق وحين ادخل دائرة اومحكمة او مستشفى اشاهد الموظفة وراء مكتبها والقاضية على منصتها والمحامية بروب القضاء والطبيبة بصدريتها البيضاء و(الستا سكوب ) يطوق عنقها واستبشر عندما ارى المجندات بزيهن العسكري المحتشم وهن يحملن غداراتهن ورشاشاتهن ويتدربن في ميادين التدريب
اتذكر بغداد يوم لم يكن فيها غير طبيبين اهليين مؤهلين هما الدكتور اليوناني يانقو والدكتور الايراني مرزا يعقوب، الاول يطوف على مرضاه راكبا حماره الاسود والثاني يدور عليهم راكبا فرسه البيضاء ثم جاء طبيبان تركيان هما الدكتور بلال والدكتور نظام الدين وبعد الاحتلال تقاطر الاطباء الانكليز والهنود واتذكرها يوم لم يكن فيها طبيب اسنان واحد سوى اثنين من مركبي الاسنان هما عزة بك والاوسطه ناصر واليوم ارى مئات الاطباء واطباء الاسنان يتخرجون في الجامعات العراقية والاجنبية كل عام
وبهذا اكتفي على امل تكملة المقالة في الحلقة القادمة انشاء الله تعالى
ولكم مني اطيب المنى
الدكتور
رعد العنبكي
722 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع