
أحمد العبدالله
صدّام حسين:ذبحْنا فاضل البرّاك(خطأً)!!!
يُعدُّ اللواء الدكتور فاضل البرّاك؛(1942-1992), من أبرز القيادات السياسية والأمنية والمخابراتية التي ظهرت على مسرح الأحداث في العراق, بعد عام 1968. وقد تميّز بقدرة وكفاءة قلَّ نظيرها, أهّلته لتَبَوُّؤ منصب مدير الأمن العام لمدة سبع سنوات كاملة في أصعب مرحلة مرَّ بها العراق, وهي فترة العدوان الإيراني وامتداداته داخل بلادنا. ثم تسنّم موقع رئيس جهاز المخابرات لمدة خمس سنوات حتى نهاية عام 1988, وبعدها المستشار السياسي لرئيس الجمهورية لغاية بُعيد غزو الكويت بقليل حيث تم تجميده, ثم أحيل على التقاعد أوائل عام 1991, على أثر النصيحة التي قدّمها للرئيس بالانسحاب من الكويت قبل وقوع الكارثة الكبرى. وكان المتوقع أن يتقدّم في سُلّم المناصب والمسؤوليات وفق استحقاقه, ولكنه فجأة يتم اعتقاله وتغييبه لمدة عشرة أشهر انتهت بقتله في أواخر شهر آب 1992, وملصقين به تهمة(التجسس)!!.

لقد بحثتُ منذ سنوات طويلة في هذه القضية, ويمكنني أن أستشفّ, ومتيقّنًا ممّا أقول؛ إن الدكتور فاضل البرّاك بريء تمامًا من تهمة(التجسس)المزعومة. ومنطقيا إن شخصية كالبرّاك؛ معتدّ بذاته وبنى نفسه بنفسه ويحمل شهادة أكاديمية عليا حقيقية, وليست مثل(شهادات)سبعاوي وعبد حمود, مثلا, ومعها رتبة عسكرية متقدّمة وحقيقية أيضا, وليست على غرار(رُتب)علي حسن مجيد وحسين كامل, مثلا. وهو الأكثر ثقافة بين قيادات البعث بلا منازع, يضاف لذلك علاقاته الواسعة التي أسّسها مع العديد من القادة العرب والأجانب, وسيرته الحسنة ضمن تنظيمات حزب البعث, فهو من رعيله الاول, إذ انتمى للحزب منذ عام 1957. فمن المستحيل لشخص بهذه المواصفات أن ينحدر لدرك العمالة, ويستسيغ أن يضع نفسه في خدمة مخابرات أجنبية تشغّله كالعبد المملوك.

كما إن الجاسوس أو العميل يبغي من عمالته؛المال أو السلطة, أو كليهما, والبرّاك كان زاهدًا فيهما. فبعد أن قتلوه, دقّقوا في ممتلكاته؛ فلم يجدوا لديه سوى بيت في منطقة اليرموك حصل عليه قبل عام 1968, بصفته ضابطا في الجيش العراقي, ومزرعة في الدورة وأخرى في التاجي, وسيارة واحدة, ومبلغ نصف مليون دينار عراقي مودع في أحد المصارف, إضافة للبيت الذي يسكنه في المنصور, والذي اشترى أرضه وابتناه واتخذه سكنًا في عام 1986.
أما السلطة؛ فقد كان فيها أكثر زُهدًا, فلم يُعرف عنه روح التآمر أو التسلّق للمنصب الأعلى, مع امتلاكه لكل المواصفات التي تجعله جديرًا بأيّ منصب. ففي عام 1986, فاز بعضوية قيادة قطر العراق بالانتخاب ولكنه تنازل مختارًا لعلي حسن المجيد الذي جاء خلفه. وحتى اللجنة التي شكّلوها للانتقام منه وليس للتحقيق, فشلت فشلا ذريعا في إثبات أي من تلك التهم. لقد كان الدكتور فاضل البرّاك رجلا نزيها وصريحا ومثقفا, لا يداهن ولا يتملّق, وعفيف اليد واللسان, وشجاعا في قول الحق. وقد وصفه صديقه المقرّب الفريق نزار الخزرجي بقوله؛(إنه أنبل وأكثر الناس وطنية, وإن موضوع اتهامه بالتجسس هو كلام غير مقبول).
وهناك شهادة مهمة بهذا الصدد لمعاون مدير جهاز المخابرات؛(1997-2000),اللواء خليل إبراهيم عبدالله سلطان؛ نشرتها مجلة الصوت بعددها 138 في حزيران 2019, يقول فيها؛عندما تسلّمت مهام منصبي, طلبت اضبارة قضية فاضل البرّاك؛(الذي لا أشعر إزاءه بالودّ)!!. وبعد أن اطلعت عليها لم أعثر على دليل واحد يشير لضلوع البرّاك في أي(عملية تجسس). وإن القضية برمّتها كانت تصفية حسابات بين إخوة الرئيس صدّام وفاضل البرّاك لكون العلاقة بينهم سيئة.

ومن خلال ما تقدّم, أقول؛ إن رجلا بهذه المواصفات, بات يخشاه النظام خصوصا بعد كارثة الكويت والهزيمة المُذلّة التي تمخضت عنها. فالنظام بعد تلك الكارثة صار كالذئب الجريح, ومستعد للفتك بأي شخص يظنه قد يشكّل تهديدا له. وكان البرّاك لا يخفي تذمّره وانتقاده لسياسات الحكم الذي زجَّ بالبلاد في تلك التهلكة بلا مبرر, وكانت الوشايات تترى عنه وتصل لرأس النظام. وقد اعتاد(نظام صدّام)على إلصاق تهمة(التجسس والتآمر)بكل من يعارضه أو لا يتفق مع سياسته!!.
ومع سوء علاقاته مع معظم حاشية الرئيس والمقرّبين منه, وخاصة سبعاوي وبرزان وحسين كامل وعبد احمود, والذين يكنّون له الحقد والبغض الشديدين, حسدًا بالدرجة الأساس. كما إن الدكتور البرّاك كان يحتقرهم ولا يرى فيهم الحد الأدنى من متطلبات رجال دولة, فهم؛ جهلاء.. متخلّفون.. حاقدون, ولديهم عقدة النقص. ففي هكذا أجواء فاسدة وملغومة, يغدو إنهاء حياته مفروغًا منه, في نظام لسان حاله, يقول؛(من قال برأسه هكذا.. قلنا بسيفنا هكذا)!!.

ويروي الفريق نزار الخزرجي في كتابه(الأزمة.. مذكرات مقاتل), والذي صدر سنة 2024, إنه خلال وجوده في إسبانيا عام 1999, وذلك بعد هروبه من العراق في سنة 1996, التقى بأحد أصدقائه من البعثيّين القدامى والذي نقل له رواية عن أحد معارفه وهو صاحب معمل ألبان السماوي, والذي اعتقل مع الدكتور فاضل البرّاك عام 1991, وأفرج عنه في عام 1993, وكانت زنزانته مقابلة لزنزانة البرّاك في سجن المخابرات, وكان جماعة التحقيق يأخذون البرّاك صباح كل يوم ويعيدونه مساءًا محمولا على بطانية ويلقونه في الزنزانة, ليقضي الليل وهو يئن ويتأوّه من آثار التعذيب وقسوته.
وأعتقد إن(مشكلة)فاضل البرّاك, هي عمله في الزمان والمكان الخاطئين. فلو توافرت لهذه الكفاءة النادرة الفرصة للعمل في ظل نظام آخر؛(العراق الملكي, مثلا), لكان له شأناً آخر, وقد وصفه الفريق الخزرجي, في كتابه الذي أشرت إليه؛(إنه أفضل من أدار جهازي الأمن والمخابرات, وأنه يمتلك ذاكرة مدهشة).
ولكن سوء حظه جعله يعمل في غابة من الذئاب المتربصة, والتي لا تجيد سوى الكيد والوشاية وحياكة الدسائس للإيقاع بكل من يقف في طريقها. لأن شخصية كالبرّاك, بالصفات التي ذكرتها, يعرّيهم ويكشف خواءهم. والحل, من وجهة نظرهم, هو التضييق عليه وتشويه سمعته ثم سحقه. فالذي حصل للدكتور فاضل البرّاك في زنزانته وطريقة قتله*, بعد كل الذي قدّمه للعراق, وبشهادة الرئيس صدّام حسين نفسه, هو شيء مُخزٍ ومُخجل, ولا يحصل مثله حتى في عصابات المافيا!!.

وفي أواخر شهر آب 1992, تم إبلاغ الضابط في جهاز المخابرات؛(أنور إبراهيم), وهو من أقارب الدكتور فاضل البرّاك, بالذهاب إلى سجن أبي غريب لاستلام جثته, مع توصية صارمة بدفنه سرًّا وبلا أية مراسم للعزاء. وكانت علامات التعذيب ظاهرة على الجثة, مع أثر طلق ناري واحد في الجبهة, يُعتقد بأنه من مسدس(سبعاوي)نفسه, والذي كان الأداة المنفذة لهذه المسرحية البائسة. وقد وُري جثمانه الثرى في مقبرة تكريت في ليلة ظلماء, وبحضور عدد قليل من أقاربه. وكان حين وفاته في الخمسين من عمره, تاركًا وراءه خمسة أولاد؛ أكبرهم سِنّه 15 عامًا. مع خمسة كتب منشورة وغيرها مخطوطة, وتاريخ مشرّف.

في الدول التي لديها أدنى تقدير لتاريخها ورجالها, يتم الإشادة وتمجيد وتكريم قادتها المخلصين وأبطالها المضحّين. ولكن في العراق الأمر مختلف, فيتم تشويه سمعتهم والتنكيل بهم وقتلهم أو تشريدهم, لمجرد الشك بولائهم, أو إنهم أبدوا رأيًا لا ينسجم مع رأي(القائد الملهم)!!.
وإن ما حصل بعد سنة 1990 بشكل خاص, هو(عملية تجريف)للبلاد من كفاءاتها وأعمدتها وشخصياتها القيادية, وكان ذلك سببا أساسيًّا في المآل الذي آلَ إليه العراق, والذي انتهى بالغزو والاحتلال والتفكك. فقد خلت الساحة من أهل الخبرة والمخلصين, فمن لم يتم تصفيته, فقد فرَّ بجلده, أو انزوى, ولم يتبقَ في النهاية سوى الانتهازيين والمنافقين.

وهكذا قضى الدكتور فاضل البرّاك نحبه, والتحق بمن سبقه من رجالات العراق, أمثال؛ فيصل الأول, وجعفر العسكري, وياسين الهاشمي, وفيصل الثاني, ونوري السعيد, وسعيد قزاز, وناظم الطبقجلي, ورفعت الحاج سري, وعبد الكريم قاسم, وعبد السلام عارف, ورشيد مصلح, وطاهر يحيى, وحردان عبد الغفار التكريتي, وحماد شهاب, وصلاح القاضي, ورياض إبراهيم حسين, وأحمد حسن البكر, وعدنان خيرالله, وثابت سلطان, وراجي التكريتي, وصولًا لصدّام حسين نفسه. والقائمة طويلة ودولاب الموت سائر بلا توقف, وكثيرًا ما يحدث تبادل للأدوار بين الضحية والجلاد!!.

فيا لسوء حظ هذا العراق؛ الذي لا يعرف أهله سوى لغة الدم والرصاص, والثأر والانتقام.. وغدًا عند الله الواحد الأحد, تجتمع الخصوم. وإنا لله, وإنّا إليه راجعون. ولا حول ولا قوة إلّا بالله العظيم.
....................................
* لا يمكن أن نطلق وصف(إعدام)على تلك العملية, لان الإعدام يقتضي وجود محكمة وقضاة وقرار حكم حتى لو كانت محكمة خاصة, أو بأيِّ وصف. وفي رواية نقلها الدكتور حميد عبدالله في برنامجه(تلك الأيام)؛إن صدّام حسين تحدّث لشخص(لم يسمّه), التقاه لساعات في المعتقل الأمريكي, وسأله من ضمن ما سأله عن قضية مقتل فاضل البرّاك, فكان جواب صدّام حسين بالنصّ؛(ذُبِح خطأً)!!!.
***************************************
فاضل البرّاك ، نزار الخزرجي، صدّام حسين.. وغزو الكويت
https://www.algardenia.com/video-2/68430-2025-08-01-12-57-16.html

1029 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع