قد يستغرب أحدٌ قبولي لهذا العنوان في قضية هي من أوغل القضايا مساسا وأثرا في حياتنا وأمننا ومستقبل أجيالنا. لكن أقرُّ بداية بأنني فعلا خجل من عنوان كهذا ؛ غير انه - وعلى أية حال – مصطلح ليس من عندي؛ بل له استعمالات في اللغة الإنكليزية يستعمله القوم هناك للتدليل على انحطاط ( الأشياء ) فيعملون على فضحها وإنزالها منزلتها كي يفهم الناس رسالتهم بتعابير مختصرة.
ثم أعود وأسأل هل في هذا العنوان ثمة خجل فعلا.
فيما مضى كانت مواخير الليل وسماسرة الجسد والقوادين والفاجرات لهم أماكنهم ولهم روادهم، وكانت مجتمعاتنا في حصانة منهم وهم يعرفون منزلتهم وحدودهم. لكن حين يتحول هؤلاء إلى قدوات للمجتمعات وقادة ومتنفذين في وسائل الإعلام والثقافة والسياسة والاقتصاد، ويدخلون إلى بيوتنا عبر شاشات التلفاز ومنافذ ( الفن الرذيل ) والفجور ويصبح حضورهم شيئا مألوفا. ويخرجون على الناس بألوانهم وخلاعتهم ووقاحتهم ألفاظهم ليفتون في أمور عليا تخص الدين والمراة والطفل والثقافة والحريات؛ بينما يغيّب عن هذا الأصلاء والعلماء والمختصون قسرا وتجاهلا. فهذا يا سادة تطبيع على الرذيلة.
لذلك سأستخدم هنا اللفظة المناسبة في مكانها فأقول: Prostitution of knowledge وربما يسأل مَن لا يعرف دلالة اللفظة، فاختصر له الكلام بأنها تعني: تقحيب المعرفة؛ أو الثقافة. ألا ترون معي أن الحاصل هو فعلا تقحيبا للثقافة والمعرفة وخصوصا حين يسوّد مثل هؤلاء علينا ويمسخون ثقافة أبنائنا وينفق عليهم من أموالنا ما لا حصر له. وشبابنا التائه الخامل يصفق لهم، ويحشد الحشود ويكللهم بالتبجيل والتهليل.
وما دم هؤلاء لا يستحون وهم ينشرون العار وتفاهة الذوق وترخيص الجسد؛ فلما استحي وأنا من هذا العنوان وانا أدافع عن الفضيلة؛ وعن اخلاقيات الثقافة والفن
كتبت الروائية الشهيرة أحلام مستغانمي مقالا يختصر ما اريد ان أقوله. وهو كلام يجبر كل انسان عاقل غيور على احترام حساسيتها وشعورها ووطنيتها
تقول تحت عنوان:
دافعوا عن أوطانكم.. دافعوا عن وطن هيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم...
وصلتُ إلى بيروت في بداية التسعينات، في توقيت وصول الشاب خالد إلى النجوميّة العالميّة. أُغنية واحدة قذفت به إلى المجد• كانت أغنية "دي دي واه" شاغلة الناس ليلاً ونهاراً. على موسيقاها تُقام الأعراس، وتُقدَّم عروض الأزياء، وعلى إيقاعها ترقص بيروت ليلاً، وتذهب إلى مشاغلها صباحاً.
كنت قادمة لتوِّي من باريس، وفي حوزتي مخطوط "الجسد"، أربعمائة صفحة قضيت أربع سنوات في نحتها جملة جملة، محاوِلة ما استطعت تضمينها نصف قرن من التاريخ النضالي للجزائر، إنقاذاً لماضينا، ورغبة في تعريف العالم العربي إلى أمجادنا وأوجاعنا.لكنني ما كنت أُعلن عن هويتي إلاّ ويُجاملني أحدهم قائلاً: "آه.. أنتِ من بلاد الشاب خالد!"، واجداً في هذا الرجل الذي يضع قرطاً في أذنه، ويظهر في التلفزيون الفرنسي برفقة كلبه، ولا جواب له عن أي سؤال سوى الضحك الغبيّ، قرابة بمواجعي. وفوراً يصبح السؤال، ما معنى عِبَارة "دي دي واه"؟ وعندما أعترف بعدم فهمي أنا أيضاً معناها، يتحسَّر سائلي على قَدَر الجزائر، التي بسبب الاستعمار لا تفهم اللغة العربية!
وبعد أن أتعبني الجواب عن "فزّورة" (دي دي واه)، وقضيت زمناً طويلاً أعتذر للأصدقاء والغرباء وسائقي التاكسي، وعامل محطة البنزين المصري، ومصففة شعري عن جهلي وأُميتي، قررت ألاّ أفصح عن هويتي الجزائرية، كي أرتاح.
لم يحزنّي أن مطرباً بكلمتين، أو بالأحرى بأغنية من حرفين، حقق مجداً ومكاسب، لا يحققها أي كاتب عربي نذر عمره للكلمات، بقدر ما أحزنني أنني جئت المشرق في الزمن الخطأ.
ففي الخمسينات، كان الجزائري يُنسبُ إلى بلد الأمير عبد القادر، وفي الستينات إلى جميلة بو حيرد، وفي السبعينات إلى بلد هواري بومدين والمليون شهيد ... اليوم يُنسب العربي والمسلم إلى مطربيه، وإلى الْمُغنِّي الذي يمثله في "ستار أكاديمي" ... وهكذا، حتى وقت قريب، كنت أتلقّى المدح كجزائرية من قِبَل الذين أحبُّوا الفتاة التي مثلت الجزائر في "ستار أكاديمي"، وأُواسَى نيابة عنها .... هذا عندما لا يخالني البعض مغربية، ويُبدي لي تعاطفه مع صوفيا.
وقبل حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان، كنت أتابع بقهر ذات مساء، تلك الرسائل الهابطة المحبطة التي تُبث على قنوات الغناء، عندما حضرني قول "ستالين" وهو ينادي، من خلال المذياع، الشعب الروسي للمقاومة، والنازيون على أبواب موسكو، صائحاً: "دافعوا عن وطن بوشكين وتولستوي". وقلت لنفسي مازحة: لو عاودت إسرائيل اليوم اجتياح لبنان أو غزو مصر، لَمَا وجدنا أمامنا من سبيل لتعبئة الشباب واستنفار مشاعرهم الوطنية، سوى بث نداءات ورسائل على الفضائيات الغنائية، أن: دافعوا عن وطن هيفاء وهبي وإليسا ونانسي عجرم ومروى وروبي وأخواتهن .... فلا أرى أسماء غير هذه لشحذ الهمم ولمّ الحشود.
وليس واللّه في الأمر نكتة. فمنذ أربع سنوات خرج الأسير المصري محمود السواركة من المعتقلات الإسرائيلية، التي قضى فيها اثنتين وعشرين سنة، حتى استحق لقب أقدم أسير مصري، ولم يجد الرجل أحداً في انتظاره من "الجماهير" التي ناضل من أجلها، ولا استحق خبر إطلاق سراحه أكثر من مربّع في جريدة، بينما اضطر مسئولو الأمن في مطار القاهرة إلى تهريب نجم "ستار أكاديمي" محمد عطيّة بعد وقوع جرحى جرّاء تَدَافُع مئات الشبّان والشابّات.
ولقد تعرّفت إلى الغالية المناضلة الكبيرة جميلة بوحيرد في رحلة بين الجزائر وفرنسا، وكانت تسافر على الدرجة الاقتصادية، مُحمَّلة بما تحمله أُمٌّ من مؤونة غذائية لابنها الوحيد، وشعرت بالخجل، لأن مثلها لا يسافر على الدرجة الأُولى، بينما يفاخر فرخ وُلد لتوّه على بلاتوهات "ستار أكاديمي"، بأنه لا يتنقّل إلاّ بطائرة حكوميّة خاصة، وُضِعَت تحت تصرّفه، لأنه رفع اسم بلده عالياً!
ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه.. أواه.. ثمّ أواه.. مازال ثمَّة مَن يسألني عن معنى "دي دي واه"!
775 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع