أيام زمان - الجزء ٢٨- البشت
ارتبط النسيج بالتاريخ الإنساني، فقد كان مصدر حماية للإنسان، وكان أيضاً مصدرا للجمال والخصوصية الثقافية، ومرآة حقيقية للتنوع والإبداع. نشأت الحضارات في بلاد الرافدين بالقرب من نهري دجلة والفرات بين (3000 و300) ق.م، ووجود مهارات تثير الإعجاب عن الملابس وتنوعها، والتي غالبا ما نجدها على المنحوتات والفخار، وما ذكرته النصوص المسمارية، وكذلك ما عثر عليه في مقابر أور الملكية، وكلها تدل على أن الملابس كانت متنوعة، وأن صناعة النسيج كانت مزدهرة وموجودة، منذ فترة القرى الزراعية الأولى في شمال بلاد الرافدين، وقد دلت الحفريات التي قام بها علماء الآثار ، على وجود أدلة وشواهد على اقتناء ثياب مزخرفة عند الآشوريين، تحمل رموزاً، عديدة أحاطت بموضوع الملابس عند سكان وادي الرافدين، بصورة عامة والآشوريين بصورة خاصة، فبعض هذه الملابس كان من الواجب لبسها في أوقات معينة خاصة، تعطينا المنحوتات الجدارية الآشورية، فكرة مفصلة عما يخص الحياة الاجتماعية، حيث نلمح تطرز ملابس الحياة اليومية للمجتمع الملكي، وملابس الاحتفالات الدينية وملابس الصيد والحرب، وما يرتديه الملوك عند أصابتهم بالأمراض أو لطرد الأرواح الشريرة، يتكون المظهر الخارجي للملوك والآلهة ورجال الدين والحاشية الملكية من قطعتين رئيسيتين، عبارة عن قميص يتراوح بين القصر والطول، ويكون على الأغلب مزركشاً ومطرزاً بالتكوينات الزخرفية التقليدية، وتظهر هذه المشاهد في مكان آخر على رداء الملك، ولا شك في أنها تعكس التطريز على الأزياء الحقيقية، وعادة ما تظهر الآلهة الكبرى في أقراص أو مجرد رموز تحوم في الهواء، واخذ الكلدانيون بالحضارة البابلية القديمة وأضافوا إليها كثيراً، ومارسوا فن التطريز، وقد أصبحت بابل في عهد نبوخذ نصر أعظم مدينة معمورة على وجه الأرض.
انتشر فن التطريز في شتى أصقاع الأرض منذ قديم الزمان، ولاقى اهتماماً كبيراً من قبل الحرفيين والفنانين وانعكس على أعمالهم اليومية، وتتم عملية التطريز على السجاد والأثواب، والأقمشة غالية الثمن والراقية كالكتان، وينفذ التطريز على القماش بواسطة خيوط الحرير الرفيعة، ذات الألوان الزاهية ويسمى البريسم. ويمنح مرتديه أناقة ومظهراً رسمياً، وكذلك الزري الذي عبارة عن خيوط ذهبية أو فضية لمّاعة، فيطرز الزري حافات البشت بالخيوط الذهبية أو الفضية، من حول الرقبة حتى نصف القامة، كما يلف يدي البشت شريط ذهبي، أما القيطان فهو مزيج الخيوط المتدلية من جوانب البشت العليا، ويسمى الزري واحياناً بالزركشة، وهي مفردات أصلها من اللغة الفارسية، على سبيل المثال زركشة المشالح وبعض الملابس للزينة، هو نوع من أنواع التطريز وفن يقوم على غرز مزخرفة تُعمل على القماش، والتي تنتمي إلى الأزياء التقليدية القديمة، التي تعد جزءاً من التراث في الملابس، وتعد من المهن النسائية المهمة التي ظلت تمارسها النساء فترة طويلة، وحرص بعضهن على تعليمها لبناتهن، سعياً للمحافظة عليها من الاندثار، وقد لاقت حرفة صناعة الزري رواجاً كبيراً ما قبل ستينات القرن الماضي.
البشت هو عبارة عن عباءة يرتديها الرجل العربي فوق ثيابه، ويعتبر للمرأة عباءة لتغطية كامل جسمها وما يلبس من ثياب نسائية. وتم استخدام هذا الاسم في نجد والعراق على نطاق واسع ليحل بديلًا عن الكلمة العربية الفصحى وهي العباءة، في حين تقابلها لدى أهل الحجاز والشام كلمة مشلح، كما أن البشت الذي يطلق عليه العرب لفظ الرداء تم تطويره وأضيف إليه تطريز البريسم، الذي تحول لاحقًا إلى الزري الهندي المطلي بماء الذهب أو الفضة، في الأصل كان البشت يرتديه الرجل في الشتاء من قبل البدو، والآن يتم ارتداؤها فقط للمناسبات الخاصة مثل حفلات الزفاف والمهرجانات والتخرج والعيد.
يحتوي البشت على أكمام، ومع ذلك يشاهد المرء دائمًا الرجل وهو يرتدي البشت بذراع واحدة من خلال الكم بالطريقة التقليدية، بينما يتم تغليف الكم الآخر بشكل فضفاض وإدخاله في الجانب.
يعتبر البشت (العباءة الرجالية) من الأزياء العربية القديمة، وزي العراقيين في الأعياد والمناسبات، حيث تمثّل زينة ووقار للرجل، فضلاً عن أنها تراث تمتد جذوره إلى أعماق التاريخ، والتي أصبحت يوماً بعد يوم تحتل مكانة مهمة كزي شعبي في العراق.
أما في عصر الإسلام فقد عرفت العباءة كزي رسمي، تميز به أبناء البادية وسكان شبه الجزيرة العربية، وذكرت بعض المصادر التأريخية أن الرسول (ص) كان يرتدي العباءة، والمعروفة في ذلك الوقت باسم (البردة)، وهي قماش من الصوف الخشن ذات لون مائل الى السمرة ويكون مخططاً.
تصنع العباءة من (صوف) الأغنام فبعد (جز) الصوف يحال الى مرحلة التنظيف لتخليصه من الشوائب والأوساخ العالقة به، ثم تبدأ بعد ذلك عملية(الغزل) حيث يُبرم الصوف بواسطة مغازل خاصة ليصبح بعد ذلك خيوط رفيعة وجاهزة للحياكة، ولهذه المرحلة أناسها المهرة وأدواتها الخاصة.
ويقاس نوع الغزل على مدى (سُمك) الخيط، فكلما كان الخيط رفيعاَ، كان ذلك من المحاسن الجيدة التي تساعد برفع سعر العباءة، بعد عملية الغزل يدخل الخيط مرحلة جديدة هي مرحلة (الحياكة) بواسطة (الجومة)، حيث يُحاك الغزل بواسطتها، ليصبح عبارة عن قطعة واحدة تعرف باسم (الدرج)، وهذه المرحلة أيضا تحتاج إلى أناس مهرة ومتخصصين، وتصل فترة الحياكة وإتمام العباءة الى (خمسة عشر يوماً) تقريباً. هناك أوزان خاصة تستخدم لوزن العباءة، منها وزن (الستة دراهم)، ووزن (النصف ربع)، ووزن (الربع) وأفضل هذه الأوزان هو وزن (الست دراهم)، حيث يكون فيه (الدرج) ذو خيوط رفيعة وناعمة، ثم يأتي بعد ذلك وزن (النص ربع)، وأخيرا وزن (الربع) الذي يكون خشناً، تبدأ عملية الخياطة التي تمر بعدة مراحل، وكل مرحلة متممته لقبلها وتحتاج متمرسين، وللحياكة عدة مسميات منها (الإبرة) وهي حياكة خاصة يختص بها ويفضلها أبناء المنطقة الجنوبية، و(التحرير) ويشتهر بها أهل النجف، هو خياطة العباءة وتطريزها بخيوط خاصة من البريسم أو النايلون وتكون من نفس لون العباءة، وهناك نوع أخر من الخياطة يسمى الكليتون وهو خياطة العباءة بخيط خاص، يكون لونه اصفر يختلف عن لونها، وهو لون ذهبي يختاره البعض لإظهار جمالية التطريز، و(الكرماني) الذي يفضلها كبار السن، ويعدونها تراثا يتجدد وهي في طريقها للانقراض بسبب قلة شرائها وارتفاع أسعارها، والقسم الأخر الصناعي، الذي يدخل في حياكته الآلات الحديثة التي راج العمل بها، والتي تكون أقل كلفة وأرخص ثمن مع منظر مقبول ويرتاد عليها اغلب عامية الناس.
وقماش العباءة الصناعية يأتي على شكل أطوال من القماش الخاص، يتم التحكم به فيما بعد وحسب الطلب، وتتفاوت أسعار هذه العباءة حسب الجودة والصنع، فـ(الوبر) يصنع في معمل النجف وكربلاء أما عن (الهربد) فهو قماش إنكليزي يتم استيراده، ويأتي بشكل أطول من القماش (والسوري) كذلك يأتي بنفس الطريقة.
البشت (العباءة) يقسم إلى أربعة أنواع حسب الفصول والمناسبات الخاص، فمنها الصيفية والتي تسمى الخفيف الوزن، ومنها اليدوية (المغزل)، وأيضا (الصناعية)، العباءة التي تسمى (البهارية) والتي تلبس في الفترة الربيعية والخريفية، ويكون وزها خفيف أيضا، والنوع الثالث الذي يسمى بـ(الدگاك) ويرتديها الرجال في فترة الشتاء، ويكون وزنها أكثر من كيلوين ونصف، ويكون أغلبها صناعية لصعوبة حياكتها يدوياً.
إما من حيث المناسبات (الحزينة، المفرحة)، فهناك العديد من العباءات التي تكون مخصصة لها، منها ما تسمى بالعباءة السوداء (الخاچية)، والتي يكون صوفها أبيض ويتم صباغته باللون الأسود.
وهناك من يصنفها حسب الأماكن، حيث تسمى العباءة التي يرتديها الرجال في المنطقة الغربية، والشمالية من العراق والخليج العربي بـ (الكلبدون)، إي التي تطرز مناطق منها بخيوط اللون الأصفر الذهبي، ويكون من منشئ فرنسي وياباني. وهناك نوع يسمى أبو شهر هو عباءة شتوية يدوية الصنع، تحاك بنفس طريقة العباءة الصيفية وهي إيرانية المنشأ، تأتي على شكل(درج) كامل، يفضل في العراق وحسب الطلب، وتكون له طريقة خياطة خاصة، حيث تتم خياطته (بالحرير وبخيط البريسم) فقط.
يعتمد اسم العباءة على اسم اللون الخاص بالعباءة، وهناك ألوان كثيرة ومتعددة، منها (الأصفر، والخستاوي، والأسود، والصاجي، والأبيض). وأفضل الألوان التي يرغبها المشتري هو اللون (الأصفر والأسود).
وهناك اختلاف بين بعض التسميات في الألوان فما يعرف بالأصفر الفاتح يسمى في المنطقة الجنوبية باللون (البز وني)، وهذه الاختلافات بسيطة لا تؤثر في شيء. هناك ألوان وأصباغ خاصة بالعباءة، قد تستخدم في بعض الأحيان، ولكن المفضل هو اللون الأساسي، فالمشتري يهوى العباءة الغير مصبوغة ذات اللون الأصلي الثابت، أي لون الغزل،ـ وجميع الخيوط المستعملة في العباءة مستوردة فخيط التحرير الأول (البريسم) هو صيني الصنع ويشترى بالوزن، أما النوع الثاني وهو النايلون، فهو تركي المنشأ، أما (الكليتون) فله عدة منشأة منها، الفرنسي (أول باب) وهناك الخيط الياباني، والخيط الهندي (البكر)، وهناك تفاوت بالأسعار يعتمد على جودة الغزل ونوعية الحياكة، فأسعار العباءة الصيفية في كربلاء والنجف تباع (كدرج) من دون خياطة.
بالنسبة للبشت الرجالية اليدوية (الدرج)، يكون قياسها موحد ولكن عند الخياطة يتم التحكم بالطول فقط، يعطى الطول المناسب للمشتري، ويتم التحكم من وسط العباءة وليس من أسفلها ويجب أن ترعى الدقة بذلك، وأخذ القياسات المضبوطة، فالعباءة تحتاج العناية خاصة في اللبس وهذه مسؤولية المشتري أما عن تأثرها فهي تتأثر بالعوامل الطبيعية، كالرطوبة والماء، وهذه العوامل تتلف العباءة، ومن الممكن إرجاعها إلى سابق عهدها وبطريقة خاصة تعرف هذه الطريقة باسم (النوالة)، وهي تشبه طريقة الكوي ولكن بشكل أخر، وهذه العوامل تتأثر به العباءة (الأيسر) فقط، أما عن العباءة (الأيمن) فهي لا تتأثر بمثل هذه العوامل. والأيسر يعني به حياكة الدرج من الجهة اليسرى، ويكون الصوف المستخدم في هذا النوع من العبي، مأخوذ من (أغنام) غير خاضعة لمداراة خاصة، كأن تكون مهملة وقليلة الاهتمام بها، هذا النوع من الصوف بعد غزله يحاك باليد اليسرى وهو سريع التلف والتأثر بالرطوبة.
أما الأيمن فهو عكس ذلك، إي أن الصوف المستخدم لعمل هذه العباءة، يؤخذ من الأغنام المدللة، ذات الاهتمام الخاص، ويحاك باليد اليمنى وهو النوع المفضل والمرغوب، ولا يتأثر بأي عوامل، فكلما كان الخيط أكثر نعومة كان ذلك أفضل وأحسن.
وعادة يأتي البشت النسائي بالعديد من الألوان المحايدة والجذابة، ويتم ارتداؤه بشكل أساسي فوق الملابس الأساسية، ولا تتواجد له أي سبل أو وسائل للإغلاق سوى بعض الشرابات الصغيرة الأمامية، والتي تأتي على التقريب بمحاذاة ارتفاع الخصر.
للحديث تكملة يتبع في العدد القادم
المصدر
وكالات –تواصل اجتماعي–نشر محرري الموقع
4792 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع