عثمان محمد رؤوف شاب في الخامسة والعشرين من العمر مصلاوي ثقافة وعيشا منذ نعومة الأظفار، وجد نفسه ماشيا عصر يوم العاشر من حزيران الجاري قرب بيت أهله في محلة الدواسة المعروفة بعراقتها في تاريخ الموصل، كأنه يريد التعرف على ما يجري من حول المحلة التي اشتعلت فجأة، جلب أنتباهه جندي بملامح جنوبية أخذ من عطفة الرصيف وضعا لرشاشته المتحركة بثلاث جهات.
نظر اليه عن قرب مستغربا اصراره على البقاء في موقعه وحيدا، وجده واثقا من رشقات الرصاص التي يطلقها قليلة بين الحين والآخر وكأنه يريد المحافظة على ما تبقى من عتاده الذي ينفذ بسرعة،
ووجد في الواجهة من جهة الشارع الأخرى سيارة حمل (بيكب) يستقلها أربعة مسلحين يحاولون التقرب من موقع اطلاق النار، بهدف تدميره وفتح الشارع نحو أماكن يريدون السيطرة عليها في هذه المنطقة التجارية المعروفة، وربما النفاذ الى أخرى لا يمكن معرفتها في خضم الفوضى العارمة للرصاص.
اشتد الرمي، وتعالت الأصوات وما زال الجندي في مكانه صامدا، وما زالت الرشاشة تطلق حزما من الرصاص باتجاه السيارة المقابلة وأماكن أخرى يأتي منها بدفعات متواصلة.
وقف عثمان مترقبا، أخذته غريزة البقاء الى حافة محل مشيدة بالإسمنت ليحمي نفسه من التبادل المتقابل للرصاص، لم يفكر بترك الموقف الذي أستهواه، أراد أن يكون شاهدا على النهاية التي باتت قريبة عن مكان وقوفه عدة خطوات، مدركا أن مثل هكذا مواقف لن تتكرر في الحياة.
لقد أتعبه الوقوف وعندما هم بالجلوس معتقدا أن الظلام الذي بدأ زاحفا الى المكان سيكون كفيلا بإنهاء المشهد، سمع صرخة جاءت من مكان الجندي، ومعها توقف مفاجئ للرمي من جهته.
أثارت الصرخة في داخل عثمان مشاعر غريبة قال انه لم يحسها من قبل، دفعته دون وعي للجري باتجاه الجندي الذي هدأت حركته وتوقف رميه الذي كان متواصلا ببطء، وصله بسرعة شبهها بالبرق، لم يُعِر اهتماما للرصاص الذي بات يتطاير من فوقه، وجده نازفا من خاصرته ومن ساقٍ مزقتها اطلاقة جاءت من تلك السيارة التي تحاول التقدم مستغلة توقف اطلاق النار.
طمأنه بالقدوم لمساعدته، شجعه في أن لا يفقد وعيه، عبارات تعلمها من كثر الافلام التي يشاهدها في أمسيات العزلة وساعات منع التجوال، حاول ايقافه على ساق واحدة كانت سليمة بقوة كمن يحشد طاقته لاستخدامها مرة واحدة في العمر، فقوضت رصاصة أصابتها من الأعلى كل الآمال المعلقة على استخدامها في الاتكاء على كتفه والانسحاب سوية من المكان تفاديا للوقوع فريسة بيد المسلحين الذين تصورهم لا يرحمون، عندها غير من خطته وبدأ بسحبه من يديه بنفس القوة التي تسيرها الطاقة المستثارة مرة واحدة في العمر.
وصل حافة المحل مستفيد من قلة الرؤيا وتصاعد الدخان في المكان، اطمأن أنه والجندي عبد الحسين أصبحا خارج الرصد المباشر.
أَعنّي على حَملِك على الكتف، قالها عثمان وانطلق مسرعا في الزقاق المجاور، لا يلتفت يمينا ولا الى الشمال ولا يتوقف عند أفكار يقحمها العقل في أن المسلحين قد يتعقبونه أو يصيبونه هدفا سهلا من بعيد.
البيت في الشارع المجاور للزقاق، يصله عند اتمام السير خمسمائة متر على أقل تقدير، مسافة أحسها آلاف الكليومترات، وأحس الدقائق التي استغرقها هرولة بالحمل الثقيل ومشيا على عجل كأنها الدهر كله، لم يستطع الانتظار في الباب الرئيسية للبيت من شدة القلق، وبدلا من الطرق عليها أو على الجرس الذي لا يعمل بسبب انقطاع الكهرباء، رفسها بحذاء كاد أن يخرج من القدم بسبب غزارة العرق الذي نزل اليها من الساقين المتعبتين.
ما هذا، قال الأب الذي خدم في الجيش ضابطا لثلاثين عاما وتقاعد نهاية التسعينات.
انه جندي أصيب في موضع كان يحاول من خلاله منع تقدم المسلحين.
أشاد الأب بشهامة الابن الأصغر من بين أبناء ثلاثة أكبرهم يونس، الطبيب في المستشفى العام قائلا بلهجته المصلاوية الدارجة:
- (قلو لخوك يجي بسرعة، ويجيب معانو العدة الطبية).
- لا تتكلم بالتلفون عن أية تفاصيل. ثم أكمل القول:
- إعطوني ما عندكم من ضمادات لنوقف النزف أولا، أنه ما زال يتنفس، لنحافظ على حاله حتى مجيئ يونس من بيته، سيأتي بعد دقائق ان شاء الله.
الجرح الذي في الخاصرة نافذ يحتاج الى ثلاث غرز لخياطته بامعان، وجروح الساقين في العضل تحتاج الى تنظيف وخياطة لا تقل غرزها عن جرح الخاصرة.
كيف يجرى هذا دون بنج؟. قالها عثمان الشاب العاطفي وأضاف لا يمكن نقله الى المستشفى في هذه الفوضى وهو عسكري، ثم ان المستشفى قد تكون سقطت بيد المسلحين.
يتدخل الأب بحزمه العسكري، يأمر الأبناء لأن يمسكوا عبد الحسين الذي يحاول مقاومة الاغماء بعد انخفاض الضغط وفقدان الكثير من الدم، أشار اليهم ربط جسمه الى السرير، ومن بعده وضع قطعة مطاط في فمه ليعضها بأسنانه تخفيفا للألم، وبما يمهد الى اجراء العملية الجراحية المستعجلة.
الآن أكملنا اللازم قالها الدكتور يونس وأضاف:
- سأعطيه دواءً مضادا للالتهاب وبعض المهدئات ليتحمل الألم، وأقترح نقله الى أية وحدة عسكرية في الجانب الأيسر، لأن المسلحين اذا ما كانوا قد شاهدوا عثمان في الطريق الى تخليص عبد الحسين من قبضتهم سيفتشون المنطقة وسُيقدمونَ الجميع قرابين دون أي اعتبار لحقوق الجريح.
- سأنقله بسيارتي، لأني طبيب، واذا ما اعترضني أحد من أي جهة كانت فهوية الطب تسمح لي بالتجوال، والظرف قد يبرر نقلي له جريحا لم يجد مكانا له في المستشفى التي أخليت من الجرحى والمصابين.
أشر الى عثمان ليعطيه ملابس من عنده.
أرتال السيارات والماشين على الأقدام تعبر الجسر باتجاه الجانب الأيسر للموصل، ومعهم يونس الطبيب ومريضه الجريح.
لم يجد مكانا آمنا لتسليمه، اذ أن هذا الجانب سقط أيضا بيد المسلحين، فأدار سيارته باتجاه الحمدانية التي وصلها عند منتصف الليل.
فوضى المكان دفعته لأن يقصد المستوصف الصحي في القضاء، كتب تقريرا عن الحالة، والعملية الجراحية والأدوية التي أعطاها.
مسك عبد الحسين من يده، شد عليها بقوة قائلا:
- لقد كنت شجاعا، فأجابه ببضع كلمات خرجت واهنة من شدة الاعياء.
- كان عثمان هو الشجاع وكان الوالد ضابطا عراقيا بحق، وكنت أنت الطبيب الذي وفى بقسم أبقراط.
ودعه بقبلة على خده النادي، ودعا له أن يشفى من جرحه ويعود الى أهله في النجف الأشرف بسلام.
2889 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع