العجوز والرغبة!!
لا أحد من سكان خان العبيد , الواقع في الطرف الشمالي من محلة العزة , يعرف شيئا البتة عن ماضيه . الكل يجمع على انه أقدم سكانه . الكبار منهم يقسمون على انهم ألفوه بهذا الهزيع المتأخر من العمر. كما لو انه ولد عجوزا . يعرفون اسمه حمه كردي . وحمه باللغة الكردية يعني اسم محمد . وظلت لغته الكردية الغالبة على مفردات لهجته البغدادية. لم يزل قوي البنية . كما لو ان الزمن لم ينل الا من أديم وجهه . فبات كعجوز شمطاء , نشفت عروق وجهها من ماء الحياة .
يستيقظ عادة قبل كل السكان . فيخرج من غرفته كل صباح متوجها الى حصانه المربوط في الخان , يربت عليه بحنو . ويخيل لمن يشاهده بأنه يكلم حصانه . فيظل الحصان هادئا ولايتحرك له حتى ذيل . وما ان يبتعد حمه كردي عنه , حتى يبدأ الحصان بالحركة في مكانه .
كان "عربجيا" نشيطا , يقتصر عمله على المناطق المحيطة بحي الفضل ومحلة العزة . الا انه لم يعد يزاول مهنته بشكل منتظم . فقط ايام الجمع والاعياد والمناسبات الدينية . بالرغم من عشق البغدادي بأستخدام مثل هذه الواسطة في تنقلاته . فعربته تأخذ زاوية من الخان , كما تأخذ نصيبها من النظافة والعناية .
يقضي جل وقته في باحة الخان . يجلس امام غرفته , بعد ان يخرج سكان الخان الى اعمالهم . ويكاد ان يخلو الا من بعض العجائز النسوة والاطفال . ولا ومضة سناء في هذا الخان العتيق غير عزيزة . مخلوقة في عمر الربيع . تفيض بمفردات الشباب , كما لو كل مفرداته المثيرة , اٍجتمعت في جسدها البض . لطالما تخيلها حمه وهي تجوب الخان , بأنها عارية تماما من ثيابها .
يطارده طويلا سروالها الداخلي الابيض . وينتظر عند الظهيرة موعدها المفضل لغسل الملابس . فتفترش الارض , وتباعد بين ساقيها حول " الطشت " . فيظهر سروالها الداخلي الابيض بالكامل . هي اللحظة نفسها التي يفترش هو
الاخر الارض . ويروح ينظر اليها بعيون سافرة نهمة . أما هي فلا تعر له أهمية . ولاتتحرج من نظراته التي لاتبعد عنها اٍلا أمتار قليلة . يتجاذبان خلالها الاحاديث, وهي في جلستها شبه العارية . كما لو انها عطف منها على عجوز , لايمكن الخوف منه . فتقول في سرها "مسكين ليتفرج على راحته" .
ألفت ذلك المشهد أيما ألفة . فهي لاتقوم بعملها اليومي هذا , الا اٍذا لمحته واقفا عند باب غرفته . ينتظر هو الاخر اللحظة بهوس .
دنا منها يوما , وهو يحمل بين يده شيئا أحمر اللون , لمحته في التو وهو يخرج به من داخل غرفته , قائلا برباطة جأش .
- عزيزة لقد أشتريت لك هذا السروال الداخلي الاحمر .
في التو طالت من يده السروال قائلة بأستغراب .
- الا تعلم ياحمه ان البنات لايلبسن الا اللون الابيض .
ثم أردفت قائلة .
- لو شاهدته أمي لاعترضت أن ألبس السراويل الملونة كالمتزوجات .
وأضافت بعد أن أودعته في جيب فستانها
- شكرا كاكا .
انتظر اليوم التالي بشغف , وهو يمني النفس بمشاهدة هديته تزين قمة فخذيها . وما ان شاهدها بسروالها الابيض المعتاد , حتى تساءل بأحنجاج .
- وأين سروالي الاحمر ياعزيزة ؟
فردت متضاحكة .
- سألبسه غدا بعد أن أستحم .
يعود السكان عادة الى الخان عند العصر . أما أم عزيزة فتعود منهكة القوى عند المغرب . فهي تعمل خادمة بالمستشفى الملكي الواقع في باب المعظم , والذي يسمونه البغداديون بـ مستشفى المجيدية . وما أن يجن الليل , حتى تخرج العوائل من غرفها , تتناول العشاء في باحة الخان . ويكون عادة مؤلفا من الرز والخضروات المطبوخة . هي الوجبة الاعتيادية لسكان بغداد قاطبة عند العشاء . يتفردون بهذه العادة عن باقي شعوب الدنيا . ظلت تلازمهم الى عقود متأخرة من الزمن الماضي .
قالت عزيزة وهي تفترش الارض عند الطشت , وقد كشفت عن سروالها الاحمر الجديد .
- كاكا حمه سأقضي ليلتي هذه لوحدي
فرد بنهم وبفرح طفل
- ولم ؟
فقالت متضاحكة
- ستسافر أمي الى بعقوبة بعد ان تنهي عملها في المستشفى . , لزيارة بيت الخال.
هنا انتفضت كل غرائز العجوز حمه . وعيناه لاتفارقان سروالها الداخلي الاحمر , فيما ظل ساكنا لاينبس ببنت شفة , كمن راح يخطط لغزوة . فأستدركته عزيزة بأستغراب .
- ما بك كاكا ؟
وكمن نزلت عليه خاطرة عاجلة طفق قائلا بفرح .
- لاتطبخين اليوم ياعزيزة . سأشتري لك الليلة كبابا من مطعم صبحي بشارع الشيخ عمر .
انفرجت اسارير البنت العذراء,لم لا وهي تعشق كباب صبحي الشهير, ولاتظفر به الا في مناسبات متباعدة جدا . وردت بفرح غامر
- سنتعشى سوية وسأعمل لك الشاي .
فقال بأعتراض
- لا .. سأراقبك وانت تأكلين الكباب . أما أنا فأتناول وجبتي , بعد أن أفرغ من شرب "حلب السباع " .
في الليل .. وبعد ان أنسحب الجميع الى غرفهم , وبعد ان لسعه البرد الشديد , الذي عصف برأسه المثقل بالخمرة . تحرك بتوأدة شطر باب غرفتها . وقف طويلا امام الباب وهو يرتعش . فأختلطت عليه اسباب الرعشه . أهي من البرد القارس الذي حل بالخان ؟ . أم بسبب مايدور اللحظة في رأسه المثقل من خطوة جريئة وخطيرة مشوبة بالخوف ؟ . قرر الليلة أن ينفذها حتى لو نزلت ثلوج روسيا على الخان .
ضرب براحة يده على البااب , متوخيا الهدوء والحذر . فجاء صوت عزيزة من الداخل غنجا يغلبه النوم .. تتساءل .
- من ؟
فرد في التو واللحظة
- أنا حمه
- وماذا تريد ؟
أجابته بأستغراب دون أن تتحرك في فراشها الدافئ قليلا . فقال بصوت خافت غلبته الرعشة .
- أفتحي الباب ياعزيزة . سوف أجلب لك في الصباح "القيمر" والمربى . انتفضت من فراشها , وهرعت الى الباب تفتحه . وقبل ان تنطق بحرف , اندفع الى داخل الغرفة المظلمة . وهو يرتعش رعشات متلاحقة . لم تشعر بها ألا بعد أن أمسكته من كتفيه الهزيلين لتقول بأستغراب .
- مابك ياحمه ؟
أقتربت من اللمبة تروم اٍضاءة النور , الا انه عاجلها بضمها الى صدره بقوة , ورائحة الخمرة تفوح منه , وهو يردد بشيئ من الهذيان .
- سأشتري لك فستانا جديدا قبل العيد .
ثم دفعها الى الفراش , ورمى بجسده النحيل عليها . بينما لم تبد أحتجاجا أو محاولة ردع . سوى انها قالت بعطف .
ستموت من البرد
فرد بثورة
- لتتساقط ثلوج روسيا .
1039 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع