قصة قصيرة / المــنتـقم...
أنتقام لايجرؤ على تنفيذه, ألا رجل واحد من محلة "العزة", حي من أحياء منطقة الفضل, قديمة قدم بغداد, هو حسين الأعمى شخصية ولدت وشبت ومازالت تعيش عمرها في العزة.
عرفه الجميع بحب الناس من حوله . هو أيضا أحب الجميع.ويعرف الأخرين في التو بمجرد ان يضغط على زنده كائن من كان من سكان المحلة , فيهتف بحب ودعة " هالو خليل أوهالو محمد أو هالو طارق". ولم يحدث يوما أن أخطأ في ظنه البتة . فالمألوف أن فاقدي البصر يعرفون الاخرين من رائحتهم . أو من أصواتهم . او من دبدبات الاخرين على الارض وهم يهلون عليهم. ألا حسين الأعمى فقد تفرد عن البشرية عندما يهتدي الى الأخرين من ضغط أيديهم على زنده. هو الان في السبعين من عمره, يعيش بين الناس كما لو أنه آمن بأنه آخر الراحلين عن هذه الدنيا. لايتوقف عن الحركة رغم أن الكبر لفه . وأخذ منه كثيرا كثيرا.
توقف صبحي أمامه يتأمله بشغف رغم أن مابينهما هوة كبيرة من الثقافة والجذور , ألا أن صبحي من الشغوفين بأبناء محلته , التي عشقها وأحبها , بالرغم من أنه هجرها منذ عقود من الزمن , حيث أستقر كلاجئ في المانيا . وقد يكون القاسم المشترك بين صبحي وحسين الاعمى , أن كليهما عشق "العزة" فحسين الاعمى لم يغادرها يوما . وصبحي رغم مغادرته للوطن ألا أن الغريب في الامر, بمجرد أن ظفر بالجنسية الالمانية , حتى جعل رحلاته المكوكية الى بغداد مرتين في السنة , شبهها برحلة الشتاء والصيف . لابد ان تكون محطته الاولى "العزة" وما يحيط بها من أحياء , فيلج مايستطيع ان يلجه من أحياء قريبة او بعيدة من "العزة". هذه المرة ظفر بحسين الاعمى لأول مرة منذ أن غادر الوطن. قال له قريبه .
ـــ هل تتذكر ياصبحي حسين الاعمى؟
هنا طفق صبحي فرحا وهو يقول لقريبه
ـــــ وكيف لا أتذكره ؟ .. أتذكره منذ اليوم الاول الذي جمعنا في كتّاب الملا خليل.
فأندفع صبحي شطر حسين وضغط على زنده , ليصرخ حسين الاعمى فرحا
ــــ هالو صبحي عاش من شافك
تذكر صبحي أمرا ظل يعتمل في صدره سنوات طويلة , فقرب رأسه من أذن حسين وهو يقول متضاحكا
ــــ حسين فقط أريد أن أعرف لماذا سجنت هذه السنوات الطويلة؟.
وأردف صبحي مضيفا .
ـــ أية جريمة أقترفتها وأنت الوديع الذي لم يؤذ أحدا؟
فأرتسمت علي شفتي حسين أبتسامة عريضة , ألحقها بقهقهة خافتة ليقول بفخار.
ــــــ لقد قتلت شخصا .
لف صبحي أندهاش أيما أندهاش , مقرونا بضحكة بين تهكم وغرابة .
وأضاف حسين الاعمى قائلا .
ــــ كان شخصا غريبا حل في "العزة" لاول مرة .
وتساءل صبحي
ـــ ولم قتلته ؟
فأجاب حسين متشنجنا .
ـــ كان قد أساء الأدب معي عندما أدخل أصبعه في مؤخرتي وفر هاربا. وبحثت عنه فعرفت بأنه ساكن جديد في محلتنا , وأقتربت منه وأنا أمنيه بصداقتي وما أن أقترب مني حتى ضغطت بيدي اليمنى على عنقه , وبيدي اليسرى أخرجت سكينا كنت أخفيها تحت "دشداشتي" فغمستها بقوة في بطنه ليسقط صريعا .
ومر بخاطر صبحي في هذه اللحظة, قصة ثابت بن جابر الفهمي , وهو شاعر جاهلي من الصعاليك, لقب بتأبط شرا ,نعتته أمه بهذا اللقب بعد ان شاهدته يضع سيفه تحت أبطه , ويخرج من الدار والشرر يتطاير من عينيه, فشاع اللقب بين الناس على كل من يروم شرا. يكاد حسين الاعمى يحاكي هذا الصعلوك الجاهلي في فعلته. مع فارق ان تأبط شرا كان شاعرا وفارسا صعلوكا , وأبن "العزة" كان وديعا ولم يعرف عنه الأذى , لولا انه أنتفض لكرامته وربما وجدها أنتقاما لشرفه.
الذي يعرف حسين الأعمى من الاصدقاء واللصيقين به , يدركون بأنه بالرغم من فقدان البصيرة , ألا أنه يمتلك قدرات غير عادية في الحركة , وبعض النشاطات التي تضحك وتدخل البهجة الى كل من يشاهده. لذلك فعملية وصوله الى الشخص الذي أهانه بهذه الحركة , دليل على أنه حالة تكاد أن تكون خارقة , كحالة أنتقامه منه .
هذه هي حكاية حسين الأعمى الذي قضى سنوات ليست بقليلة في السجن . ويبدو أن حالته الصحيه من أمراض ألمت به , وحالة العمى بالنسبة لسجين , كانت وراء أطلاق سراحه , ليكون منتقما نادرا في زمن يصعب تصديق روايته , لولا أن آهالي المحلة كانوا شهودا على الحادثة.
938 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع