كانت تقام في بلدة "الخالصة"، الواقعة على مقربة من الحدود بين لبنان وفلسطين، قبل أن يحتلها الصهاينة، يوم الثلاثاء من كل أسبوع، سوقٌ شعبيَّة تباع فيها مختلف أنواع البضائع، من حبوب وثمار وبيض ودجاج ومواشٍ وأدوات الزراعة...
كان أبناء القرى والبلدات الحدودية اللبنانية والفلسطينية وكثير من أبناء المناطق البعيدة، يقصدون هذه السوق لشراء ما كانوا يحتاجون إليه، أو ليقوموا بالتبادل التجاري، أو يعقدوا صفقات تجاريَّة... كما كانت هذه السوق ملتقى يتمُّ فيه التعارف وتبادل الآراء في أمور البلاد.
وكثيراً ما كانت تعقد الصداقات في هذه السوق، وهذا ما حدث بين عدد من أبناء قرية مركبا وعدد من أبناء تلك البلدة، فقد كان أبناء قرية مركبا يأتون إلى الخالصة ليحضروا سوقها قبل يوم من موعدها، ويبيت كل منهم عند صديقٍ له، فيحضر الضيف معه بعض الهدايا، ويقوم المضيف بإكرامه كما تقضي عادات أبناء القرى العربيَّة.
ذات مرَّة، ذهب الحاج مصطفى زراقط والسيِّد عبد الله عطوي إلى الخالصة في اليوم الذي يسبق يوم السُّوق، وكلٌّ منهما يريد شراء بقرة، أو بقرتين، ونزلا عند صديق لهما، كانا ينزلان عنده عندما يأتيان إلى الخالصة، وفِّق السيِّد عبد الله إلى ما يريد في اليوم الذي وصل فيه، وعاد إلى قريته، وبقي الحاج مصطفى في ضيافة صديقه ليحضر السوق في اليوم التالي، فيشتري ما يحتاجه.
بعد سهرة قصيرة، فرشت سيدة البيت للضيف فرشة جديدة، في غرفة لاستقبال الضيوف، وذهب الجميع للنوم. غير أنها أرقت وتقلبت كثيراً في فراشها، كانت قلقة من أجل ليرتين ذهبيتين كانت قد خبأتهما في الفرشة الجديدة. وفي الصباح الباكر، وبينما كان الضيف يتهيأ للخروج إلى السوق، دخلت الغرفة مسرعة، وتفقدت ليرتيها فلم تجدهما حيث وضعتهما، فخرجت من الغرفة حزينة، وأشارت إلى زوجها بأنَّها تريد أن تتحدث إليه على انفراد، ولما أتى إليها أخبرته بما حدث، فبهت، وراح يفرك كفيه، ويعض شفته السفلى، فأشارت عليه بأن يسأل ضيفه عما إذا كان وجد الليرتين، رفض بشدة، ألحت ولمَّا واصلت إلحاحها.
لاحظ الحاج مصطفى أن أمراً ما يحدث. إذ كانا يتحدثان ويشيران إليه، فاقترب منهما وسألهما عما إذا كان هناك أمر يعنيه، تردَّدا، فاقسم عليهما بأن يخبراه، ففعلا، فابتسم وأخرج ليرتين ذهبيتين كانتا معه، وقال لهما: اطمئنا... هاتان ليرتان وجدتهما في الفراش، وكنت سأعطيهما لكما...، وخرج قاصداً قريته لأنه لم يعد يملك مالاً يشتري به ما جاء لشرائه.
دخلت المرأة إلى الغرفة التي نام فيها الضيف، وأخذت تنفض الفراش، وتلمه، وفوجئت بالليرتين تقعان أمامها. فصرخت: واجرستاه... واجرستاه... جاء زوجها يسأل عما حدث، فأخبرته بالأمر، وأرته الليرتين، فخرج يركض، ولحق بالحاج مصطفى، فناداه وهو يلهث: يا حاج، يا حاج... توقف الحاج، وهو يبسمل ويحوقل...، وسأل الرجل: ألم تأخذ ليرتيك؟ ماذا تريد بعد؟ قال الرجل: وجهي منك في الأرض...، عثرنا على ليرتينا. انفرجت أسارير الحاج، فبادره الرجل: لكن قل لي: لماذا فعلت ما فعلته؟ فقال الحاج:
- لو قلت لك لم أجدهما... ووصل بك الأمر إلى أن تفتشني وتجد الليرتين معي ماذا كان سيحدث؟ لقد أعطيتك الليرتين، وكلي ثقة بأنك ستجد ليرتيك... وبأنَّك ستعيد إليَّ ليرتي وتعتذر مني.
قال الرجل: أنا أعتذر منك فعلاً، وستبقى في ضيافتي أياماً... بل أسابيع... فصحبة الخلان أغلى من الذهب الرنَّان".
1189 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع