جميلة - قصة من مدينة الاسرار مدينة بغداد، بدأت احداثها في نهاية الدولة العثمانية /الحلقة الرابعة
كانت جميلة تعيش مع اختها فريدة في غرفة كبيرة مستطيلة الشكل تطل على الحديقة الواسعة التي تحيط بالبيت, وكان عالم فريدة صغير جدا فهي تطبخ الطعام في المطبخ الذي يقع في الجانب الخلفي للبيت والمطل على الحديقة الخلفية وترجع الى غرفتها تتمشى ببطء بظهرها المنحنى بزاوية حادة بحيث انها لا تتمكن من النظر الى الامام ونظرها فقط على الأرض و تتمدد على السرير او تجلس تصلي وكانت نادرا ما تخرج من غرفتها الا في أوقات القبَـول وحضور الضيوف ولم تكن تغادر البيت الا في الأعياد حيث تذهب الى المقبرة مع السيدة أسماء وكل الأبناء والبنات وازواجهم وابنائهم فيما بعد كانوا يزورون العمة فريدة ويقبـْلون يدها ونادرا ما كانوا يجلسون عندها ,
والشيء المميز في نشاطاتها هو يوم الخميس وهو يوم الحمام والذي كان يثير اهتمام الأطفال عندما كانت العمة فريدة تستعد للحمام منذ صباح يوم الخميس حيث تفتح ضفائر شعرها الطويل الذي كان بلون القطن الأبيض وتقوم بتحضير عدة الحمام وتضعها في حقيبة من القماش تحتوي على جيوب داخلية وتحملها من مقبضين خشبيين ملونين وقد انقرضت تلك الأنواع من الحقائب الجميلة منذ سنوات طويلة , والحمام لا يبعد عنها سوى امتار قليلة لكنها كانت تهتم بذلك اليوم بشكل خاص وعندما تعود من الحمام تعيد ضفائرها البيضاء الطويلة وتشد راسها بقطعة حرير سوداء تسمى بويمة , والبويمة كلمة تركية تعني غطاء الراس وفوق البويمة ترتدي جرغد بالجيم الفارسية المثلثة والجرغد عبارة عن قطعة قماش حريرية سوداء مربعة يتم ثنيها لتكون على شكل مثلث تتدلى من نهاياتها خيوط سوداء لماعة تنزل على جبين المرأة عندما ترتديها وتدور حول راسها وتلك الأزياء كانت لمعظم نساء العراق ولان العمة فريدة قد جاءت الى بغداد من مدينة الموصل وهي في بداية العشرينات فقد احتفظت بأزيائها الموصلية المحلية , لكن نساء بغداد لم يكن يرتدين تلك الأزياء وقد ظهرت صورهن منذ العشرينات وهن يسرحن شعورهن على الطراز التركي والاوروبي ,
وكانت العمة فريده تحتفظ بملابسها في دولاب خشبي كبير ذو بابين على كل واحدة من البابين مرأة ناصعة كانت نظيفة طول الوقت وكانت العمة فريدة تحتفظ بأمشاط خشبية متعددة الاحجام والألوان تضعها جميعا في صندوق خشبي ملون القبضة ومزخرف بأزهار حمراء وصفراء وكانت تضع الصندوق دائما قريبا منها على الرازونة التي فوق راسها والرازونة كلمة بغدادية تعني الحيز او الفراغ داخل الجدار على شكل مربع او مستطيل بمساحات واعماق مختلفة تبدأ من عشرين سنتمتر عرض وعشرة سنتمترات ارتفاع وعمق وهناك أنواع تصل الى مترين عرض ومتر عمق وكانت الروازين جزء مهم من طراز البناء القديم في بغداد في منتصف العشرينات حيث تستعمل لوضع تحف فنية في بعض الأحيان او لوحات وصور او حاجيات خاصة او مخزن ارضي او مكتبة حائط ومعظمها مفتوح والرازونة الكبيرة الحجم لها أبواب خشبية او زجاجية وكانت بعض الروازين مزخرفة او اطارها الخارجي مبني من حجر يختلف عن حجر الحائط وبأشكال مقرنصة فيظهر للناظر اليها من بعيد كانه لوحة فنية مؤطره باطار يعطيها عمق في الحائط وكانت رازونتي عمة فريدة مليئتان بالأدوية والمفاتيح والزيوت , وقد كان يوم الخميس بالنسبة للصغار فرصة ذهبية للجلوس على الأرض مقابل سرير العمة فريدة عند عودتها من الحمام وهي تقوم بتسريح شعرها بالأمشاط الملونة وعمل ضفائرها البيضاء الطويلة ثم تلبس البويمة وبعدها تلبس الجرغد وتكون عندها متعبة فلا تنزعج من وجود الأطفال الذين يتجمهرون للفرجة عليها امام سريرها الكبير الذي كان قبل نهاية الغرفة الطويلة
قرب شباك كبير يطل على الحديقة الجانبية التي تلف البيت من كل الجوانب فتصلي وتقرأ الكثير من القران الكريم الذي كانت تحفظه على ظهر قلب
وتنام بسلام على سريرها الوفير وتتغطى بلحافها القطني الجميل ذو الورود الملونة فيخرج الأطفال عند ذلك من الغرفة الطويلة ماشين على رؤوس اصابعنا مثل الابالسة مراعاة لها لعدم إيقاظها من النوم.
لقد كانت عمة فريدة لها علاقة روحية مع الصغير عمر وكان بينهما تفاهم خفي بدون استعمال الكلمات في معظم الأوقات ونادرا ما كانت تكلمه لكنه يفهم عليها واذا ما كان قريبا منها يقوم بمناولتها الأشياء التي تحتاجها بمجرد ان تنظر اليه وفي بعض الأحيان بدون ان تلتقي نظراتهما , ومن حبها الشديد له كانت تناديه كلما سمعت صوته في البيت وتعطيه من الاكل الذي تطبخه لكي يتذوق وكانت تناديه وقت المغرب وتقدم له وجبة دسمة مما طبخته لأنها لم تكن تبقي الاكل في الثلاجة لليوم التالي كعادة الناس في تلك الأيام وتطبخ يوما ً بيوم بعناية فائقة لذلك فان عمر يأكل من يد عمة فريدة عندما تنتهي من الطبخ مباشرة كنوع من تذوق الطعام وفي فترة الوجبات وفي نهاية اليوم وقت المغرب لكن تلك الوجبات لم تكن منتظمة وانما كلما مر من بيتهم المجاور الى بيت جده الشيخ احمد كمال و يدخل البيت من الحديقة الخلفية فتصطاده العمة فريده و يقوم بعملية التهام الطعام بسرعة ويغادر المطبخ راكضا وكانت جميلة تحتفظ لعمر بملعقة كبيرة الحجم تكون جاهزة ونظيفة ومعلقة على الحائط بجانب باب المطبخ من الداخل مع مجموعة الملاعق الكبيرة وفي يوم من الأيام اثار فضول عمر شكل عمة فريدة الغريب فهي تمشي منحنية الظهر وجهها الى الأرض ولا تتمكن من ان ترفع راسها الى الامام فسال عمر امه فرح ما هو عمر عمة فريدة وكيف اصبح ظهرها منحني بهذا الشكل فأجابته انها كبيرة بالسن لكنها لا تعرف عمرها بالضبط وهي اكبر من جده سنتين وهي تراها بهذا الشكل منذ ان وعت على الدنيا لغاية اليوم وأضافت ان العمة فريدة لا تكبر مثل بقية الناس فصدقها عمر وقد شطح خياله بان عمة فريدة ترجع أصولها الى سيدنا نوح عليها السلام لأنها لا تكبر مثل بقية الناس وتعيش سنوات طويلة .
لقد كان حيز جميلة الخاص دولاب ملابسها الخشبي الهندي ذو المرأة الواحدة والثلاث ابواب وسريرها المرتفع وعدد من الماصات الخشبية الصغيرة الحجم وكانت تضع تحت السرير الكثير من الأغراض بحيث انك تعتقد ان ما موجود تحت السرير من أغراض اكثر بكثير من ما موجود في دولاب ملابسها , ومكان سرير جميلة كان في بداية الغرفة المستطيلة التي تشاركها مع اختها فريدة
وبجانب السرير ماكنة خياطتها اليدوية نوع سنكر موضوعة على ماصة صغيرة مستطيلة , وماصة كلمة تركية تعني طاولة صغيرة ولهجة بغداد كان فيها الكثير من المفردات التركية والفارسية والإنكليزية قد انقرضت مع تقادم الزمن , اما سرير اختها فريدة ودولاب ملابسها كان قبل نهاية الغرفة ,
وعند الشبابيك في نهاية الغرفة كان هناك طقم لجلسة شازلون ومجموعة مقاعد مريحة والشازلون هي كلمة تركية تعني (كنبة كبيرة) وكانت تلك الشازلونة مستطيلة الشكل مريحة جدا بدون ظهر ومساند من كافة الجهات والى جوارها قلطغ كبير واسع وثقيل و قلطغ كلمة تركية أيضا وتعني الكرسي العريض المبطن ذو المساند المرتفعة , وبعد ذلك القلطغ وضعت شازلونة اخرى بظهر منحي في احدى جهاتها مسند جانبي للاتكاء عليها والجهة الأخرى بدون مسند وكانت نهاياتها الخشبية مقرنصة كالضفائر , وقماش ذلك الاثاث سميك وذو الوان غامقة جذابة قد انقرضت تلك الأنواع من الجلسات في العراق منذ زمن طويل , وفي نهاية الغرفة كان هناك ثلاث شبابيك كبيرة مرتفعة لكل واحد منها فردتين تطل على الحديقة وكان شباك واحد في وسط الحائط والاثنين الاخرين في الجانبين وبين تلك الشبابيك على الحيطان التي يبلغ سُمُكْ الواحد منها نصف متر وفي المساحة الفاصلة بين الشباكين تم تعليق سيوف الشيخ احمد كمال الفضية العديدة داخل اغمادها ومضرب البولو الخشبي الكبير والذي كان في داخل غمد خشبي أيضا
وقد كان خيالة الجيش العراقي يلعبون البولو وهم على ظهر الخيول وكل وحدة من الجيش العراقي لديها فريق بولو خاص بها ويعملون دوري للتنافس فيما بينهم وفي نهاية الحائط كان هناك سيف عربي اصغر من بقية السيوف الضخمة التي كان يستعملها الشيخ احمد كمال في حرس الشرف الملكي وشكله منحني , وكان يتم تنظيف ذلك السيف بعناية فائقة وكان حاد وشفرته لماعة وعليه كتابات بالعربية عند القبضة وعلامة في احدى جوانبه تشبه الوسم
وكان ذلك السيف المميز هدية المغفور له الملك فيصل الأول الى الشيخ العقيد احمد كمال عندما كان يعمل امرا للحرس الملكي
وعلى الزاوية البعيدة على الحائط اوسمة الشيخ احمد كمال العديدة التي تلقاها في العراق و اوسمة من الجيش العثماني واوسمة من الملوك وقادة الدول الذين زاروا العراق في فترة الحكم الملكي حيث كانت تلك التقاليد الدبلوماسية السائدة في ذلك الزمن بإكرام الملك والمقربين منه بالأوسمة والانواط , وعلى الاضلاع العريضة للشبابيك علقت مجموعة صور على الحائط واحدة فقط مع المغفور له الملك فيصل الأول وشقيقه الملك علي ملك الحجاز وشقيقه عبد الله امير شرق الأردن حين ذاك وبقية الصور كانت مع المغفور له الملك غازي الأول والأمير عبد الاله حيث عمل امر الحرس الملكي منذ تأسيس الحرس الملكي أيام المغفور له الملك فيصل الأول لغاية ان تقاعد عن العمل في زمن الملك غازي بسبب أصابته بكسر في ركبتيه عندما كان يلعب البولو وسقط من على ظهر الحصان في حادثة غامضة حيث قام احدهم بفتح سرج الحصان من الاسفل وخلال اللعب عند وقوفه على الحصان فقد توازنه وسقط السرج من تحته الى جهة اليسار نتيجة لوقوفه على تلك الجهة اثناء اللعب والسرج قد تم فتحه من الأسفل فسقط على الأرض وكان ذلك قبل اسبوعين تقريبا من حادثة وفاة الملك غازي الأول الغامضة وقد تسبب سقوط الشيخ احمد كمال من الفرس كسر في الركبتين وارتجاج في المخ تقاعد على اثره من الخدمة العسكرية , وتثمينا لجهوده فقد منحه الملك غازي راتب تقاعدي من تخصيصات الخاصة الملكية إضافة الى راتبه التقاعدي الذي يأخذه من وزارة الدفاع مدى الحياة والى ان جاء انقلاب 14 تمور 1958 انقطع ذلك الراتب وعند حصول الانقلاب لم يجرؤ احد على ابلاغ الشيخ احمد كمال بالمجزرة التي عملها الانقلابيين للعائلة الهاشمية خلال الانقلاب لكن الذي حصل في بداية شهر اب 1958 عند حلول موعد استلام المنحة الملكية (راتب تقاعدي خاص من البلاط الملكي ) وكعادته فقد ذهب الشيخ احمد كمال لاستلام الراتب الخاص من البلاط الملكي في منطقة الكسرة وما ان دخل الى إدارة الخاصة الملكية وطلب راتبه حتى اخبروه بان النظام الملكي قد انتهى وقد قتل الملك فصدم من هول المفاجأة وصرخ بهم صرخة هزت المكان وتجمهر كل من كان في البلاط بصمت حوله : لماذا قتلتم الملك؟ خرج بعدها بصمت من البلاط الملكي ولم يعود اليه في الشهر القادم والى الابد.
عندما كان الأطفال يدخلون غرفة العمة فريده وجميلة والتي كانوا يطلقون عليها الغرفة الطويلة
كانت السيوف الفضية الكبيرة المعلقة على الحائط في نهاية الغرفة تبهرهم ويأخذون وقتا طويلا يتفرجون عليها ويتصورون انها نفس السيوف التي يشاهدونها في الأفلام وكانوا يخافون ان يلمسونها لان العمة فريده كانت تراقبهم وإذا ما لمس احدهم السيوف او الصور المعلقة على الحائط فإنها تصرخ بهم وتتظاهر بالنهوض بسرعة لإخافتهم ، فيهربون من المكان وقد كانت كأنها وهي جالسة فوق سريرها حارسة السيوف فيهرب الاطفال من الغرفة بسرعة وما ان تتلقفهم جميلة وهم يمرون من امامها باتجاه باب الخروج من الغرفة حيث تجلس على سريرها تبتسم في وجوههم وتعطيهم أي شيء قريب منها كالتفاح او البرتقال او الحلويات, لقد كانت جميلة متسامحة جدا وطيبة كأنها ملاك ولم تغضب من تصرفات الاطفال طول حياتها
جميلة كانت تقوم بتصنيع مختلف أنواع التمور بطرق متعددة فكانت تعمل حلاوة التمر بالجوز من التمر الاشرسي والسمسمية وهي حلاوة شتائية بامتياز حيث تقوم بخلط السمسم مع دبس التمر وتضعه على نار هادئة مع التحريك ليتماسك وتعمل المدكوكة من التمر الزهدي مع الراشي وكانت تعمل نوع من الحلويات عجيبة التكوين وهل خليط عجينة مقلية عليها مكسرات وفي الأعلى قيمر واسمها بالتركي بامية شكر وكانت تعمل البادم وهو مبروش جوز الهند باللوز او بالعجينة رقيقة وبحجم ابهام اليد على شكل أقراص مدورة او بيضوية الشكل وتعمل المخللات بكل أنواعها الصيفية والشتائية في اواني فخار ذات الوان خضراء لامعة وتعمل الخل في زير فخار كبير ولديها ثلاثة كبار منه ارتفاع الواحد متر ونصف وكل زير مصنوع من الفخار ومطلي من الداخل بصبغ طبيعي لونه بين الأخضر والازرق ليحافظ عليه من حموضة الخل , وكانت تصنع الخل من بقايا تمر نخيل الحديقة الغير صالح للأكل وكانت تكتب تاريخ صنع الخل بالطباشير على ظهر الزير وتاريخ نضوج الخل وفي اليوم الأربعين كانت ترفع الغطاء وهو من قماش الململ الأبيض الخفيف من فوق الزير الذي يسميه البغادة حِبْ بكسر الحاء وتسكين الباء فيظهر على سطح الزير الاف من دود الخل الأبيض فتقوم بإخراجه في مصفاة كبيرة وتنظف سطح الخل كاملا ثم تنقله الى قناني زجاجية ذات لون غامق ولا احد يعرف كيف كانت تتذكر ان موعد نضج الخل في ذلك الوقت في الستينات بحيث تفتحه في اليوم المكتوب على الزير من الخارج إيذانا بنضوج الخل , وقد كان ذلك التاريخ مهم جدا لان التمر اذا ما تعدى الأربعين يوما ووضع فيه قليلا من الخمر يتحول الى خمر بعد مرور خمسة وأربعين يوما عليه , كانت غرفة عمل الخل في الحديقة الجانبية للبيت وكانت الأرضية من الطابوق الأصفر المريع وفي تلك الغرفة الصغيرة كانت هناك افعى تسكن في احد الأركان وكانت جميلة لا تخاف منها وتدخل الغرفة وتخرج منها بكل حرية وفي يوم من الأيام كان الصغير عمر مع جميلة في غرفة الخل وهي تأخذ الخل من الزير( الحِبْ ) فلفت انتباهه حركة غريبة في زاوية الغرفة البعيدة وشاهد افعى تلتف حول نفسها وتقف منتصبة الرأس تنظر الى جميلة فهرب الى خارج الغرفة وبقي يراقب خروج جميلة من الغرفة وعند خروجها سألها هل رات افعى في زاوية الغرفة البعيدة ؟ فقالت له نعم انها افعى بيت وهي تعيش هنا من سنوات طويلة وهي لا تؤذي وبعد تلك الحادثة لم يتجرأ عمر على الدخول الى غرفة الخل وحتى عندما يمر من امام باب الغرفة يركض بسرعة متوقعا ان تهاجمه تلك الافعى لكنه لم يراها ابدا ً , وبعد تلك الحادثة اخذ عمر ينتبه الى ثوب الافعى (جلد الافعى) وقد نزعته في بداية فصل الربيع كل سنة في ساقية الماء القريبة من غرفة الخل حيث شجرة التين الأسود العملاقة, وكانت جميلة تعمل الدبس ايضا من التمور الطرية جدا والتي لا يمكن اكلها وكان ذلك الدبس ذو رائحة نفاذة لا يمكن نسيانها وتقوم بطبخ التمر في قدر كبير لساعات الى ان يتكثف وينضج وتقوم جميلة بخزن الدبس في السرداب البارد الذي يقع مدخلة في صالة البيت الرئيسية وكانت تضع الدبس في علب زجاجية مغلقة الاحكام خوفا من تعرضه للماء لكي لا يتلف حاله حال التمر,
وكانت جميلة تشتري الراشي (عصير السمسم) بكميات كبيرة وفي أيام الشتاء البارد كانت تقدم بعد وجبة الغداء بطبق صغير خليط من الدبس والراشي كنوع من الحلويات وكانت تتقصد ان تخلط المزيج قليلا ليظهر لون الدبس والراسي وكانه قطعة خشبية باللون البني الغامق والفاتح , وفي فصل الشتاء كانت جميلة تعمل اكل الشتاء المميز حيث تعمل الشمندر الأحمر للسلاطة والطرشي او كحلويات وتضع مائه الأحمر في قناني زجاج للشرب
وكانت تعمل الشلغم ( اللفت ) وتسلقه مع الدبس ليأخذ لونا غامقا ورائحة مميزة وكان من الأطعمة الشتوية المفضلة ,
وكانت جميلة تعمل اللبلبي(الحمص الناشف) بشكل دائم في فصل الشتاء حيث تقوم بسلق كمية من اللحم والعظام مع اللبلبي فيصبح ذو سماكة وطعم دسم فيرفع درجة حرارة الجسم ويعالج التهاب البلعوم ويحسن الصوت ويمد الجسم بالكالسيوم وكانت تستعمل عصير النارنج في كافة اكلات الشتاء التي تعملها لإضافة الطعم الحامض ولطرد الغازات التي يسببها الطعام وطول فصل الشتاء كانت جميلة تشوي البلوط والكستناء على مدفأة الحائط التي يسميها البغادة صوبة الحائط وكلمة صوبة تعني مدفأة باللغة التركية,
وقد كان في بغداد سوق كبير للحطب الذي كان يستعمل في اشعال مدافئ الحائط والمناقل والحمامات والمناقل ( جمع منقلة ) وهي قطعة معدنية مستطيلة الشكل تقف على أربعة ارجل قصيرة يتم اشعال النار فيها خارج البيت وما ان يصبح جمر يتم ادخال المنقلة للبيت للتدفئة وتستعمل المنقلة كذلك للشواء في الهواء الطلق ويستعملها سكان البادية والارياف لعمل القهوة.
كانت أسماء زوجه الشيخ احمد كمال سيده البيت فتقوم بتوجيه الجميع منذ صلاة الفجر لإداء مهامهم اليومية وكانت بارعة في كافة اعمال البيت وتستقبل الضيوف بإتكيت واحترام ومواعيد القبول لديها ثابتة تلتزم بها
وترتدي ملابس جديدة في كل قبَول واذا صادف وكان القبَول في العيد او قريب منه فإنها تلبس ملابس العيد وملابس العيد لنساء بغداد في ذلك الزمن هو الهاشمي وهو قفطان طويل فضفاض من طبقة واحد او عدة طبقات وقماشه خفيف وبالوان جميلة وبعضه من الحرير وكانت أسماء تملك هاشمي بخيوط الذهب والأخر بخيوط الفضة وعدة اطقم من الهاشمي بالأحجار الكريمة كانت تلبسها في مناسبات خاصة وكان الهاشمي المميز لديها هو المرصع بالعقيق العسلي اللون واخر بحجر الفيروز الأزرق الفاقع اللون الذي كانت تلبسه عند استقبال ضيوف يزورون البيت لأول مرة خوفا من عيونهم التي قد تحسد اهل البيت , وكان البغادة يطلقون كلمة نَفَسْ على الحسد فالطفل المحسود يسمى طفل منفوس , وكانت اسماء تستقبل الضيوف من النساء وقد عملت شعرها ورتبته بطرق تناسب ملابسها ولم تكن ترتدي أي شيء في راسها وهي في البيت , وعندما تصلي كانت ترتدي النمازبيزي وهي قطعة خفيفة شفافة من القطن الأبيض اللون تلفها حول راسها كجزء من أزياء الصلاة على عادة النساء في ذلك الزمن , والنمازبيزي كلمة تركية مكونة من كلمتين نماز وتعني صلاة وبيزي تعني ابيض وعندما كانت السيدة أسماء تخرج من البيت كانت تلبس العباءة البغدادية وتضع بوشي تحت العباءة من مقدمة الرأس وتتدلى لتغطي كامل الوجه والبوشية قطعة حرير سوداء شفافة تغطي الوجه وهي تقليد ظهر في العصر العباسي ترتديه النساء للتفريق بينهن وبين الجواري والعبيد من النساء عندما يتجولن في الشوارع والأسواق في ذلك الزمن وقد بقيت نساء بغداد يرتدينها الى انقرضت البوشية في بغداد بداية الخمسينات , كما كانت أسماء تحل المشاكل التي تحصل في البيت بدبلوماسية وحكمة بحيث ترضي الجميع ولا يغضب منها احد وكانت تحب العمل بيدها في الحديقة الى جانب البغوان ( البستاني ).
وتقوم بزراعة الزهور وتكثيرها وخصوصا الرازقي ( الفل ) حيث كانت تقوم بتكثير ورد الرازقي بطريقة الترقيد في فصل الخريف وعندما يبدأ الربيع تفصل ورد الفل عن امه وتضعه في سندان من الفخار وتعطيه هدايا للأهل والأصدقاء في المناسبات والاعياد وتقوم بتكثير التين والورد الجوري البلدي بواسطة الأقلام
وكانت تقوم بتركيب أشجار الحمضيات وخصوصا الليمون الحلو الذي يزرع في العراق بكثرة لإنتاج نوعية افضل وحجم ثمار اكبر واكثر حلاوة وكان البغادة يزرعون الحُب في قلوب بعضهم البعض فلو استحسن ضيف نوع من التمر مثلا فان مضيفه يعمل له مفاجأة بعد اشهر بان يرسل له فسيلة نخل صغيرة من نفس فصيلة التمر التي احبها وكذلك يقدمون الهدايا من أشجار العنب والتين وغيرها من الفواكه والورد الجوري وعندما يجلسون يتسامرون يذكرون فواكه بعضهم البعض فيقولون مثلا اليوم اكلنا من نخلة فلان او اليوم اهدينا أقلام من تينة فلان الى فلان ويبقى اسم صاحب الفواكه الذي قدم تلك الهدية في البداية ملازمة للفاكهة حتى لو انتقلت بين عدة اشخاص ,
وكانت السيدة أسماء تربي البلابل في اقفاص مصنوعة من سعف النخيل وتتمتع بأصواتها الجميلة وكانت تضع اثنين من البلابل في قفصين منفصلين بحيث يغازل احدهما الاخر ولو وضعت الاثنين في قفص واحد فانهما لا يغنيان لعدم شعورهما بالشوق لبعضهما البعض وكانت تعلق البلابل في مدخل البيت حيث الحديقة الخارجية اوفي الجهة الخلفية للبيت حيث الحديقة الخلفية وفي وقت الشتاء تعلقه داخل البيت في حبل يتدلى من الطابق الثاني في الممر الواسع الذي يربط الجزء الامامي مع الجزء الخلفي للبيت ,
وكان افضل موسم لغناء البلابل هو موسم نضوج التين حيث يقوم البلبل البري ذو الخلفية الصفراء الفاقعة والذي كان منتشرا في بغداد في تلك الأيام بنقر ثمرة التين وعمل فتحة فيها ويتركها أسبوع الى أسبوعين حتى تتخمر ثم يأتي ليشرب مائها ويأكل ما تبقى منها وقد أصبحت خمرة معتقة فيسكر ويغني حتى يطرب الجميع فتسمعه بلابل السيدة أسماء التي في القفص المعلق فترد عليها وتعم الحديقة ومدخل البيت موسيقى اشبه بالمهرجان , عندها يدخل الفرح الى جميع من في البيت وخصوصا السيدة أسماء والشيخ احمد كمال وهما جالسان على كنبة مريحة في الطارمة العالية المطلة على الحديقة الامامية , وهناك مثل بغدادي على تلك الحالة وهي (مثل بلابل التينة) ويضرب المثل على السكارى عندما يفقدون الوعي ويغنون بأصوات مرتفعة دون مراعاة للآخرين , وكانت أسماء تحصل على البلابل من بساتين مدينة بعقوبة القريبة من بغداد ..
حيث كانت بعقوبة مصدرا ً رئيسيا ً لكافة أنواع الحيوانات والمحاصيل الزراعية وخصوصا الرمان والحمضيات وأنواع التمور وكان فلاحي بعقوبة وعموم مناطق نهر ديالى يتفننون في انتاج أصناف جديدة من التمور سنويا بتركيبها او تغيير الذكر الذي يلقحون به انثى النخل فينتج ثمر مختلف عن الثمر الأصلي من حيث الحجم والحلاوة واللون وفي بعض الأحيان ينتج تؤام للحبة او تمر بدون نوى او تمر بدون سكر او بطعم قريب من الحموضة وعلاقة سكان بغداد مع معظم مناطق ديالى قوية جدا ومن أمثال البغادة عندما يتشاجرون مع اشخاص اخرين من مدن أخرى يقولون "وين تروح من ايدي الله منّا وبعقوبة منّا ؟ "لاعتقادهم ان بعقوبة هي نهاية العالم".
كان فلاحي ديالى معروفين بالمزح والمقالب فكانوا يضعون ثمار البرتقال عندما تكون صغيرة في داخل قناني زجاجية شفافة ضيقة الرأس ويربطونها في الشجرة وتبقى البرتقالة تنمو داخل القنينة الزجاجية الى ان تنضج وتكبر فيقطعون الغصن من الأعلى فتظهر برتقال كبيرة الحجم في داخل قنينة ذات راس وعنق صغير يتدلى منها غصن طويل خارج القنينة فيتعجب الناس من كيفية ادخال تلك البرتقالة الكبيرة في داخل القنينة ذات الفتحة الصغيرة والعنق الرفيع ويبيع الفلاحين تلك البرتقالة وهي داخل الزجاجة بحجمها الكبير بأضعاف سعرها الأصلي وتستعمل كنوع من زينة فصل الخريف , وكان فلاحي ديالى يقومون بجفر البرتقال نهاية الصيف كي يستعملونها في الشتاء عندما لم تكن هناك وسائل تبريد , والجفر هو دفن البرتقال تحت الأرض في مناطق رملية جافة وتحت الظل مع كمية من الرماد ,
واقرب قرية الى بغداد من ديالى هي قرية هبهب وهي موطن صناعة العرق في وسط العراق , والعَرَقْ من المشروبات الكحولية القوية جدا والتي تصنع في العراق من تمر النخيل منذ زمن السومريين والبابليين وهناك مثل بغدادي على مدينة هبهب يقول "شارب من حفرة هبهب " ويضرب المثل للدلالة على ان الشخص أصابه سكر شديد وقصة المثل مضحكة , وهبهب هي قرية صغيرة تقع الى يمين الطريق الممتد من بغداد الى مدينة الخالص وكلمة هبهب كلمة عربية وهي لطير الهبهاب الذي كان يستوطن المياه المحيطة بالقرية , ففي العهد العثماني كان سكان هبهب يصنعون العرق بشكل سري لأنه كان ممنوعا صناعة الخمور في زمن الدولة العثمانية وكانوا يصنعون العرق من اجود أنواع التمور وأكثرها حلاوة وتصنع الخمور في احواض محفورة في الأرض يتم تغطيتها بالحصير وسعف النخيل لفترة تقارب الخمسين يوما ويتم إزالة تلك الاغطية في الأيام الأخيرة من نضوج العرق وقت المغرب لعدة ساعات لكي يتم فحص جودة العرق وإزالة الشوائب منه ثم يتم إعادة تغطية الاحواض من جديد الى ان تنضج وكان مدخل قرية هبهب شارع ترابي يمتد من الشارع الرئيسي الذي يربط بين بغداد ومدينة الخالص ال نهاية هبهب وفي احد الأيام في وقت المغرب وقد ازيلت اغطية احواض العرق قد عادت الابقار الى البيوت من المراعي تتهادي في مشيتها وقد اتعبها المسير وفجأة صرخ احد الصبية الحكومة الحكومة , فهب الناس راكضين الى بيوتهم معتقدين ان هناك كبسة من قبل الشرطة للتفتيش على صناعة العرق وركضت معهم البقر التي عادت من المراعي وقد أصابها الخوف والفزع وهي ترى الناس يركضون في كل الاتجاهات حتى وصلت الإبقاء الى نهاية القرية عندها صارت امام احواض العرق المكشوفة التي هرب أصحابها مع الهاربين ولم يكن لديهم الوقت لإعادة تغطيتها فشربت البقر من العرق حتى ارتوت وسكرت ثم هاجت وماجت وقامت بتدمير نصف بيوت القرية الطينية وهرب الناس نجاة بأنفسهم من بطش البقر السكران الذي كان يبطش بالناس ويدوس على أي شيء امامه.
الى اللقاء في الحلقة القادمة
بسام شكري
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://www.algardenia.com/qosesmenaldakera/58748-2023-05-12-17-55-20.html
1731 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع