وليمة على مائدة الرفاق
يجلس على حافة كرسي مدور حول مكتبه سفيرا للعراق في الدولة الاوربية بلجيكا، يستذكر أيام شبابه ونضال طويل بدأه سياسيا في المدرسة المتوسطة، وحياة عسكرية قضاها مسؤولا حزبيا للقيادات العليا.
يحمل سماعة الهاتف، يحاول الاستفهام من زميله عضو القيادة عن اشاعات تتناول خلافا بين الرئيس ونائبه، يعيدها ثانية الى مكانها، فالخط مازال مقطوعا منذ ساعات، يترك الهاتف بوقع يبقي الاتصال فيه مفتوحا مع منابع ذكريات أوصلته سريعا الى سؤال عن حقيقة ما يجري في العاصمة بغداد؟.
يقطع التواصل أو الاتصال مع سلسلة الافكار، وكأن منادٍ في داخله يجيب بعدم جدوى التفكير، يحثه التوجه صوب مطعم مكتوب اسمه في صفحات التاريخ بعمر يتجاوز المئتي عام، مازال متربعا على تلة تغطيها أشجار العنب في ضواحي العاصمة بروكسيل، أعتاد اللجوء اليه وحيدا في الاوقات التي يهاجمه الكدر، تُوقفهُ قريبا من الباب سكرتيرته الشخصية، تحمل برقية استلمتها توا تطلب حضوره في بغداد بقصد التشاور حول أمور مهمة.
يعود الى كرسيه المتحرك، ينشغل هذه المرة بما وراء البرقية في ظروف التطورات الحاصلة وما يتردد عن أعتقالات منظمة لقيادات حزبية بدأت تتسرب الى الاعلام العالمي، فيحوّل وجهته من المطعم المؤمل افراغ كدره المتزايد على موائده المعزولة الى البيت وشريكة عمر تقاسمه الهموم. تحاول دفعه باتجاه تأجيل السفر ليومين آخرين قد ينجلي الموقف وتتوضح الامور، يؤيدها أتصال هاتفي جاء من مسؤول مقرب بوزاة الخارجية البلجيكية نصحه بعدم السفر في مثل هذه الايام التي تضج بالمفاجئات، يضحك معه مازحا بالتنويه عن قدرة بلجيكا الفائقة بالتجسس على البريد المشفر، مؤكدا عودته بعد اسبوع ومعه التمر العراقي الذي يحب.
يزداد الاصرار على المغادرة هذا اليوم وعلى متن الخطوط الجوية العراقية برحلتها المتجهة الى بغداد عصرا، يعرج في الكلام أثناء جمعه حاجيات السفر القصير على عدم جواز التأخر عن تنفيذ الاوامر الصادرة، محاولا التأكيد على صحة كلامه بتذكيرها اصرار الرئيس على تنفيذ الاوامر وعدم قبوله أي عذر للتأخير، ومعرفته الشخصية به رفيقا أيام العمل السري. يدعم تأكيده هذا بالتنويه الى اتصال هاتفي أجراه قبيل مجيئه الى البيت مع زميله السفير العراقي في النيجر وتبيان استدعاءه هو الآخر الى بغداد، مستنتجا حقيقة التشاور حول تطورات الوضع الحالي أقتضته الضرورة السياسية، وعندما لم تقتنع السيدة أم نبيل، ذكّرها بالمقابلة الودية للرئيس قبل شهرين من استلامه الرئاسة واشادته الصريحة بنضاله الحزبي وحاجة الحزب اليه، وقبل غلق الحقيبة اليدوية تعهد لها حتمية الاتصال بها من مكتب الوزير على التلفون الخاص.
تصل الطائرة بغداد قبل أنتصاف الليل بقليل، يقف على السلم المسحوب في باب لها أنفتح توا ضابط مخابرات يتبعه شخصان يظهر سلاحهما الخاص من فتحة السترة عند هبوب الريح، يخرج ركاب الدرجة الاولى يتقدمهم السيد السفير ماسكا حقيبته اليدوية، يشيح بنظره حول المكان الذي توقفت فيه متأملا مشاهدة الموظف الذي أعتاد استقباله في السفرات السابقة. يتقدم الضابط طالبا التوجه الى السيارة القريبة، يحاول الاستفسار بطريقة مهذبة، يأتيه الرد بصوت فيه قسوة انه مطلوب من السيد رئيس الجهاز شخصيا.
تَوقفه لحظة ذهول عطلت سير التفكير، يحاول مداراة قلقه الناتج عن هذا الموقف المفاجئ، فلم يجد سوى عبارة قالها والشك يملأ مخارج الحروف "الرفيق أبو محمد". وكأنه أراد من لفظها تذكير الضابط بأصوله الحزبية وبقربه من المسؤولين وفي حقيقة الامر كانت محاولة لا ارادية لتذكير النفس أملا في تخفيف القلق البائن على قسمات الوجه الاسمر، لم تنفع مع ضابط مخول باستخدم القسوة من بداية المشوار.
يركب السيارة وسط حارسين في الموقع الخلفي، تتحرك بسرعة، وقبل مغادرتها المطار تُعصب عيناه بقطعة قماش أسود مخصصة لهذا الغرض، عندها أدرك أن تصوره عن المنصب كان خطئاً، وخوف الزوجة كان هو الصحيح، فاستسلم لأفكار أخرى تتعلق بالتهمة التي تنتظره.
حاول استيضاح موضوعها من الضابط ثانية، فحصل على ضربة أوقعت نظاراته الطبية بين ارجله المتهالكة، تسكته وكأن صخرة هوت على رأسه الحاسر، أفقدته الوعي.
لاحاجة الى التأمل ولا الى التفكير، فالامر بات واضحا لقد حُشر في الصف المعادي للحزب والثورة، انها النهاية التي لم يكن يتوقعها عند انتضامه في صفوف الحزب عام 1953 وحتى وصوله عضوا قياديا في المكتب العسكري للحزب واستلامه منصب سفير قبل اشهر.
السيارة التي قطعت المسافة الى المبنى الخاص بالمخابرات باقل من نصف ساعة مرت وكأنها عام من الحزن بوقع ثقيل، حتى لم يحس بركلة تلقاها مع دفعه الى الزنزانة الانفرادية تحت سطح الارض.
يقف وسطها متفحصا لحائطها الكونكريتي ، يجلس متكئاً على حائطها الرطب، يتذكر تاريخه الطويل، يحاول الندم، تمنعه فكرة جاءت من أعماق الذاكرة تحوم حول ورود الحشر وهماً أو نكاية من أحد المغرضين، حيث لم يعرف حقا أي شيء عن الموضوع، فيحصل على ومضة راحة تنقله الى موجة حزن أخرى بوقع ثقيل.
يمضي عشرة أيام داخل زنزانته متجولا في ثنايا الماضي بين نوبة تعذيب وأخرى لتثبيت الاعتراف، لم يعرف انها عشر، فليل الزنزانة المعزولة عن العالم الآخر الا من مصباح يفقع وهجه العين وصوت مفرغة يشبه طنين الدبابير لا يمكن فصله عن النهار. عرف الوقت من تاريخ مثبت اسفل اسمه المدرج على افادة مكتوبة مسبقا، حاول قرائتها فاختصر له الشخص الجالس بمواجهته اتهاما بعلمه المؤامرة وعدم اخباره القيادة عن نوايا التنفيذ.
-أي مؤامرة ......؟؟؟
لم ينه كلامه الذي قوطع بضربة على مؤخرة الرأس أسقطته فاقدا القدرة على النطق.
وَضعَ توقيعه على الافادة المعدّة مسبقا، يُنقل اثرها الى غرفة ثانية يستمع النطق بالحكم سبع سنوات، يتحول يومها الى قاطع الاحكام الخاصة بالمتآمرين في سجن أبو غريب. الزنزانة أقرب للحفرة منها للغرفة، ضيقة رطبة، طولها ثلاثة أمتار وعرضها مترين، يشغلها ثلاثة في أوقات الرفاه، يخرجون منها للحمامات مرة واحدة صباحا وأكثر من عشر مرات للتعذيب. المكرمة الاولى دورق ماء بلاستيكي لكل سجين، يبقي فيه ماءاً للشرب، يستخدمه للتبول عند الحاجة وكذلك للتغوط في حالات الاسهال. تعودوا شرب قليل من الماء ليقللوا من استخدام دورقهم مرحاضا متنقلة، فيبست جلودهم وبرزت اوردة أياديهم وبات سير الدم فيها يرى بوضوح.
يُجمع الرفاق المسجونين أو المتآمرين في قاعة واحدة بعد الشهر السادس. ينقضي يومهم الاول بلا نوم، اثنان يتحاضنان ومثلهما مشغولان بحديث لايسمعه الآخرون، لقد تعلموا الحذر. أنتهى ألم الوحدنة وَعدّ الارقام بالمعكوس والصلاة عشر أوقات، شعور جميل بالوجود معا على سفينة تبحر صوب المجهول.
المتعة بالوجود معا لن تدوم، الأوامر تصدر بالعودة الى الزنزانات السابقة لتنفيذ برامج تعذيب جديدة تقتضي التعري طوال الوقت، والدفع الى قاعتها كنعاج الاضاحي في طريقها الى الذبح، والهراوات تتهاوى على الرؤوس مرة وعلى الصدور أخرى تبعا لخطط التأديب، ويتعالى الصراخ والانين وطلبات الرحمة من الخالق وتختلط زفرات اليأس مع شتائم الجلادين وتهديداتهم، لتبقى حبيسة هذه القاعة المعزولة وفقا لخطط التأديب.
ينادي السيد جاسب ضابط الخفر الأقسى في وقع التعذيب من آخر الممر برفع اليد اليسرى لمن يريد المراجعة السريعة للطبيب. يرفع السجين الوزير مرتضى الحديثي يده، يشير على شريكه في الزنزانة أبو نبيل برفع يده أيضا لكسر في الضلع الايمن يمكن تحسس نتوءه من تحت الجلد اليابس، يرفض ذلك، متمنيا الموت على حياة تنتزع بالتدريج على يد الرفاق.
ربع ساعة مضت يعود السجين الحديثي منتعشا، يعتب على الشريك رفضه الذهاب الى الطبيب الذي أمتدحه بالتأكيد على حسن المقابلة والتصريح له بالجلوس على الكرسي الوحيد، وقدرته على التشخيص السريع لاوجاع غطت محيط الجسم، والأكثر رحمة لهذا الطبيب الشاب تقديمه حبة الدواء وكوب الماء بيده دون تكبر واستعلاء، لم يتركه الا بعد التأكد من بلعها على وجه التمام.
الشريكان ينتظران عودته من الطبيب ليأخذوا الغداء سوية، يستسمحهم بأداء الصلاة، لم يكمل السجدة الثانية، يصرخ من وجع معدته فيسقط على الارض يتلوى، يطلب زميلاه الطبيب فيهددهم السيد جاسب بوجبة تعذيب اضافية، يسمعون وباقي السجناء صوت الباب المؤدية الى خارج القاطع تفتح وتغلق في ذات الوقت وكأن الطبيب خرج بعد تأكده من مفعول الدواء.
الوجع يمنحه صفاءاً ذهنيا يؤكد قرب النهاية، يحاول التقيؤ، يمد أصابعه بفمه المفتوح كمن يريد أخراج أحشاءه التي تتقطع، لم يجد شيئا يخرجه فيتضاعف ألمه وتزداد ضربات القلب وكأن هذا القلب الواهن يهم بالخروج من قفصه الحصين.
ساعة أسلم فيها الروح، يخاطبه أبو نبيل وما زال رأسه في الحضن:
- لماذ سبقتني في الموت وتجاوزت على عهدنا في الذهاب الى الخالق سوية؟.
- أهكذا تكون نهاية حلمنا بالغد الافضل لهذه الامة وعلى يد الرفاق؟.
- لا أريد البقاء من بعدك. أعاهدك أني سأتبعك، ونشكوا سويا أمرنا الى الله.
يسمع السيد جاسب أطراف الحديث، يقترب من الزنزانة، يسأل عن معنى الحديث، يصدر الاوامر بالنوم جنب الجثة والتحاف ذات البطانية، فيسجل في السجلات الخاصة أن السجين الحديثي كان أول المتوفين.
يتجمع سكنة الزنزانات، تنطفئ الكهرباء، صوت ارتطام عصا بجسم انساني يسمع مجسما فالمنطقة محصورة، يصرخ عبد الواحد، يسقط أرضا، يقف السيد جاسب على رأسه ماسكا عصاه الغليضة يطالبه النهوض، يضربه ثانية.
لا أمل بالنهوض، لقد افقدته الضربة على مؤخر الرأس القدرة على النهوض. يفيق بعد منتصف الليل يسئل الزملاء عن المكان واسمائهم وسبب الوجود، تتكرر حفلات التعذيب، تسوء صحته النفسية، فيستثنى منها بقرار ليموت في مكانه مع أذان الصباح.
تنتهي السنوات الثلاث، تمر ست شهور من الرابعة، يأتي الافراج مكرمة من الرئيس، يتبعثر المبحرون الى المجهول، يؤمرون بعدم الاتصال مع بعضهم والرفاق القدامى. يعود السيد السفير لاجئا سياسيا الى بلجيكا، ينتظر الرجوع الى العراق فرصة للمساهمة في البناء، تسنح بعد أنتهاء حكم الرفاق، يجد الغل مازال باقيا كما كان، والازاحة ماثلة كما هي، وأنفاس التسقيط وأقتناص الفرص زادت عن المعهود، وفي محاولته التقدم خطوة الى الامام، وجد اسمه مكتوبا في السجلات التي تحرّم المساهمة في البناء. عندها شعر بذات الحزن الذي غمر سنيه في الحبس الخاص، فحزم امره وعاد بعائلته من حيث أتى لا يقوى على تجربة السجن ثانية في حشر قد يكون من نوع خاص.
3933 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع