قضية انتحار........!!
تقترب من بيتها لاهثة من وقع المشي، تحاول اللحاق بظل تسابقه في الاستعجال.......
حركة ظفائرها السوداء متأرجحة تنبئ الناظر بأنها نصف فتاة أو أن عقلها مشطور نصفين، طفلة ساذجة بعلامات ابتهاج بلا تحفظ وتنطط في المشي بين الحين والحين، وأنثى ناضجة بمؤشرات صدر ناهد يكاد يخرج من قميصها المدرسي الابيض. همها الوصول، لا تستطيع كتمان فرحها المجنون، تضحك مع نفسها في الطريق قادمة من المدرسة المتوسطة قبل انتهاء الدوام.
جمالها البريئ وسمرتها الحنطية يضعانها في مصاف الممثلات المتمردات. تطرق الباب بكلتا يديها، ترمي الكتب جانبا، تلف حول نفسها تتحرك بخفة راقصات الباليه، تنادي امها المشغولة بتهيئة الطعام، تصرخ فرحةً:
لقد أعفيت في جميع الدروس.
هي أول من تسجل في الصف الثالث المتوسط، متفوقة على الجميع.
ستتابع تفوقها حتى تحقيق أمنيتها طبيبة تعالج والدها المصاب بداء السكري اللعين.
تحضنها الام بحنان تجمع حبا لاربعة عشر عاما عمرها الفتي، تعطيه مرة واحدة، يكمل الاب فرحتها بقبلة يطبعها على وجنتيها المتوردتين، يدعيان لها بالتوفيق.
المدرسة قريبة من البيت في حي وسط مدينة الشعب، اعتادت الذهاب اليها والمجيئ منها مشيا، ترافق صديقتها سناء في أكثر الاحيان، ينتهي الشهر الثاني للدراسة وكذلك نصف السنة بسيطرة تامة على جميع المواد، تخرج في اليوم الاخير مبكرة، تفضل العودة وحيدة هذه المرة، لتأخر سناء في امتحان الرياضيات، يُسمعها محمود ابن المنطقة كلمات غزل مفضوح تربك مشيتها خجلا، حيث لم تسمع مثلها من قبل، فشعرت ساعتها بوقع اقدام النفوس المريضة تحاول أقتلاعها من الجذور.
- غادري الطفولة، ارتدي الحجاب تماشيا مع التيار السائد في بلاد انطلقت فيها الغرائز الحيوانية للشباب بشكل غير معقول.
يلاحقها محمود كل أيام الاسبوع، يقترب محاولا اغوائها قسرا، تصده بأدب يفسره تجاوز على رجولته المستهترة. ومع هذا فقد استوعبت الدرس وتعلمت التملص بالعودة محشورة وسط الطالبات الثلاث القريبات من بيتها في ذات المحلة، والذهاب بمرافقة الوالد حتى باب المدرسة قبل توجهه للتدريس في الجامعة المستنصرية.
تقترب السنة من نهايتها يغيب محمود عن الطريق وعن المنطقة شهرا كاملا، تتتذوق طعم الامان، وكأن الثقل الذي نائت به على متنها قد ازيح، وكأن القدر يبتسم لها فاسحا المجال لطموحات التفوق أن تتحقق، حتى غادرها الحزن الذي خيم على هيئتها عدة شهور، وعاد لها التنطط ابتهاجا في الساحة أمام الزميلات، وعندما صدّقت نفسها خف حذرها وبات الرجوع الى البيت فرادا أمرا ممكنا أوقات الانتهاء من الدروس مبكرا عن باقي الزميلات.
القدر لا يبتسم كل الوقت، هكذا هي الحقيقة التي تسمعها من الكبار، وهو كذلك بالفعل فمحمود يظهر من جديد بلحية سوداء كثة ولباس عسكري يشبه في هيئته منتسبي مليشيات تظهر في المنطقة بين الحين والآخر، يقطع عليها الطريق بسيارته تقطع عليها الطريق ظهر الخميس الذي خرجت فيه وحيدة قبل الوقت المعتاد لحصولها على اعفاء بدرس اللغة الانجليزية. المنطقة التي توقفت فيها وسطا بين المدرسة والبيت، لا يمكنها العودة منها جريا الى المدرسة ولا مثلها التوجه الى البيت، انعطافة شارع لا يراها أحد من المدرسة ولا شخص من البيت، تضنها حرشة من تلك التي اعتادها في السابق، وتضن السيارة نوعا من الاستعراض الشبابي لاغوائها من جديد، فتحاول مواصلة السير بقدر من الثقة والتمنع عن الرد على كلماته الجارحة. ينزل متبخترا، ينتصب بطوله وسلاحه كأنه فاتح عظيم. لقد تجمعت الدموع في عينيها بغزارة، عندها أدركت أنها غير قادرة على كبحها، وهكذا بكت على حالها، وعائلتها ومستقبلها المهدد، تكلمت بصوت مكتوم ولغة غريبة، تنم عن فقدان السيطرة على الذات.
لم تدم المفاجئة الصادمة سوى لحظات، بعدها استبد بها الخوف الذي شل حركتها، شعرت أنها غير مستقرة على المقعد الخلفي للسيارة الذي دفعت اليه، فاتجهت تتلمس باب السيارة علها تجد شيئا تتمسك به.
بدت عيناها راخيتين وجسمها يترنح كما لو انها تهذي أو أعطيت جرعة تخدير.
تتوسلهم ترك سبيلها، تعده بتغيير فكرتها عنه، تحاول استثارة شيمته ابنا للمنطقة ومعنيا بحماية بناتها، فكانت استجاباته خالية من الرحمة. مشهد وان أتموا نهايته بثوان مثل الذين تدربوا على أعمال الاختطاف في القوات الخاصة، لكنه ضاعف عدد المتفرجين على مثيراته من المارة وكأنهم أمام شاشات التلفاز يشاهدون فلما فيه مقطع اختطاف.
ينتهي المشهد، تتجه السيارة مسرعة صوب القناة التي تعج بسكان متجاوزين تعودوا تجوالها ليلا وفي النهار، يترجلون وصيدهم الثمين بعيون معصوبة وفم سد بشريط لاصق ورأس يتدلى في ملامسته الارض كمن يسجد في صلاة الاستقواء على خوف بات عاملا في تعطيل الحواس. يدخلون بيتا يشبه حضيرة نعاج شيدت من موارد التهديم العمدي لدوائر الدولة المنهوبة.
ينزعون ثوب الدين ولباس المليشيا، يقيم أحدهم عقد الزواج، يشربون خمرا من بقايا محل قتلوا صاحبه المسيحي في غزوة الاسبوع الماضي، وعندما وصلوا ذروة النشوة زفوا العروس بملابسها المدرسية الى محمود المتعطش لاشباع غريزته. ساعة زواج تكفي، يحصل الطلاق ليتزوجها الثاني ساعة أخرى والثالث مثله أيضا، وهكذا وضعوا أنفسهم في جدول يتناوبون الزواج والطلاق حتى الصباح الذي يغتسلون فيه تمهيدا لاداء الصلاة، واستعدادا لتصفية استاذ من جامعة بغداد جاء اسمه وعنوانه في اتصال هاتفي وردهم أثناء الاحتفال بليل العرس الجماعي، يحثون بعضهم بعضا لاتمام واجبهم الشرعي أملا في العودة الى الحضيرة التي أستهوتهم فيها أجواء ممارسة الاعراس واطئة الكلفة.
يعودون مساءا، يتفاخر محمود ذبحه الاستاذ من خلف الرقبة بمنشار، يذكرهم بحركة جسمه الدائرية عند تركه نصف مذبوح ينفر دما حارا، يضحك متفاخرا بفعلته فالاستاذ قد تخرج من أمريكا، والفيزياء أحد علوم الشيطان. يتناولون عشائهم لحما مشويا يعرضون على سلوى المشاركة فقد حسبوا حسابها يريدونها جاهزة لجولة جديدة، يفكون قيدها من الطوق الحديدي المثبت في الجدار، لا تستجيب لرغبتهم بل لا تستطيع أو لا تفهم ما يريدون فسلاح العقل الذي تفاخرت بالاعتماد عليه قد تعطل تماما.
يعاودون ليلا حفل الامس منتشين باشادة شيخهم على تنفيذ المهمة الخاصة بقتل الاستاذ، لديهم ما يكفي من خزين النشوة، جنس يتشاركون فيه وخمر من غزوات لا تنتهي.
في الصباح تتعطل الطفلة سلوى عن تنفيذ المهام التي يريدها محمود وزملائه، فقد نزفت دما افقدها القدرة على التحرك، واصبحت ما يشبه الوعاء البارد، يحاول تذكيرها وهي ممدة على ظهرها شبه عارية:
- لقد أحببتك مجنونا، حاولت التقرب منك ملهوفا، رفضك جرحني، اشعرني بالاحتقار. لقد نلت منك ما اريده، سوف لن اقتلك، سأتركك تعيشين ما تبقى من عمرك ساقطة، هذا جزاؤك، وهذا حكمي عليك.
ومضت عيناها بانكسار، أغمضتها، تنهدت شعرت لاول مرة أنها مسخ يحوم حوله قناع الموت، لقد طغى ألم النفس على الآم جسم هده العذاب.
يتقدم منها بشفرة حلاقة جلبها معه بعد الانتهاء من ذبح الاستاذ، يقص جذائلها، يضحك على منظرها، يمعن في حلاقة ما تبقى من شعرها بما يشبه جز الصوف لخراف أسمنها الربيع. لا تستجيب لآلام جروح تحدثها الشفرة مع كل نقلة لها في عملية الجز المستمرة، يزداد في ضحكه الهستيري. تفوق من غفوتها، كأنها نسيت من هي وما جرى لها، بكت طفلة تاهت عن أهلها في سوق مزدحم، تتوسل اعادتها لام لم تعد قادرة على فراقها.
يحل الليل، يحملون الطفلة الضحية في شرشف تدنس بدماء عذريتها، يضعونها في صندوق السيارة، ليتركوها أمام بيتها تئن وجع المصيبة.
- أمي أعيديني اليك ضميني الى صدرك قبل الموت.
- قَطّعوا أوصالي فعلوا بيّ كل شيء، ساعديني على الموت.
- أين ابي، أشتقت اليه ، لا تخبريه بما حصل خوفا عليه من الموت.
تحضنها طفلة محمومة. تتوقف لحظة، تجري راكضة في اركان البيت تضرب رأسها في حيطانه، تصرخ بأعلى صوتها، لتعود ثانية، تحضنها، تغطيها بأذرعها، تحاول حمايتها، وتعود فتكلمها.
- حبيبتي ابنتي، سنترك أمرنا الى الله، يغفر لهم ولنا.
- أمي، انهم لا يعون ما يفعلون، جاءت اللحظة التي لم يعد فيها الجهل قابل للغفران.
- سنأخذك بعيدا الى مكان لا يعرفنا فيه أحد ولا يذكرنا آكلي لحوم البشر.
- لا يا أمي لا تأخذيني الى أي مكان بعيد، لا اقوى على الرحيل، أريد الموت هنا في بيت أهلٍ احببتهم باخلاص، خذيني الى الحمام أريد التطهر من قذارة هذا الزمان.
- اتركيني وحدي أستحم كما هو حالي أيام الصفاء، لا تنظري الى جسدي الذي مزقه الوحوش، لم يتركوا لي شيئا أحتفظ به لنفسي، سوف لن أكون طبيبة ولن استطيع معالجة أبي الحبيب.
تمتثل الام لرغبة طفلتها، تخرج نائحة كأنها في مأتم، تذهب الى غرفتها لتحضر ملابس ما بعد الاستحمام، تسمع صريخا في الحمام ونار أشتعلت بعد صب النفط على جسدها المجروح وايقاده بعود ثقاب.
تستجمع الام المنكوبة قواها لفتح الباب، تجدها مغلقة من الداخل.
تعاود الصراخ، لم تجد من يعينها على فتح الباب تفتحُ كسرا من ناس جمعهم الصراخ بعد أن تكورت قطعة لحم فاحت منها رائحة الشواء!!.
الگاردينيا: عزيزنا الغالی الدكتور/ سعد العبيدي...عاشت الأيادي.. و:
3148 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع