الجندي الذي أسقط جدارية الرئيس (6)
يتوقف المطر عن النزول في محيط البصرة بعد غمرٍ موحل لأجوائها الرطبة عدة ايام، تشرق شمسها كاملة في الثاني من آذار 1991، مثل زهرة عباد الشمس في محاولتها فتح ثغرة في صفوف المكتئبين، توزع اشعتها المنكسرة على ارصفة الطين، متعاطفة مع أهلها ورغبتهم في التخلص من هذا المنظر الكريه.
رتل الماشين انسحاباً على طريق الكويت البصرة مستمر، كأن الحج قد انتقل بطقوسه على هذا الطريق الذي أسماه أصحابه بطريق الموت.
الساعة السابعة، بداية تقليدية ليوم جديد، عُدَّ مثل الايام الخمسة التي سبقته موحشة، لا نهاية لوحشتها البائسة من قريب أو بعيد.
ساحة سعد، نقطة الالتقاء الجغرافية لهذا الطريق، بآخر يؤدي الى العمارة، الكوت ومن ثم بغداد، أصبحت بحكم موقعها، الملتقى الاول لجموع من العسكر مازالوا ينسحبون، وما زالت اعدادهم بازدياد، أختلط جل افرادها المنسحبين بباعة الوجبات السريعة من عربات خشبية يسحبونها بانفسهم، وبالمحتاجين والسراق، وتجار الحروب.
يقف أمام سيارته الخاصة بالحمل في ركن الساحة الشرقي، موسى رمضان بلباسه العربي الجنوبي، تنبعث من داخله هزة أنتشاء لا يعرف سببها، وبجانبه شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة، قريب الشبه من هيئته العامة، كأنه الابن البكر، إنسان حذر يتلفت بكل الاتجاهات، يرصد بقايا أمن عسكري قد يداهمون المكان، يقتنص من يود التخلص من سلاحه، بيعا، لم يحدد سعرا قطعيا للسلاح المطلوب ، يتركه لحالة العسكري البائع، بعد ان كون خبرة معرفية جيدة بنفوس المنكسرين الساعين لنقل اهانة شخصية، يحسونها من نتيجة الحرب الى اهانة عمدية لسلاح لم ينفعهم ما بعد الحرب، ولدولة لم تنصفهم أوقات السلام وفي زمن الحرب، يدفع في الغالب لكل بائع سعراً مختلفا، بعد ان يفاصله على انفراد.
في هذه الساعة المبكرة من النهار المشمس امتلأ نصف حوض سيارته بنادق ورشاشات، وما زال يفاصل القادمين طالبا المزيد.
تجلس في الركن الآخر من الساحة، أمرأة اربعينية، بوجه مدور، موشوم بعلامات متفرقة فوق الحنك، تلف على خصرها عباءة تلوثت أذيالها بالوحل الاسود الثقيل، تحتكم على خمسة أوعية من البنزين المحسن، في كل وعاء عشرة لترات، سعرّت اللتر الواحد بثلاثة دنانير. تفاصل بثقة، لا تقبل التنازل عن هذا السعر الذي يعادل في قيمته المدفوعة ثلاثة او اربعة بنادق في سوق موسى الذي يتصيد في الماء العكر، متأكدة انها ستبيع بضاعتها التي تعي الحاجة اليها اكثر من السلاح الذي لم يعد نافعا في حماية البلاد. تترصد دخول عدة سيارات قادمة من محافظات العراق الاخرى، متيقنة انهم سيدفعون المبلغ المطلوب للحصول على البنزين اللازم لاكمال مهامهم في السؤال والتفتيش.
تنادي ولدها ذو الثمان سنين:
- عباس، خذ هذا الوعاء واذهب صوب السيارة البرازيلي التي دخلت توا الى الساحة، علَّ سائقها يسأل عن البنزين، لا تنسَ أبدأ بأربعة دنانير للتر الواحد، واذا رأيته يمتنع أنزل الى الثلاثة كآخر سعر ممكن.
- تحرك دعني أرى شطارتك.
الساحة تغري الجالسين والواقفين على متابعة الانشطة المتعددة بمتعة التشفي من النظام.
تظهر في أفق الشارع القادم من الزبير دبابة مسرعة، تترك خلفها فتيلا من غبار الطريق، ينتبه الى صوت محركها واحتكاك سرفها بالارض هذا الجمع الغفير، يلتفتون الى منظرها المثير، لا احد يصدق قدومها وطائرات العدو لا تستثنِ في صيدها آلية تتحرك على الطريق.
يتجه موسى بنظره الى القريبين من مكانه، يستعرض معرفته بالسلاح، ليقوي موقفه في المساومة:
- انها دبابة روسية تي 72.
يسأل أبنه:
- لماذا هي هنا في هذا الوقت المبكر من الصباح؟.
وبقصد تلطيف الاجواء وتخفيف القلق عن المتواجدين من حوله، يكمل حديثه:
- ساشتريها اذا ما رغب سائقها في البيع، سأعطيه مائة دينار، لا سأوصل المبلغ الى ثلاثمائة دينار، اذا ما كان خزانها ممتلئ بالوقود.
البعيدون عن موسى، وغير العارفين بالدبابات يعيشون لحظات ذعر، عندما تخيلوها واحدة من دبابات معادية دخلت بقصد الاحتلال الكامل للعراق، واستمروا في تخيلهم سبل الهروب من مواجهتها حتى ترك بعضهم الساحة شبه مذعورين، يسيرون هرولة بعدة اتجاهات. سائقها الذي نجح في إيصالها سالمة من الكويت الى ساحة سعد، لم يترك مجالا لاكمال نسج القصص الخيالية، عندما دخل بها الساحة مسرعا، موجها مدفعها الطويل صوب الجدارية الخاصة بالرئيس الموشح باوسمة منحها لنفسه، يطلق آخر اطلاقة بقيت من معركة لم تنفع فيها الاطلاقات، وكأنه احتفظ بها لهذا اليوم الموعود، يدعس ما تبقى من طابوقها المهشم بسرفة يتعالى منها الضجيج، اضحاها ركاما، وأضحت فكرة وجودها رمزا للانتصارات الموهومة عدماً، وجعل الحواجز النفسية التي بُنيت بين الرئيس والشعب طوال اثنتين وعشرين عاما مجردة من معناها الموهوم.
يصفق الحضور، يهتفون بحياته كأشجع الجنود، يتناول موسى بندقية اقتنصها توا من عريف في لواء المشاة السادس والثلاثين، يطلق في الهواء ثلاثين اطلاقة كل ما موجود في مخزنها المعقوف، يقلده الابن، بنفس الاتجاه، تتعالى الاصوات المؤيدة، يترجل السائق من دبابته تاركا محركها يدور، ومدفعها مصوبا باتجاه العاصمة بغداد، كأنه يبحث عن أحد من رواد الساحة يكمل مشوارا بدأه لمعاقبة حكامها القابعين في مقراتهم الحصينة.
يدخل الجندي المرهق بين الجموع المشدوهة، ملوحاً بيديه، يضيع وسط زحام الجنود، تنتقل الاشاعات عن واقعته بسرعة، وتنقلها قليل من وسائل الاعلام، ينتشر الخبر في عموم البصرة انتشار النار في الهشيم.
بطل يفتش عنه الجميع.
يسألون عن سر اختفائه.
يتمناه البعض معه في هذه المحنة التي لم يعرف لها مآل.
أختفى وكأن الارض بلعته طعما في زمن الجوع.
ترك الجمع في وضع الانفعال يضرب أخماسا بأسداس، وكأنه يريد القول أنه قد فعل الذي يجب أن يفعله، وترك الفعل الباقي على الغير عسى أن يتموه.
4817 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع