سلسلة السير البروفيسور نعيم دنكور التذكارية

        

سلسلة السير البروفيسور نعيم دنكور التذكارية
الرئيس الفخري السيد دافيد دنكور
تنشر تباعا عن رابطة الجامعيين اليهود النازحيين من العراق

                

تعود جذور السير بروفيسور نعيم دنكور (من مواليد بغداد، 17 أبريل 1916) إلى عائلة ثرية معروفة من الحاخامات ورجال الأعمال، كانت عائلة دنكور قد اسست اقدم المطابع الأهلية للكتب سنة 1904 واصدرت اول طبعة للقرآن الكريم في العراق وكانت تستورد الورق من السويد. فهو حفيد حاخام بغداد الأكبر (1923-1927) في العراق، الحاخام باشي عزرا روبين دنكور (1848-1930)، الذي شغل فيما بعد منصب حاخام رانغون في عام (1892). كما أسس في عام 1902 "صحيفة دنكور" للكتب الدينية والتعليمية في العبرية والعربية. وقد تم تطوير الصحيفة وتوسيعها من قبل نجله الياهو دنكور (1883-1976)، والد نعيم دنكور، كما تولى نشر جميع الكتب المدرسية الصادرة من قبل وزارة التربية والتعليم العراقية. وقد تبرع السير نعيم دنكور بالملايين من الدولارات لتمويل المنح الدراسية في الجامعات البريطانية وفي غيرها من الاقطار بما فيها العراق، فهو من مواليد بغداد وكان والده الراب عزرا دنكور رئيسا للجالية الاسرائيلية في العراق كما كانت تسمى آنذاك. وهو سليل اسرة عراقية نبيلة اشتهرت بعلماء الدين ورجال الاعمال. ويعد السير دنكور من كبار المؤرخين والمعلقين السياسيين والنقاد في بريطانيا في مقالاته وتعليقاته في الصحف البريطانية ولاسيما في مجلته باللغة الانكليزية "سكرايب (Scribe)" (الكاتب) التي اقتبسنا منها هذا المقال النادر.

عن مجلة يهود بابل، سكرايب (الكاتب)
يوليو 1987، تموز، العدد 23

        

  

جعفر باشا العسكري
بقلم:تشارلس انور بيخور (Charles Anwar Bekhor)

ولد السيد تشارلس انور بيخور في بغداد عام 1907 وعندما بلغ الثانية عشر من عمره سافر الى سويسرا وفرنسا للدراسة والتحق بجامعة باريس. ثم عاد الى العراق وهو ابن الثانية والعشرين عاما، وشارك في تجارة والده في استيراد المنسوجات وبعد وفاة والده التحق بالبنك العثماني حيث عمل مدة اربع سنوات هناك، ومارس مرة اخرى اعمال والدة التجارية كوكيل لشركة ماركوني  (Marconi, English Electric, Brdbury Wilkinson, Brown Boveri of Swizerland and ENI of Italy. ) وكان على صلة وثيقة بالحكومة العراقية وحصل على اتفاقية بناء محطة اذاعة ماركوني ومحطة تلفزيون لشركة (Brown Boveri) ومد انابيت الغاز من الروميلة الى البصرة لشركة (ENI) وقد غادر العراق بعد ثورة 1958 الى سويسرا وقضى سنة في ايطاليا قبل ذهابه الى لندن في عام 1964 حيث واصل وكالة الانتاج الى تقاعده عن العمل ومع معرفته الواسعة وعلاقاته التجارية كان بامكانه ان يتسنم المناصب السياسية الهامة او مناصب دبلوماسية.

             

أحببت الجنرال جعفر باشا العسكري، كان ظريفاً وحسن المعشر والمنادمة، كان يروي دائما نكات ممتعه  وكنت اسجلها فوراً في مذكراتي. كنت أفضل لو أنه كان يمتنع عن كلامه المبتذل الفاحش الذي كنت اسأمه تماما: فقد كان في الغالب يتفوه بمفردات بذيئة بالاضافة الى (عفطاته التي يطلقها من فمه) الذي كان في غاية الفخر بها. وقد أخبرني أنه خلال الأيام الأولى للحكم الملكي في العراق، دأب كلما شارك في اجتماع مجلس الوزراء واحتدم النقاش فانه كان يفض النزاع باطلاق زيـﮓ (عفطة) طويل. وكان زملاءه الوزراء يغضبون ويزجرونه قائلين ("عيب عليك يا جعفر")، ولكنهم اخيراً ينفجرون ضاحكين ويهدأ الجو. وكان في كثير من الأحيان على خلاف مع (عديله) نوري السعيد باشا المهذب. وفي ذات يوم عندما كان جعفر العسكري يشكو شيئا قام به نوري السعيد قلت له : "ليش ما تقاطع نوري السعيد باشا وتخلصها"، فأجاب:

      

" شـﮕـدر اسوي، ويا هالسرسري، اذا رحت انيــ ...... اخته، يروح نيــ ..... اختي".
ومع كل معايبه، كان جعفر ذا شخصية قوية جذابه ساحرة، يخلب ألباب سامعيه وكانت زوجتي تطلق عليه اسم الشلاتي الظريف (un vagabond sympathique).
أما بحضور السيدات، فقد كان يتصرف تصرف (الجنتلمان) السيد المثالي. وكان حاد الذكاء وسريعاً في مواجهة أي طارئ. وقد اعترف لي: "أنا لست رجل ذكي حقا ولكني أملك سرعة الخاطر، ولكي يوضح وجهة نظره هنا، روى لي حادثة صدامه مع أحد مشايخ البدو قائلاً:
"حينما أرسلني شريف مكة في الأيام الأولى من الثورة العربية ضد الإمبراطورية العثمانية لاثارة القبائل ضد الأتراك. جلست ذات يوم في ديوان شيخ قبيلة كبيرة حاولت ترشيح عدد من المسلحين للانضمام الى القتال. لقد بدأت كلامي بديباجة بليغة تمجد فيها مزايا وسمعة "شيخ الشيوخ". فبدأت بقولي "يا شيخنا"، "إن سمعتك غالبا ما تتردد في أغاني الصحراء. وشريف مكة، سليل نبينا محمد (عليه الصلاة والسلام)، أمرني بالقدوم اليكم اذا انتخبكم من بين القادة العرب الوطنيين لطلب انضمامكم للحرب والجهاد بالنفس، ضد الظالمين الترك، أعداء الإسلام. أنا ألتمس 20000  "تفاﮔـه" الرماه. وهذا الرقم لا يعد شيئا بالنسبة لجنابكم، ويمكنكم تجنيده على الفور. الخ الخ." وكنت كلما أسهبت في الثناء عليه كلما واصل الجلوس منتصبا ويضع يديه على صدره مثل طرزان (كان هذا الرجل صغير الحجم ويجلس على عدة وسائد لكي يبدو اطول قامة) عندما انهيت كلامي، قال بحماس: "بالطبع سأجهز لكم 20000 " تفاﮔـه " بدون أي عناء ثم التفت الى الشيوخ المجتمعين من القبائل الفرعية، وأمرهم:" أنت الشيخ أحمد، ستقوم بتوفير 2000، "أنت الشيخ علي، سوف ترسل 3000" وهكذا واصل في تعيين حصص لشيوخ اخرين لتعويض المطلوب وهو 20،000 من الرجال. عندها وبدون سابق إنذار، ظهرت امرأة من وراء الشيخ وأهوت ببابوجها (شبشب)، وساد الديوان صمت رهيب، في حين أن الجمهور كان ينتظر شيخ الشيوخ لاتخاذ قرار بشأن البديلين الوحيدين المتاحين له:

أولا-الخروج من الخيمة، وقتل المرأة والعودة لاشهار دمها على يديه لكي يثبت بأنه غسل العار عنه.

أو ثانيا- الهروب من الخيمة كجبان يكلله العار. وعندها سيتم الاعلان عن عدم قدرته على البقاء كشيخ الشيوخ. وقد تذكرت بسرعه بأن هذا الشيخ ذاته كان ضعيف الشخصية ولا يتخذ اي قرار من دون موافقة زوجته. ولكن، في حماسه لكلماتي الثناء التي دبجتها في مدحه نسي الشيخ زوجته اما هي فقد نسيت نفسها في سَورة غضبها وبدون وعي منها وجهت ضربتها القاضية دون ان تعي ما كانت تفعله. وكان لتصرفي البديهي جعلني في موقف مشرف:

ضربت الأرض بقبضة يدي، وانفجرت ضاحكا: يا جماعة الخير، ان سبب ضحكي هو حسن حظ هذا الشيخ بأن زوجته استعملت البابوج (الشبشب) فقط أما حريمنا في بغداد فانهن يستعملن القبقاب (القبقاب الخشبي) المؤلم جداً ويمكن أن يلحق الكثير من الأضرار برؤوسنا ... ".

وانفجر الجمهور بأجمعه ضاحكا، ولعلهم قالوا إذا كان مبعوث شريف مكة قد وافق على ذلك كأمر طبيعي فمن نحن لكي نحكم وندين نسائنا؟.  وهكذا أنقذت شرف الشيخ، وحياة زوجته وحصلت على 20000 " تفاﮔـه " دون أي مزيد من المناقشة. وكان جعفر باشا ممثلا ارتجاليا ممتازاً باستطاعته تغير موقفه على الفور دون الحاجة الى فاصلة.  وعندما قدم إلى طهران لاجراء محادثات حول غرفة تجارة بغداد مع الشاه ورئيس الوزراء تيمور تاش ملتمسين منه رفع الحظر المفروض عن تصدير رأس المال بموجب لوائح التبادل القسري الذي سن حديثا، وكان قد أرسل لي برقية يطلب مني لقائه لدى وصوله ومرافقته بسيارتي الى منزلي حيث طلب البقاء مدة زيارته القصيرة. ثم أحضرته الى منزلي في إيران الذي شاطرته مع اثنين من زملائه الفرنسيين الذين غمرتهم السعادة للقاء بطل من ابطال الثورة العربية (فقد قرؤا عنه في "كتاب لورانس العرب"). وتصرف جعفر العسكري كأنه في منزله واخذ يلقي عليّ الاوامر. هل بامكانك الطبخ؟ قال ذلك بعد الوجبة الاولى، كيف تستطيع مذاق هذه الفاصوليا الاوروبية، لماذا لا تأتي بطاهي عراقي يمكنه إعداد أطباق بغدادية لذيذة. وإذا كان لا يحسن ذلك فسوف أعلمه بنفسي. فاستخدمت طاهيا عراقيا وسر الباشا بذلك سرورا عظيماً وقال لي الباشا ذات يوم : "هل تستطيع اخذي بسيارتك مع كامل الجيلاني الى مكتب رئيس الوزراء بعد ظهر اليوم ". قلت له: "أنا آسف جدا، يا باشا، فأنا ألعب لعبة البولو بعد ظهر هذا اليوم، ولكنني أستطيع اعادتك؟". فانتصب واقفا، وهو يشير بكلتا يديه، قائلا: "واي- واي، اشو ابوك كان يلعب بولو وِلَا إلي خلفه؟" فاستشطت غضبا وقلت:
 "اش شايف نفسك باشا، تفوت عليّ وعلى أبوي؟ تعال اﮔـولك، لما كنت تتجول بالحرّ وانت لابس عبا، ابوي وجدي كانوا قاعدين متريحين في سرداب منزلنا الكبير في بغداد مع العديد من الموظفين لكي يقضوا لهم حاجاتهم ... " فارتاع كامل الجيلاني الذي كان جالسا بجواري وواصل جذب كمي قائلا: "شش (اسكت)، انت ما تقدر تحـﭽـي ويا الباشا هيــﭻ" لكن الباشا نفسه تقمّص شخصيته الثانية، وأصبح يعتذر: "وي ابدالك، ابدالو الثمك، اروحلك ﮔـﭙـارة، فدوة لعيونك"، لاهجاً باللهجة اليهودية - العربية القديمة.
وبعد سنوات قليلة، عندما عدت إلى بغداد لتولي شركة والدي القديمة، واصلت علاقاتي الودية الحميمة مع جعفر باشا الذي كان قد اصبح وزير الدفاع في حكومة ياسين باشا الهاشمي ومنحني سبعة عقودٍ بما بينها شراء الأسلحة الخفيفة ومعدات عسكرية من ألمانيا النازية مقابل دفع ماركات هعـﭬـرا (ماركات التحويل) النظام النقدي الذي يسمح لليهود الألمان لتصدير البضائع المختلفة، كالأسلحة والذخائر والاجهزة العسكرية مثل المناظير، والبطانيات، الخ. وقد اودعت الحكومة الألمانية مبلغا من العملة الأجنبية ودفعت للمصدرين اليهود حوالي 40٪ من إجمالي العائدات في دويتشه ماركس.
اعتدت في كثير من الأحيان زيارة جعفر العسكري في مكتبه، حتى ان فراشه الذي يعرفني جيدا، كان يسمح لي في الدخول عليه راساً بعد ان نطرق الباب وفي عام 1936  وأعتقد أنني كنت الشخص الاخير الذي شاهد جعفر باشا العسكري حيا حوالي بضع ساعات قبل أن يغتاله جنود بكر صدقي في اول انقلاب حدث في المملكة الهاشمية القديمة في العراق قبل 15 عاما.
وفي ذلك اليوم، ذهبت إلى وزارة مع سليمان الفتاح لمناقشة العقد الذي كان لي في شراكة مع شقيقه نوري الفتاح. وبينما كنا نرتقي الدرج في السراي القديم، رأينا جعفر نازلاً الدرج الى الطابق السفلي وهو يستشيط غضباً. وعندما سأله سليمان أين هو ذاهب، رد الباشا: "راح اروح ..... أخته الهاذا ابن الـﮔـحبة بكر" (أي ذاهب لتعليم بكر درسا). "فقد بعث لي انذارا للاستسلام له! وراح اوري اشلون جعفر العسكري راح يستسلم"، ولاحظ سليمان بأن جعفر لم يكن مسلحا وعرض على الباشا اخذ مسدسه ولكن الأخير رفض ذلك، قائلا: "آني راح آنطيه ﭽـلاﮔـه على طيزه ... "، وأمر سائقه لنقله إلى شهربان، وكان ذلك آخر مرة ارى فيها جعفر باشا العسكري، وعندما وصل في شهربان استقبله اثنتي عشرة ضابطا من القوات الجوية العراقية، بينهم محمد علي جواد، وهو من اصدقائي الحميمين. وكتب العديد من المؤرخين العراقيين القصة الكاملة لاغتيال جعفر وذكروا أسماء الضابط الذي اغتاله.

         

وقد جرت مشادة كلامية حامية مع بكر صدقي وأطلق احد الضباط النار عليه من مسافة قريبة. وقيل لي بعد سنوات عديدة (في 1977-1978) من مصدرين موثوقين ان الضابط الذي أطلق النار على جعفر لم يكن سوى حسن توهاتة (Tohata) وفي الواقع فهذا أمر غريب جدا! بالنظر إلى حقيقة أن حسن كان وبقي صديقا حميما لصباح السعيد أبن أخت جعفر باشا العسكري! .

  

  

إذاعة وتلفزيون‏



أفلام من الذاكرة

الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

751 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع