ألأندبينديت عربية / سامي عمارة:مع حلول الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفياتي، في ديسمبر (كانون الأول) 1991، تداهمنا الذكريات ويتوالى تدفق الجديد من المعلومات التي تميط اللثام عن بعض خفايا ذلك "الزلزال" الذي لا تزال تبعاته تلقي بكثير من ظلالها الكئيبة على مجريات الأحداث في الساحتين الإقليمية والعالمية.
الكارثة قد تتمثل في ما توالى منذ ذلك الحين من اعترافات أفقدت نحو 300 مليون شخص في ذلك الاتحاد السوفياتي القدرة على الدهشة. لم يكن ثمة من يتصور مدى الهشاشة التي اتسمت بها القدرات الذهنية لممثلي الأنساق العليا للسلطة، في تلك البلاد المترامية الأطراف والمتعددة الأقوام والأعراق. وعلى الرغم مما حفلت به الساحة السياسية السوفياتية في ذلك الحين من "عبثية" أسفرت لاحقاً عن انهيار الدولة، فإنه كان من الممكن إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والحيلولة دون اختفاء الدولة من خريطة السياسة العالمية. الأسباب كثيرة، وهي شديدة التعقيد، وقد تباينت وتشابكت وجمعت بين تدهور الأوضاع الاقتصادية وعبثية العلاقات الشخصية داخل أعضاء الفريق الواحد، زادها توتراً وارتباكاً ما تعرضت له من تدخل خارجي بلغ في بعض جوانبه حد سقوط بعضهم في شرك العمالة سواء عن قصد أو من دون قصد.
وقد كانت هذه العلاقات وما حفلت به من صراعات حول السلطة غير معلنة بين أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي، المقدمة المناسبة لتضافر ما واكبها من ارتباك في الإدارة وتدهور في الاقتصاد وتصاعد لوتيرة تدخل كثيرين من ممثلي الدوائر الأجنبية ممن نجحوا في اللعب على أوتار كل هذه السلبيات.
وعلى الرغم مما قد يبدو من أن عملية الانهيار تستمد جذورها وبداياتها من سنوات البيريسترويكا (إعادة البناء) مع تولي ميخائيل غورباتشوف السلطة في الكرملين في مارس (آذار) 1985، فإن الواقع ومعه اعترافات كثيرين من أعضاء المكتب السياسي ومن كان منهم على مقربة، يقول إن إرهاصات ذلك السقوط المريع بدأت منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، أي قبل وصول غورباتشوف إلى السلطة بقرابة عشر سنوات. وهي الفترة التي سميت بفترة الركود، وشهدت بدايات تدهور الحالة الصحية لليونيد بريجنيف الذي يقولون إنه أعرب أكثر من مرة، منذ ذلك الحين، عن رغبته في التنحي عن السلطة. ويقول شهود عيان أيضاً إن الصراع الذي احتدم حول خلافته كان وراء ما يشبه الإجماع على ضرورة بقائه إلى حين الوقت المناسب لحسم الصراع بين عدد من أبرز أقطاب المكتب السياسي في ذلك الحين، وفي مقدمتهم فيكتور غريشين في موسكو، وغريغوري رومانوف في لينينغراد، وفلاديمير شيربيتسكى في كييف (أوكرانيا)، وبيتر ماشيروف في مينسك (بيلاروس) وآخرون من أعضاء المكتب السياسي. وعلى الرغم من أن يوري أندروبوف حظي بما يشبه الإجماع على انتخابه خليفة لبريجنيف، فلم يكن ذلك سوى خطوة في اتجاه ترحيل الصراع الذي زادت من حدته سرعة وفاته واضطرار الجميع إلى قبول أكثرهم ضعفاً وترهلاً، وهو قسطنطين تشيرنينكو الذي سرعان ما وافته المنية ولم يكن مضى على توليه الحكم أكثر من عام واحد. وكان ذلك خير أرضية سمحت لأندريه غروميكو ومن وقف إلى جواره من غير أقطاب الصراع من أعضاء المكتب السياسي بالتقدم بترشيح غورباتشوف للأمانة العامة للحزب الشيوعي السوفياتي، يسانده كونه أصغر أعضاء المكتب السياسي سناً، والرغبة الشعبية في تفادي تكرار "مهزلة تنصيب عواجيز السلطة"، التي طالما أثارت تندر وسخرية العامة والخاصة داخل الاتحاد السوفياتي وخارجه. وما إن وصل غورباتشوف إلى الكرملين حتى سارع إلى التخلص من كل من كان يهدد طموحه، وفي مقدمتهم غريشين في موسكو ورومانوف في لينينغراد. من هنا، ظهر إلى جواره عدد ممن لم يكن ثمة من يتوقع ظهورهم في أعلى أنساق السلطة ممن تزعموا لاحقاً مسيرة التغيير، وما أسفرت عنه من كوارث سرعان ما عجلت الانهيار.
البداية الحقيقية للصراع
جاء غورباتشوف بألكسندر ياكوفليف الذي ثمة من يقول إنه صاحب سياسات "البيريسترويكا" بكل ما تحمله بين طياتها من أفكار "الثورات الملونة"، التي كشفت الإدارات الأميركية المتعاقبة عن تدبيرها سبيلاً إلى تحقيق ما أضمرته وتضمره من مخططات لإطاحة الدولة. وفي هذا الصدد نتوقف لنشير إلى ما أعاده الرئيس فلاديمير بوتين إلى الأذهان خلال مؤتمره الصحافي السنوي الأخير، حول أن هناك في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق وودرو ويلسون من كشف عن خطة تقول بضرورة "تفكيك" روسيا وبعدها الاتحاد السوفياتي الذي ظهر في عام 1922 إلى جمهورية واحدة في سيبيريا، يمكن أن تضاف إليها أربع أخرى في الجزء الأوروبي من مساحة تلك الدولة الوليدة. وكان غورباتشوف قد استعان أيضاً بإيغور ليغاتشيف القادم من غرب سيبيريا لمعاونته في حسم صراعه مع من كانوا يُسمون الحرس القديم. وفي محاولة للتخلص من غريشين في أمانة الحزب في العاصمة، جرى تصعيد بوريس يلتسين القادم من سفيردلوفسك في الأورال بما عُرِفَ عنه من قدرات تنفيذية وصدامية سرعان ما أسهمت في "انقلاب السحر على الساحر". فلم يمضِ من الوقت كثير حتى انقلب يلتسين على غورباتشوف متكئاً على ما اكتسبه من شعبية استندت في معظم جوانبها إلى تبني الملايين من أبناء العاصمة كثيراً من شعارات "البيريسترويكا" وما تضمنته من أفكار ليبرالية، وفي مقدمتها ما يتعلق بحرية التعبير والميول نحو اقتصاد السوق والتعاونيات وغير ذلك من "أفكار الثورات الملونة"، التي عادت الدوائر الغربية إلى محاولات نشرها في وقت لاحق في عدد من جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق والبلدان العربية، استناداً إلى ما واجهته وتواجهه هذه البلاد من متاعب ومشاكل لأسباب يعود معظمها إلى فساد وترهل قاداتها.
من هنا، كانت البداية الحقيقية للصراع بين يلتسين وغورباتشوف في وقت لم يكن أي منهما قد حسم موقفه بعد من هذه الأفكار التي لعبت الدوائر الغربية على أوتارها. وما إن عاد يلتسين إلى الأضواء مع مؤتمر نواب الشعب للاتحاد السوفياتي في مايو (أيار) 1989 حتى تلقفته أوساط الليبراليين والمعارضين داخل أروقة المؤتمر لتشكل معه "مجموعة النواب الإقليمية" مع أندريه ساخاروف المنشق السوفياتي ورفاقه، الفريق الذي قاد لاحقاً مسيرة الانشقاق والتمرد ضد غورباتشوف، إلى جانب دعم ممثلي التوجهات الانفصالية في جمهوريات البلطيق. وأسهمت شعارات "البيريسترويكا" و"الغلاسنوست" (الشفافية) في التخفيف من قبضة الدولة وعقائدية الحزب الشيوعي ومركزيته، حتى بلغ الأمر في وقت لاحق إسقاط "المادة السادسة" من الدستور التي كانت تكفل للحزب وقياداته السيطرة المطلقة وتحظر التعددية. وقد أسهم كل ذلك، إلى جانب تدهور الأوضاع الاقتصادية، في انفجار المشكلة القومية بداية من مظاهرات واضطرابات قزاخستان في عام 1986 بسبب تغيير دين محمد كونايف الأمين العام للحزب الشيوعي في قزاخستان، واستبدال غينادي كولبين الروسي القومية به، ما أثار حفيظة القومية الرئيسة هناك، وتبع ذلك تحركات واضطرابات قومية في جورجيا وأذربيجان وقيرغيزيا إلى جانب ما اجتاح جمهوريات البلطيق من ميول مماثلة. ويذكر غورباتشوف هذه الموجة من الاضطرابات، وما وصفه آنذاك "بموكب إعلانات السيادة والاستقلال" التي كانت أستونيا ذات الكثافة السكانية الأقل بتعدادها الذي لم يكن يتجاوز المليون ونصف المليون نسمة، أول من استهلها في نوفمبر (تشرين الثاني) 1988 بإعلان أولوية دستورها وقوانينها، وهو ما يخالف المبدأ المركزي لنظام الفيدرالية، بوصفها أول مظاهر التحرك نحو انهيار الدولة. ولم يمضِ من الزمن كثير حتى سارعت لاتفيا وليتوانيا المجاورتان على ضفاف البلطيق إلى إجراءات مماثلة كانت الشرارة التي أشعلت نيران المشكلة القومية، في توقيت مواكب لإعادة النظر في كثير من وقائع التاريخ على غرار معاهدة "مولوتوف - روبنتروب" (بين ستالين وهتلر)، بدعم وإيعاز من شخصيات يكتنف الغموض بعضاً من جوانب سيرتها الذاتية، ومنها ألكسندر ياكوفليف فيلسوف "البيريسترويكا" الذي كشف فلاديمير كريوتشكوف رئيس جهاز "كي جي بي"، وآخرون، بالوثائق، عن تجنيده من جانب الاستخبارات المركزية الأميركية، وهو ما أبلغ به غورباتشوف، وما سبق وأشرنا إليه في تقارير سابقة من موسكو.
تفكيك الاتحاد السوفياتي
جاء ذلك في توقيت مواكب لما عصف بالبلاد من أزمات منهجية، وفي الوقت الذي فقد فيه كثيرون من مواطني الاتحاد السوفياتي الثقة في الأيديولوجيا الشيوعية على خلفية تفاقم الأزمات الاقتصادية، وما كان يعيشه الاتحاد السوفياتي من تخلف في التكنولوجيا للاتحاد السوفياتي. حتى فكرة "البيريسترويكا" التي علقت عليها الملايين كثيراً من آمالها لم تجد التطبيق الصحيح لكثير من جوانبها، فضلاً عن سقوط غورباتشوف ورفاقه في شرك أولوية التركيز على الجانب الليبرالي والإصلاح السياسي على حساب الإصلاح الاقتصادي، على عكس ما كانت الصين الشيوعية أخذته في الاعتبار. وذلك ما نجح في استغلاله بوريس يلتسين في روسيا الاتحادية، في أعقاب خطوات مماثلة من جانب عدد من جمهوريات البلطيق كما أشرنا آنفاً. وقد كشفت موسكو الرسمية في شريط وثائقي أذاعته أخيراً على شاشة القناة الإخبارية الرسمية "روسيا 24" لمناسبة الذكرى 30 لانهيار الاتحاد السوفياتي عن بعض من أسباب الانهيار، وإن سقط بعض من بقي من أبطال الحدث في شرك "الكذب" الذي لا يمكن تبريره بالنسيان. ففيما ادعي أو زعم غينادي بوربوليس سكرتير الدولة وكبير مساعدي يلتسين أن الوفد الروسي الذي سافر إلى بيلاروس في 7 ديسمبر 1991، لم يكن يستهدف التوقيع على اتفاقيات "بيلوفجسكايا بوشا" التي أنهت قانونياً وجود الاتحاد السوفياتي وهو ما سنأتي إليه لاحقاً، قال نور سلطان نزاربايف الرئيس السابق لقزاخستان إنه كان مدعواً إلى الانضمام إلى رؤساء روسيا وبيلاروس وأوكرانيا لتوقيع هذه الاتفاقيات.
أما الأهم فهو ما قاله، وسبقه في ذلك كثيرون، حول أن "يلتسين كان أول من بادر بطرح فكرة تفكيك الاتحاد السوفياتي في 12 يونيو (حزيران) 1990 بإقرار مؤتمر نواب الشعب لروسيا الاتحادية إعلان السيادة والاستقلال، الذي يعني عملياً إلغاء تبعية روسيا للاتحاد السوفياتي والتخلص من ميخائيل غورباتشوف". وقال إن ذلك كانت نقطة البداية لانفراط عقد الاتحاد السوفياتي ودخول جمهورياته في درب الانفصال والاستقلال. فما إن فرغ يلتسين من استصدار "إعلان السيادة والاستقلال" في 12 يونيو 1990 حتى تحول إلى إقرار ما يراه من قوانين تعطي روسيا الاتحادية حق أولوية تشريعاتها وقوانينها وتوسيع سلطات هيئاتها التنفيذية والتشريعية، فضلاً عن إقرار منصب الرئيس الذي انطلق منه في معاركه ومقارعته لخصمه وغريمه غورباتشوف. بل وبلغ به الأمر حد التفكير في استقلال قواته المسلحة وتشكيل الجيش الخاص بروسيا الاتحادية. فضلاً عن مبادرته بزيارة تاللين، وليس "تالين" (أقر برلمان أستونيا إضافة اللام الثانية في اسم العاصمة تمييزاً عما كانت أقرته التشريعات السوفياتية) لمباركة إعلان رؤساء جمهوريات البلطيق حول الانفصال عن الاتحاد السوفياتي في يناير (كانون الثاني) 1991. وكان يلتسين اتخذ موقفاً معارضاً من كل ما كان غورباتشوف يطرحه من مبادرات وأفكار على طريق إعداد المعاهدة الاتحادية الجديدة. وعلى الرغم من موافقته على مشاركة روسيا الاتحادية في الاستفتاء الشعبي الذي جرى في مارس 1991 حول الرأي في الإبقاء على الاتحاد السوفياتي دولة اتحادية، وعلى الرغم مما أسفر عنه الاستفتاء من موافقة الأغلبية الساحقة التي تزيد على 76 في المئة على بقاء الاتحاد السوفياتي دولة موحدة، فقد شهدت الأحداث التالية جنوح يلتسين نحو مزيد من محاولات الإجهاز على غريمه التاريخي غورباتشوف.
الانقلاب وتقليص صلاحيات غورباتشوف
لذا، لم يكن غريباً أن يكون يلتسين أول المستفيدين من محاولة الانقلاب الفاشلة التي قام بها عدد من رفاق غورباتشوف من ممثلي الحرس القديم والتيارات المحافظة في 18 أغسطس (آب) 1991. فما إن أعلن الانقلابيون عن خطتهم ومحاصرة غورباتشوف في منتجع "فوروس" في شبه جزيرة القرم، على الرغم مما يشوب هذه المعلومات من دقة وحاجتها إلى مزيد من المراجعة في ضوء ما قاله مدبرو "الانقلاب" إن غورباتشوف كان على علم بخطتهم، حتى تفرغ يلتسين إلى الانفراد بقيادة الاتحاد السوفياتي وإصدار القوانين، بما في ذلك قرار حظر نشاط الحزب الشيوعي السوفياتي، وغيره من الأوامر التي تدخل في صميم صلاحيات رئيس الدولة والقائد الأعلى للقوات المسلحة. وذلك ما أشار إليه أناتولي لوكيانوف رئيس السوفيات الأعلى لروسيا الاتحادية في حديث خاص إلى صحيفة "الشرق الأوسط" نشرته في حينه. وهو ما دفع رؤساء كثير من الجمهوريات السوفياتية إلى تعجل إصدار قرارات استقلال بلدانهم التي توالت الواحدة تلو الأخرى في الأيام الأخيرة من أغسطس 1991، بما يحمل مضمون الاحتجاج على تصرفات يلتسين وانفراده بصلاحيات رئيس الاتحاد السوفياتي من دون تخويل قانوني بذلك.
وتوالت الخطوات الانفصالية ومعها مزيد من جنوح يلتسين صوب "تقليص" صلاحيات غورباتشوف وإلحاق كثير من الأذى والإهانة بشخصه، على نحو بدا معه مهيض الجناح مسلوب الإرادة. وتسارعت وتيرة الأحداث حتى سبتمبر (أيلول) 1991 موعد انعقاد مؤتمر نواب الشعب للاتحاد السوفياتي الذي أقر للمرة الأولى مشروعية قرارات جمهوريات البلطيق أستونيا ولاتفيا وليتوانيا بشأن استقلالها وخروجها من الاتحاد السوفياتي، وإن التزم الصمت تجاه مواقف جورجيا التي كانت من أولى الجمهوريات التي اتخذت قراراً مماثلاً في 1988.
ويتوالى تباين الاعترافات والتصريحات التي يبدو بعضها أقرب إلى "الأكاذيب"، بشأن مشروع اتفاقيات الانفصال وتأسيس منظومة "كومنولث البلدان المستقلة" الذي جرى تدبيره وإعلانه في غابات بيلاروس "بيلوفجسكايا بوشا". وكان ستانيسلاف شوشكيفيتش رئيس مجلس السوفيات الأعلى لجمهورية بيلاروس (وهو عالم فيزياء ورياضيات لم يكن له أي صلة بعالم ودهاليز السياسة) أعلن أنه دعا رئيسي روسيا وأوكرانيا إلى رحلة صيد في غابات بيلاروس، ليعود يلتسين ليقول إنه اتفق مع شوشكيفيتش على زيارة رسمية لمينسك لمناقشة آفاق التعاون بين البلدين، وتوقيع ما يمكن من اتفاقيات لتوطيد أواصر العلاقات بينهما. وذلك ما قاله لغورباتشوف قبيل سفره إلى مينسك، مضيفاً احتمالات أن يلتقي هناك ليونيد كرافتشوك رئيس أوكرانيا، الذي كانت أقرت بلاده إعلان الاستقلال وكشفت عن الرغبة في الانفصال، وعدم الانضمام إلى المعاهدة الاتحادية الجديدة التي كان وافق مبدئياً عليها تسعة من رؤساء البلدان السوفياتية، "رغبة من جانبه في المزيد من التشاور".
ومضى يلتسين ليقول إن غورباتشوف عهد إليه بإبلاغ الرئيس الأوكراني باستعداده لمراعاة كل ما يطرحه من ملاحظات من أجل إقناعه بقبول الانضمام إلى هذه المعاهدة.
روايات مختلفة
وتفسيراً لما أشرنا إليه عن تباين التصريحات وما قد يرقى إلى حد السقوط في شرك ما هو أقرب إلى الأكاذيب، نستشهد هنا بما قاله كرافتشوك في حديث خاص نشرته في حينه في مجلة "المصور" المصرية، وكنت التقيته في مكتبه الكائن في مقر اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الأوكراني السابق، الذي تحول منذ ذلك الحين إلى مقر لرئاسة الجمهورية في العاصمة كييف، تعليقاً على خلافاته مع غورباتشوف ودور يلتسين في انهيار الاتحاد السوفياتي، إن "يلتسين زاره في كييف في أعقاب مداولات إعداد المعاهدة الاتحادية، التي كان من المفروض أن يوقعها رؤساء الجمهوريات السوفياتية عدا جمهوريات البلطيق وجورجيا ومولدوفا وأرمينيا".
نقل كرافتشوك ما أبلغه به يلتسين عن أنه مكلف من جانب غورباتشوف بأن يعرض عليه -أي على كرافتشوك- إدخال ما يراه مناسباً من تعديلات كي يتسنى طرح المعاهدة للتوقيع. وكان ذلك قبل سفر غورباتشوف في إجازته السنوية في أغسطس 1991. وقال كرافتشوك إنه رد سائلاً يلتسين "وما رأيك أنت في مثل هذا الاقتراح؟". وحين أخبره يلتسين بأنه سيوافق على ما يعلنه كرافتشوك من مواقف، قال الرئيس الأوكراني إنه لن يوقع على أي معاهدات اتحادية. وهو ما عقَّب عليه يلتسين بقوله "وأنا أيضاً لن أوقع مثل هذه المعاهدة".
من هنا، ولدت فكرة اللقاء الرباعي بين رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروس وقزاخستان، بشأن الخروج من الاتحاد السوفياتي.
وبغض النظر عما إذا كان الحديث جرى في غابات بيلاروس أو في كييف، وقبل انقلاب أغسطس أم في ديسمبر من العام نفسه، نشير إلى أن النية كانت "معقودة" حول ضرورة التخلص من غورباتشوف من خلال فكرة توقيع مثل تلك الاتفاقيات التي جرى التوصل إليها، وليس كما قال بوربوليس إن الوفد الروسي "لم يكن لدى زيارته مينسك يعرف أمراً محدداً، ولم يكن مستعداً لتوقيع اتفاقيات على غرار اتفاقيات بيلوفيجسكويه بوشا".
ولعل تشكيلة الوفد الروسي الذي كان يضم رئيس الدولة يلتسين، والرئيس التنفيذي لحكومتها إيغور غايدار وسكرتير الدولة غينادي بوربوليس، ووزير الخارجية أندريه كوزيريف، والمستشار القانوني للرئيس سيرغي شاخراي، يمكن أن يؤكد حرص يلتسين واستعداده لاتخاذ ما خلص إليه من قرارات. وقد أكد ذلك ستانيسلاف شوشكيفيتش رئيس السوفيات الأعلى لبيلاروس في حديثه إلى برنامج القناة الإخبارية الرسمية الروسية "روسيا 24" الذي أذيع لمناسبة الذكرى 30 لانهيار الاتحاد السوفياتي، بقوله إن "الوفد الروسي هو الذي عرض فكرة التوصل إلى اتفاق". وقال أيضاً إنه "اضطر إلى استدعاء السكرتيرة وطلب آلة طابعة لكتابة ما يمكن أن يُملى إليها من بنود المعاهدة، وكانت 18 بنداً".
وفي هذه التصريحات ما يتباين مع ما سبق وجرى الكشف عنه. قال كوزيريف وزير الخارجية الروسي، وهو ما نقلناه مع كثيرين من الصحافيين في حينه، أنه "جرى إعداد المعاهدة بعد التوصل إلى المخرج القانوني الذي توصل إليه شاخراي حول أحقية البلدان المؤسسة للاتحاد السوفياتي في مبادرة الخروج منه. اعترف كوزيريف أنه تولى إعادة كتابة بنود المعاهدة التي أعدها شاخراي نظراً إلى رداءة خطه، ووضعها تحت باب السكرتيرة نظراً إلى تأخر الوقت الذي تجاوز منتصف الليل، على أمل أن تكون جاهزة للتوقيع مع صباح اليوم التالي. لكنه علم في الصباح أنه وضع المعاهدة تحت باب غرفة أخرى غير غرفة السكرتيرة".
انفراد
غير أن الأكثر أهمية وإثارة هو ما اعترف به شوشكيفيتش في حديثه لقناة "روسيا 24" حول أن "الوفد الروسي هو الذي طرح ضرورة الخروج من اللقاء باتفاق حول تأسيس منظومة كومنولث البلدان المستقلة"، التي عاد رؤساؤها إلى الاجتماع ثانية في المآتا في 21 من ديسمبر من العام نفسه للإعلان عن انضمام البلدان الثمانية الأخرى، وهي كل بلدان الاتحاد السوفياتي السابق باستثناء جمهوريات البلطيق الثلاث وجورجيا، إلى المعاهدة التي وقعها رؤساء روسيا وأوكرانيا وبيلاروس (وكان اسمها بيلاروسيا).
وكان نزاربايف عاد واعترف في حديثه إلى قناة "روسيا 24" بأنه رفض دعوة الرؤساء الثلاثة إلى الانضمام إلى توقيع المعاهدة، وهي التي بدت "تحالفاً سلافياً ثلاثياً"، لم يكن راغباً في إضافة "الورقة الآسيوية" إليه بانضمام بلاده إلى مثل ذلك التحالف، وهو ما أبلغ به الرئيس غورباتشوف في حينه. وقال نزاربايف إن غورباتشوف وعدداً من رؤساء الجمهوريات السوفياتية السابقة، ومنهم يلتسين، كانوا قريبين من التوصل إلى توقيع المعاهدة. بل وقال إن الأمر كان استقر على بقاء غورباتشوف رئيساً للبلاد، على أن يتولى نزاربايف منصب رئيس الحكومة. ولعل ذلك ما أثار حفيظة يلتسين الذي بدا أنه يمكن أن يخرج خالي الوفاض بعد كل ما بذله من مجهودات استهدفت التخلص من غريمه والانفراد بحكم روسيا مع رفاقه الذين أجهزوا على ما بقي من مكانتها ووقارها، واستنزفوا ثرواتها، وسلموا مقدراتها إلى خصومها التاريخيين من زعماء الناتو والبلدان الغربية.
لعله يكون من الطريف هنا الإشارة إلى ختام هذه المشاهد العبثية نقلاً عن نزاربايف أول رئيس لقزاخستان، وأحد شهود اللقاء التاريخي العاصف بين غورباتشوف ويلتسين في الكرملين في أعقاب عودته من مينسك. قال نزاربايف "كان شوشكيفيتش تولى إبلاغ الرئيس غورباتشوف بما جرى التوصل إليه في غابات بيلاروس، بينما تولى يلتسين إبلاغ الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش بإنهاء وجود الاتحاد السوفياتي. وقال إن غورباتشوف طلب من الرؤساء الثلاثة المثول في مكتبه في صباح اليوم التالي. وحدد لذلك الساعة العاشرة موعداً. لكن رئيسي أوكرانيا وبيلاروسيا اعتذرا عن الاستجابة لدعوة غورباتشوف متذرعين بمسؤولياتهما المحلية. أما يلتسين فقد تخلف عن الوصول، ما اضطر غورباتشوف إلى الاتصال به. أعلن يلتسين عن خشيته من اعتقاله، لكن غورباتشوف منحه ما يريد من إجابة، حول أن أحداً لن يقوم بذلك. وأضاف نزاربايف أن غورباتشوف داهم يلتسين بسيل من التساؤلات عما إذا كانوا يفقهون ما أقدموا عليه من خطوات؟ وحول ماذا يمكن أن تكون عليه أوضاع ووضعية القوات والأسلحة النووية؟ ما رد عليه يلتسين محتجاً بأنه لن يجيب عن أي من هذه الأسئلة وأنه يرفض أن يرد على أي استجوابات".
عندئذ انفجر غورباتشوف قائلاً إنني ما زلت الرئيس ومن هذا الموقع أمارس مهماتي. وأشار إلى كرسي الرئاسة في غرفة مكتبه، ما سارع يلتسين بالتعليق عليه بقوله إن "ذلك إلى حين. إنني من سيشغل مكانك على هذا المقعد اعتباراً من اليوم".
وهو ما أعقبه سيل من الشتائم والانتقادات كل في حق الآخر، على حد قول نزاربايف الشاهد الوحيد لهذه المشاهد العبثية البالغة الإثارة والتشويق، وتلتها مشاهد أخرى أشد حدة وأكثر مأساوية كانت إيذاناً بغروب الإمبراطورية، ومقدمة لما تلا ذلك من أحداث تدهورت معها أوضاع البلاد وتراجعت روسيا إلى الحدود الدنيا غير المسبوقة التي لم يشهد تاريخها مثيلاً لها من قبل.
ولتلك القصة بقية، بل فصول أخرى كثيرة قد تجد طريقها إلى النشر في أوقات لاحقة.
4888 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع