في ذمم التاريخ
الگاردينيا / خاص:تمر الأيام وتعبر السنون، وتبقى في الذاكرة شواهد وأحداث أبطالها تركوا اثراً في الذاكرة الجمعية للبلاد، وأكثر الشواهد أثراً، تلك التي تتعلق بمسيرة الجيش العراقي منذ تأسيسه عام ١٩٢١ والى يومنا هذا الذي لم يستقر فيه الحال كي يترك المنتسبون أثراً لمن يأتي بعدهم أجيال وأجيال.
حوادث كثيرة وأبطال كثر من الضباط وضباط الصف والجنود، ومواقف ميزهم صفوة قوم، وجعلت عموم العراقيين يفخرون بهم وبجيشهم، ويتغنون به وبرموزه في كل المناسبات الوطنية والشعبية، حامياً لهذه البلاد.
كان في تلك المسيرة الطويلة جعفر العسكري مؤسساً،وزملاءه من الضباط القادمين من العسكرية العثمانية المعروفة بشدة انضباطها وكفاءة رجال قاتلوا الى جانب فيصل الأول في الثورة العربية ضد العثمانيين، أرسوا قواعد تأسيس صحيحة لجيش أرادوه جيشاً مهنياً وطنياً لكل أهل العراق، وقد تحققت بعض أمنياتهم ووأدت أخر على أيدي انقلابيين دفعوا المؤسسة العسكرية الى التدخل في السياسة، واسهموا في حرفها عمداً عن المسيرة التي أرادها الأوائل مهنية مستقلة.
وكان هناك اللواء الركن عمر علي، قائد الفرقة الأولى المعروف بمواقفه الشجاعة في فلسطين، وقيادته الكفوئة لجنود ضحوا بأنفسهم من أجل عروبة فلسطين، حتى دفنوا في أرضها شاهداً لتلك التضحية سيبقى الىالأبد.
وكانت هناك مواقف نزاهة يشهد لها المنتسبون، وقصص يتداولها الأبناء، أكثرها شيوعاً تلك التي بطلها المرحوم محمود ملكو:
محمود ضابط برتبة عميد عام ١٩٧٩، معروف بشدة انضباطه، ونزاهته، وحبه المفرط الى العراق وجيشه، بدأت قصته يوم طلب وزير الدفاع من الفريق الركن جبار شنشل رئيس أركان الجيش ترشيح ضابط كفوء وأمين لتسلم مهام مشتريات الجيش من الملابس والمعدات، إثر الاستعدادات الجارية لإكمال تجهيز الجيش، وتهيئته لمرحلة حرب محتملة غير معلنة، وكان شنشل دقيقاً وصادقاً ومهنياً بكل المعايير العسكرية، رد من غير تردد ان مرشحه هو العميد محمود، ووافق الوزير على الاسم كذلك من غير تردد لمعرفته الدقيقة بتقييمات شنشل وحيادتيه في الترشيح والاختيار.
مر على الاجراء أشهر قليلة، طلب الوزير الاجتماع برؤساء اللجان الخاصة بالمشتريات الموزعة بين الأسلحة والمعدات والتجهيزات، وطلب منهم التحدث عن المصاعب والمعوقات، وما تم وانجازه حتى يوم الاجتماع.
كان أول المتحدثين العميد محمود، قدم شرحاً عن التنافس بين الدول والشركات لتجهيز الجيش، واختيارهم رومانيا القريبة مواقفها من العراق، وجودة تجهيزاتها،خاصة ما يتعلق منها ببدل القتال وأحذية العرضات، ونوه عن إنجاز لجنته عملها في تأمين كل التجهيزات المطلوبة حسب الخطة الموضوعة في ذلك العام، قدمها مشفوعة بالأرقام، وقبل أن يراجع الوزير المنجز والأرقام المثبتة في التقرير، قدم العميد قائمة إضافية بتجهيزات أخرى لم تكن واردة في خطة الجيش آنذاك.
سأل الوزير عن ماهية هذه التجهيزات وعن السبب في شرائها وهي في الأصل خارج الخطط والأرصدة المخصصة للتجهيز؟
رد العميد محمود ملكو بثقة عالية في النفس:
لقد قدمت له الشركة الرومانية المتفق معها على التجهيز صكاً بعشرة آلاف دولار، عمولة عن الصفقة التي تمت معهم، ونوهت استعدادها لإيداعه بأي مصرف عالمي يفتح فيه حساباً أو موجود له حساب في الأصل، وقد أخبر زملائه في اللجنة بأمر الصك، وقام بصرفه وشراء تجهيزات إضافية يعتقد الجيش بحاجة اليها في المستقبل القريب، ومن بعد هذا الشرح قدم قائمة بالمشتريات الإضافية وصورة الصك الذي بقيّ شاهداً على نزاهة هذا الضابط وأمانته التي أشاد بها الوزير ورئيس الأركان.
كانت تلك الحادثة شاهداً أبقت العميد محمود ملكو في الذاكرة العسكرية، حتى يوم احالته على التقاعد بعد بلوغه السن القانوني، وعودته الى مدينته الموصل ليعيش فيها على ذكرى الأمانة المهنية راضياً عن سيرته العسكرية، والى يوم وفاته في السادس من هذا الشهر شباط عام ٢٠٢٢ .
لقد شيع العميد الى مثواه الأخير من بقايا جيله وأبناء محلته والضباط وأجيال أخرى تبعته، تشهد نزاهته، تضعه مثالاً يحتذى به في وقت قلت فيه النزاهة، وتغير شكل الأحداث من البطولات والتغني بالاستقامة الى الانحياز والتدافع في الاستغلال والكسب غير المشروع.
لقد رحل العميد محمود مبكر وبقت مسيرته المهنية شاخصة في عقول الكثيرين، وعلى الرغم من أن رحيله قد حصل في زمن غير زمانه، لكن مسيرته المميزة قد تفتح أبواب الامانة أمام أجيال يمكن أن تسلك يوماً طريقه في حياة مهنية هي القادرة وحدها إعادة الجيش الى خانته الوطنية جيشاً لكل العراقيين.
مع تحيات مجلة الگاردينيا
596 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع