حلم خارج المألوف...

  

                     

         

  

       

يحدوني الأمل أن أترك هذا المكان القابع قريبا من حافة القطب الشمالي .
مللت الجلوس في مقاهٍ أوسعها البعض بنقاشات السياسة والتدخل في شؤون البلاد.

كرهت الاستفسار عن العشيرة والأصل والتفتيش بين ثنايا الكلام عن الطائفة التي أنتمي إليها وباقي العباد.  
أتركه مكانا يشعرني مدفون في بلورات الثلج البيضاء طوال نصف عام وأكثر بقليل.
أودع بتركه أشجارا تورق خجولة من بين أكوام الثلج طوال العام... أتخلص من كوابيس الغوص في مياه باردة كلما قلت مقاييس التدفئة عن المألوف.
أترك هذا وذاك وأعود إلى أزقة كرخنا البغدادي التي مشيتها حافيا في أول ذهاب إلى مدرسة التربية الإسلامية .

      


إلى شريعة النواب التي سبحت فيها متحديا ذاك الختم الذي أوقعه ( الملا )على حافة ذراعي اليمنى.
إلى بيتٍ عتيق أورثنا إياه أب غادرنا مبكرا، لو أعطيَّ في مجاله التاريخ فرصة أو رأيا لصنفه من بين الآثار التي لا يجوز التلاعب فيها بأي حال من الأحوال.

                


إلى الشناشيل التي اقتلعت مساميرها رواسب الفقر وقلة الترميم لتبقى مجرد أخشاب تتدلى من الأعلى دون انتظام.
إلى دكان عبد شهد ( أبو هوبي ) المشهور بعلاقته مع الأهل وسعيه لتزويد سكنة المحلة بحاجياتهم على أساس التقسيط المريح ولو عانة في اليوم... إلى أشياء كانت جميلة في ذاك الكرخ الذي سحقته أفكار التطوير وحولته أكوام اسمنت حديدي تنتصب فوق أجساد الكرخيين الأصلاء بلا روح.

   


ينبهني من حلم العودة إلى ذاك المكان صوت قادم إلى المقهى يسأل عن نتائج الانتخابات الأولية، يفتخر بعدم ذهابه عمدا للانتخاب ردا على توقعات مسبقة بالتزوير. فتيقنت أن العودة إلى ذاك المكان مستحيلة حتى في الأحلام.
يحدوني الأمل حالما بعد توقف السؤال في أن أترك هذا الزمان الذي أوقفه البعض عند أيام الجاهلية، حملوا فيه سيوف أبقوها مشرعة من قبل أيام الجاهلية... زمن اختزلوه بسيف معقوف وفتوى قتل بطيء وسيقان حورية.
زمن ملؤه حقدا وملامة غل على من يقف في غير زمانهم لا يسايرهم في الانحياز والعود المحمود إلى أيام الجاهلية... كرهته زمنا يحمل بين أجنحته عفن الذل ومقت التسقيط  وحنق الطائفية.
حلمت بالخروج من وقعة إلى زمن آخر، فكرت أن اقرنه في المكان الذي خسرت العودة إليه خيالا بسبب سؤال الجليس عن الانتخاب وافتراض التزوير وعدم جدوى التغيير، فوجدت نفسي مرغم العود خيالا إلى زمن الشباب، ذاك الذي كانت فيه بغداد قبلة ود لكل الأعمار، لا تنام أنديتها الليلية مرحا، لا تهدأ مآذنها دعوة إلى الخير وراحة النفس تبركا.
لا تسمع في ربوعها دعوات الأم في العودة للبيت سالما.

  


ذاك الزمن الذي أكملت فيه الكلية العسكرية بدورتها الرابعة والأربعين عام  1967 ونسبت إلى الفوج الثالث لواء الخامس عشر، وهو ماسك مهمة المراباة على تل السمكة في حوض راوندوز.
زمنٌ لم تبرحني طوال أمده  ذكريات الإعجاب بآمره المقدم الركن محمد حسن شلاش لنظرته الأبوية الصارمة، والتعرف عن قرب على ضباط الدورة الثالثة والأربعين الذين سبقوني بستة أشهر، جميعهم مثلي لا يؤمنون بتوقف الزمن ولا بالعودة إلى الماضي الرتيب، همهم الإخلاص في مهنيتهم العسكرية والتمتع بمباهج بغداد أوقات الإجازة الدورية. سنوات دخلنا فيها بيوت بعضنا البعض لم أحس يوما باختلاف صلاة آبائهم،
ولا بآذان جوامعهم وهم كذلك مثلي لا يحسون.
الزمن كأنه مثلنا لا يحافظ في وقعه على وتيرة واحدة، يغضب أحيانا، يبتئس أحيانا أخرى، لقد غضب الزمن أو مر بنوبة غضب أدخلنا فيها حربا أخذت أول روح من مجموعتنا التي باتت تتفرق بحكم التدرج الرتبي وتقادم الزمن، (محمود جاسم) البغدادي الشجاع، أسقطه أرضا قناص غادر، تجمعنا عند قبره في الشيخ عمر، قرأنا الفاتحة سوية، لم يسأل أحد منا عن أصل المقبرة ولا عن الطائفة التي تدفن فيها ولا عن طقوس الدفن.
يستمر الغضب.
غضب الزمان لا ينتهي بسهوله، إذ لا يستطيع إيقافه من تسبب في حصوله وان كان القائد الكبير. نتائجه تسارع في القطف قتلا كمن يريد الانتقام، مارد خرج من أسره في قمقم متروك بقعر البحر البعيد.
يقطف هذه المرة روح  الأقرب إلى المجموعة تفاؤلا (حاتم عبد الأمير)، الحلي الراغب في العيش بزمان غير الزمان، يجتمع ما تبقى من المجموعة في ناحية النيل على أطراف مدينة الحلة، يسيرون في جنازته باكين على فراقه إلى مقبرة وادي السلام في النجف الأشرف، يوارونه الثرى، يقرأون الفاتحة، يعودون دون أن يسألوا عن المقبرة والمكان والطقوس ولا عن المدفونين فيها من أي طائفة يكونون.
يستمر الزمن في قطافه،لا ينوي التوقف عن أخذ القرابين.
يتقدم القافلة (جدوع خلف) من بابل و(عبد الرحمن كميل) من الديوانية و (حمود نايف) من عانة، و (تحسين ياسين حمودي) من أهالي الشرقاط بعدهم يأخذ هدنة مؤقتة كأن القرابين قد أسهمت في تهدئته.
يعود الأمل في الحياة من جديد.
تختفي مجموعة الفوج الثالث من على الخارطة الاجتماعية استشهادا، يبقى (سعد) هو الأقرب إلي في كل الأوقات رافقني مثل ظلي، يتمرد على نفسه وعلى الزمن الغاضب، ينصح بترك المكان ومقارعة الزمان، معتقدا بأننا قد خلقنا لغير هذا المكان وكذلك لغير الزمان، يوافيني إلى البيت في منطقة (حي الجهاد) بليل ماطر، يتعمد الجلوس في المرآب كمن يحمل سرا لا يريد سماعه من قبل الحيطان بعدما باتت تسترق السمع على الساكنين، ينصح بمرافقته في ترك المكان، وعندما عجز عن الإقناع بالمرافقة في مشروع العبور إلى عالم آخر وزمان آخر سرني بقراره البدء بمشوار الهروب إلى المجهول في الغد مع آذان الفجر.
تنقطع الأخبار، تمسح من الذاكرة مشاهد، لم يبق فيها من أصول الفوج الثالث سوى بعض الالتفاتات التي تتنطط بين الحين والآخر في صراع من أجل البقاء كقاعدة لأول تجربة عملية لخدمتي العسكرية.

  

تتكون غيرها علاقات بعد الاشتغال ملحقا عسكريا في مدريد، والعودة منها آمرا لفوج مشاة وضابط ركن في الفيلق ثم آمر لواء وآخرها رئيس أركان فرقة المشاة السادسة والأربعين في قاطع دوكان عام 1988

 

يظهر في الأفق الجديد والعلاقات الجديدة الشيخ جلال چرمگا، نشطا في أفكاره العملية من أجل عراق يكون فيه الزمن بلا استثارة غضب، ويكون فيه المكان واسعا لاستيعاب الجميع عربا وكردا وباقي الأقوام بلا تمييز ولا تفريق، وكان مثل صديقي الباقي الوحيد من صداقات الفوج الثالث، عنيد يرى الزمن من زاويته الخاصة، وانه قد خلق لغير هذا الزمان، ويرى العيش أمتع في غير هذا المكان....

        

يقدم أخيه (كمال چرمگا) في سجل الصداقة، شاعرا عملاقا يثير الدهشة بلكنته العربية الممزوجة بالكردية أثناء التخاطب، وعربيته السليمة في نظم الشعر وإلقاءه  بأسلوب جميل يرتقي إلى ما جاء به المتنبي وجرير.

                                

                  فيلم الحالم من أنتاج جلال چرمگا


يحضر يوما في مقري قريبا من بحيرة دوكان كأنه يطير فرحا، يبشر في قرب تحقيق الأمل من خلال الفلم الذي سينتجه عن الزمن الذي يراه مناسبا. سألته عن الكلفة المالية للإنتاج، حيث لا يحتكم على المال.
رد دون عناء تفكير بأن زوجته الحبيبة قد سايرته في بيع ذهبها لتغطية الكلفة، وانه فرح لهذا الوفاء.    
يغضب الزمن ثانية، تتجه سهامه هذه المرة صوب الصديق (جلال چرمگا)، يُطلقها حزمة في دوامات تدور حول نفسها بسرعة برق آت من السماء، تقتل الحلم الهائم في الذاكرة لإنتاج الفلم الموعود، تُبعثر الآمال الخاصة بالعيش الآمن لجميع الأقوام بنفس المكان، تدفعه نزيلا في زنزانة منفردة مثل ذاك الصديق لنفس الأسباب التي يراها العقلاء أمرا طبيعيا، ويجد فيها أولي الأمر تجاوزا وخرقا لمعايير الولاء.
يحضر إلى بيتي كذلك مثل ذاك الصديق، يسرني بنفس طريقة التوجس خيفة من الحيطان من أنه باع بيت العمر في حي المنصور بجانب الكرخ، ليس لإنتاج فلم هذه المرة بل لمغادرة العراق، رغبة في العبور من على الزمان والمكان.
حاولت ثنيه خوفا من التلصص خلف الحيطان، رد بأني الوحيد العارف بالأمر بالإضافة إلى الزوجة الحبيبة، ودعته آسفا لغياب أقرب الأصدقاء بعيدا عن الزمان والمكان.

 


تهدأ فورة الغضب، تخف الرياح، تتوقف السهام عن الطيران، يظهر (جلال چرمگا) في سويسرا بلد الصناعة الدقيقة للساعات، لا يعير اهتماما للساعات ولا إلى البحيرات وكثر الحسان، يعود إلى الفن والأدب ميلا ورثه عن العائلة التي عرفت بهذا الميل.

   


يستجمع قواه، يستلف مالا من الأولاد، يُنشئ مجالس حمدان الثقافية، يفتحها مجالا للكتابة الحرة والحوار البناء، يصمد أمام التيارات المضادة، وأمام الاحتجاج على المكتوب، يحاول الجري إلى الأمام يستبدل التسمية ورقعة النشر بالگاردينيا مجلة مفتوحة مثل آراءه في المكان الذي أراده مفتوحا ليستوعب الجميع.

 

لكن الأفكار التي يراد لها أن تتوقف أو تتحجر مثل الزمن تحاول نقل الأمراض الاجتماعية التي طفت على سطح العراق إلى وسط الگاردينيا، فأظهرت كتاب وقراء يحتجون على كتابة آخرين من غير طوائفهم، وأظهرت بعض أكراد يحتجون على الكتابة باللغة العربية، وعرب يحتجون على الكتابة عن الأكراد، وأظهرت أيضا بعض المعلقين يشمرون عن سواعدهم، يحملون سكاكين بدل الأقلام يحاولون طعن من يختلفون ورؤاهم في طرح الأفكار والآراء، وآخرين يريدون اقتصار النشر على جماعات يعتقدونها الأقرب إلى الله.
يحاول جلال إفهام الجميع تطلعاته لغير هذا الزمان، يمرض من صعوبة الإفهام، يستمر في الاستدانة لإدامة المشروع، ويستمر التجريح طوقا يحز الأعناق، ويستمر كذلك حلم العودة في الزمان والمكان، يوقفه هذا السائل بتعقيب عن نتائج الانتخابات من أن الوجوه ذاتها ستتكرر، يلحقه بتعليق على شكل سؤال جاء باللهجة العراقية الدارجة ( لعد أحنة اشسوينة؟). يعقبه بسؤال آخر:
ألم أقل لا فائدة من الانتخاب؟.
وقفت منزعجا من هذا التطفل والايقاض المتعمد من غفوة الحلم ومن زمن لم يبق فيه مجالا للتمتع بحلم.
قلت بقدر من الانفعال:
سيبقى الزمن متوقفا.
دعه كذلك باقيا.
لا أريد العودة إلى ذاك الزمان.
دعني أموت ببطئ في هذا المكان.
تركته باهتا لم يفهم شيئا مما أقول.
غادرت المقهى التي لم تعد تنفع للاستغراق في الأحلام.
سرت إلى شقتي أفكر بما حل بنا من ويلات ومن مساعي التغيير بالتمنيات، ومن توقع الموت البطيء في بلاد بعيدة مصحوبة بكثير من الآهات... حقا لا أريد العودة إلى ذاك المكان مصحوبا بهؤلاء المتطرفين وحملة السكاكين.      

أطفال الگاردينيا

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

709 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع