الصحافة في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني ١٨٧٦- ١٩٠٩
كان الصحفيون المخضرمون يضربون المثل بالرقابة في عهد السلطان عبد الحميد الثاني من حيث التعليمات التي كانت تصدرها الرقابة في ذلك العهد، وهذا نصها:
1- يجب على الصحف أولاً إعلام الشعب عن صحة السلطان العالية، وبعدئذ يمكنها الكتابة عن الانتاج الزراعي وعن الرقي التجاري والصناعة الامبراطورية.
2 – لا يجوز نشر أي مقال أو خبر قبل أخذ موافقة وزارة المعارف . ويستثنى من ذلك القضايا التي لاتتعارض مع الوجهة الاجتماعية.
3- ممنوع نشر المقالات الطويلة لأي موضوع أخلاقي أو إجتماعي
4 - ممنوع إستعمال عبارة " البقية تأتي" او " يتبع" أو " للبحث صلة" أو " البقية في العدد القادم" أو أي إشارة الى أن المقال غير كامل.
5 – ممنوع ترك فراغ في الجريدة أو إستعمال نقاط بدلا من فقرات حذفتها الرقابة لأن في ذلك تشويشاً وتأويلات للرأي العام.
6 - لايجوز إنتقاد الشخصيات الكبيرة الرسمية ،إذا إتهم حاكم بسرقة فلا ينشر شيء عن هذا .إذا إتهم برشوة فلا يشار الى النبأ .إذا قتل الحاكم أو الموظف الكبير فيحذف أي تلميح بأن مات بطريقة غير عادية، بل يكتفى بأن ينشر أنه توفي الى رحمة الله.
7 – لايجوز نشر أي شكوى من تصرفات أي كان من موظفي الحكومة ، حتى ولا يجوز نشر أن هذه الشكوى أتصلت بمعالم جلالة السلطان.
8- لايجوز نشر أنباء عن ثورات في داخل السلطة أو عن ثورات تاريخية ضد أي ملك من الملوك.
9 - لايجوز نشر أي هزائم اصابت جيش السلطة ، ولا أي إنتصارات إنتصرها الاعداء.. ولا يجوز يجوز تعظيم أي قائد من قوات الاعداء.
10 - لايجوز نشر اسم أعداء جلالة السلطان ولا الاشارة اليهم.
وقد يتصور القاريء العادي أنه من الممكن أن يكتب الصحفي بعد كل هذه التعليمات والتحذيرات والممنوعات .. ولكن الذي كان يحدث أن الرقيب كان يتوسع في تنفيذ هذه التعليمات.
وكان لبنان في تلك الايام تابعاً للدولة العثمانية، وكانت الرقابة مفروضة على الصحف اللبنانية.
جاءت برقية الى صحف بيروت بأن المسيو (كارنو رئيس جمهورية فرنسا قد أغتيل في مدينة( ليون) بضربة خنجر من يد شاب إسمه ( كازاريو).
ورفض الرقيب أن ينشر أن رئيس الجمهورية أغتيل واصر على أن نشر مثل هذا الخبر يؤدي الى إفهام الناس أنه من الممكن إغتيال السلطان.
وطلب الرقيب من الجرائد الاكتفاء بالقول بأن فخامة رئيس جمهورية فرنسا إنحرفت صحته! وإعترض المحررون كيف يقولون أن صحة الرئيس منحرفة بينما الرئيس موجود في السماء؟
وأخيرا قبل الرقيب أن تنشر الصحف النبأ التالي :" الى جنات الخلد" ساءت صحة فخامة رئيس جمهورية فرنسا بسبب تقدمه في السن ، فانتقلت روحه الى بارئها".
وبدأت الصحف تستعد لنشر الخبر كما صرّح الرقيب .. وفجأة إتصل البوليس بجميع الصحف وطلب اليها أن توقف الطبع.
أن الرقيب عرض الامر على الوالي التركي على لبنان وإعترض الوالي على صيغة الخبر ! كيف يقال أن رئيس الجمهورية المسجى ذهب الى جنات الخلد ، والمفروض أن الجنة لا يدخلها الا المسلمون! ثم كيف يقال أن رئيس الجمهورية مات بسبب تقدمه في السن ! ان جلالة السلطان عبد الحميد متقدم في السن. فمعنى ذلك أنه إيحاء للرأي العام بأن السلطان ممكن أن يموت. وفي ذلك إثارة للخواطر واقلاق للامن العام.
ومن هنا يعيد الرقيب كتابة الخبر من جديد .. وتصدر الصحف وقد نشرت الخبر التالي: "إنتقل فخامة رئيس جمهورية فرنسا الى رحمة ربه.
وفهم الصحفيون أن نشر الخبر بهذه الصيغة قد أرضى ولاة الامور. ولكن ما كادت الصحف اللبنانية تصل الى الباب العالي في استنبول ختى قامت الدنيا وقعدت . فإنالسلطان عبد الحميد رأي في نشر الخبر بهذه الصورة إهانة للذات الشاهانية .إذ كيف يسمى رئيس جمهورية بلقب صاحب الفخامة .إن الفخامة وحدها من حق السلطان .
وصدر أمر الرقيب الى جميع صحف بيروت التعليمات التالية :
1 - يلقب الملوك والامبراطوريون والسلاطين في أنحاء العالم بلقب " حشمتلو".
وحدث ان اراد احد الصحفيين ان يكتب عن ملكة انجلترا ، وحار في تسميتها ، انه لا يجوز أن يبسميها صاحبة الجلالة ولا يستطيع أن يسميها " حشمتلو" فكتب يقول " حشمتلها" أي أنها مؤنث " حشمتلو" وقرأ الرقيب النبأ فغضب وثار واصدر التعليمات التالية:
1 - لايعطى صاحب الفخامة او صاحب الجلالة او صاحب العظمة
وفهم الصحفيون أن نشر الخبر بهذه الصيغة قد ارضى ولاة الامور. ولكن ما كادت الصحف اللبنانية تصل الى الباب العالي في استنبول حتى قامت الدنيا وقعدت. فإن السلطان عبد الحميد رأى في نشر الخبر بهذه الصورة إهانة للذات الشاهنية ! اذ كيف يسمى رئيس جمهورية بلقب صاحب الفخامة! إن الفخامة وحدها من حق السلطان!
وصدر أمر الرقيب الى جميع صحف بيروت التعليمات التالية:
1 - لايعطى صاحب الفخامة او صاحب الجلالة او صاحب العظمة الا للسلطان وحده دون سواه.
2 – يلقب الملوك والامبراطوريون والسلاطين في باقي انحاء العالم بلقب " حشمتلو".
وحدث أن اراد احد الصحفيين ان يكتب عن ملكة انكلترا ، وحار في تسميتها ! انه لا يجوز أن يسميها صاحبة الجلالة ولا يستطيع أن يسميها "حشمتلو". فكتب يقول " حشمتها" أي انها مؤنث " حشمتلو".
وقرأ الرقيب النبأ فغضب واصدر التعاليمات التالية:
1 - لايجوز تسمية ملكة الانجليز بلقب حشمتها ، ويكتفي بلقب حضرة.
2 - يلقب شاه العجم بلقب " شهامتلو" بصفة إستثنائية نظراً لموقفه الودي من الحضرة العلية.
3 - لايسمح بتسمية سلطان زنجيبار بالسلطان فلان بل يقال حاكم زنجبار. والسلطان الوحيد هو حضرة صاحب الجلالة السلطان عبد الحميد دون سواه.
ثم زادت حدة الرقابة فأصبحت تتناول نفسها لقد اصدر الرقيب مثلاً ألا تنشر كلمة جمهورية لان السلطان يخشى أن تقوم ثورة تعلن الجمهورية.
لهذا اختفى اسم جمهورية امريكا أو جمهورية فرنسا من الصحف! فاذا اراد صحفي ان يشير الى رئيس جمهورية امريكا فيكتفي بذكر رئيس امريكا او حاكم امريكا دون ان يشير الى أنها جمهورية . وتمادى المنع أكثر فأكثر . وذات يوم صودرت جريدة ( لسان الحال) في بيروت لانها نشرت اعلاناً هذا نصه:
نعلن للجمهور أن الخواجة جورج دباس قد فتح محلاً لبيع الاحذية ! واصر الرقيب على ضرورة تغيير صيغة الاعلان وجعلها :" نعلن للعموم ان الخواجة جورج دباس .. الخ. ذلك ان الجمهور يذكّر الشعب بالجمهورية.
وإنتقلت الرقابة الى الاغاني
وحدث أن ذهب المطرب المصري المعروف ( عبده الحامولي) الى الاستانة . ودعاه السلطان الى إقامة حفلة ساهرة في القصر.. وقبل أن تبدأ الحفلة اسرع اليه احد رجال الحاشية وطلب اليه ان يكتب في ورقة الاغنية التي ينوي انشادها. وكتب عبده الحامولي أغنيته المشهورة.
غاب عن عيني مرادي
وانهمل دمعي صبيبُ
عزّ من يسقي فؤادي
عندما غاب الحبيب
وقرأ الوزير التركي الاغنية وارتعش وتلعثم وصرخ مستحيل ! مستحيل ! أن تغني هذه الاغنية في حضرة السلطان .
ودهش المطرب عبده الحامولي وقال: لماذا؟
قال الوزير: هذه دعوة للثورة !
وراح عبده الحامولي يؤكد له أن الاغنية غرامية!
واسرع الوزير التركي الى الصدر الاعظم واسرع الصدر الاعظم واستدعى الوزراء الذين يعرفون العربية والذين لا يعرفون العربية!
وعاد الوزير التركي يلهث ويتوسل الى عبده الحامولي أن يغير كلام الاغنية لأنه إذا سمعها السلطان فسوف يشنق الوزير لأنه هو الذي إقترح دعوة عبده الحامولي للغناء في القصر.
ولم يفهم عبده الحامولي ماذا في الاغنية من الممنوعات ! وقال الوزير إن كلمة " مرادي" هي التي تسبب كل هذا الاشكال! فأنت تقول " غاب عن عيني مرادي " ومراد هو السلطان مراد عدو السلطان ! فلا يجوز أن نذكر المناسبه!
وقال عبده الحامولي .. وماذا أفعل؟
قال الوزير :إحذف كلمة مرادي !
قال عبده الحامولي : ولكن البيت يصبح مكسورا
قال الوزير : خير لنا أن نكسر بيت الشعر من أن يكسر السلطان رأسي ورأسك ورأس نصف مجلس الوزراء.
واضطر عبده الحامولي أن يغير كلمة " مرادي" بكلمة حبيبي. وراح يغني " غاب عن عيني حبيبي" وكان الوزراء يسمعون عبده الحامولي ويهزون رؤوسهم وهم يستحسنونها! فإن حبيبي هذه انقذت رؤوس نصف دستة من اعضاء مجلس الوزراء .
559 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع