قصور رئاسية استبيحت ونُهبت
الحكومة العراقية الحالية على غرار سابقاتها تبدو قليلة الحيلة إزاء عملية النهب المنظم وواسع النطاق لعقارات الدولة وممتلكاتها والجارية على قدم وساق منذ أكثر من عقدين، وذلك بالنظر إلى كون القوى المنخرطة في تلك العملية ليست سوى الأحزاب والفصائل المسلحة المسيطرة على مقاليد الحكم والمتنافسة بشراسة على استثمار مواقعها فيه لتحقيق أقصى ما يمكن من المكاسب المادية.
العرب/بغداد - تبذل الحكومة العراقية جهودا محتشمة ومتأخرة لوقف النزيف الحادّ في العقارات التابعة للدولة، وذلك بعد سنوات طويلة من النهب المنظّم مرت خلالها ممتلكات تقدر قيمتها بمليارات الدولارات إلى أيدي جهات على صلة بالأحزاب والفصائل المسلّحة ذات النفوذ الكبير في البلاد.
وغالبا ما تأتي التحرّكات الحكومية بشأن هذا الملف الشائك في إطار رفع العتب وتفادي الانتقادات والمطالبات التي تصدر عن جهات حقوقية ودوائر نيابية، والكثير منها غير بريء إذ يتحرّك أصحابها في الكثير من الأحيان بدافع ما ينشب بين حين وآخر من صراعات على نهب ممتلكات الدولة والاستيلاء عليها.
وضمن أحدث المحاولات الحكومية لمقاربة قضية عقارات الدولة وممتلكاتها أعلنت وزارة العدل العراقية إنشاء قاعدة بيانات لإحصاء العقارات التابعة للمؤسسات الحكومية.
وجاء ذلك بعد أن أعادت البرلمانية العراقية سروة عبدالواحد، عضو لجنة النزاهة النيابية، قبل أيام تسليط الضوء على قضية نهب عقارات الدولة، عندما كشفت عن عملية استيلاء على أرض حكومية في البصرة من خلال منحها لأحد المستثمرين لقاء قيام الأخير بترميم فلل رئاسية تعود إلى عهد النظام السابق، وهي بحسب توصيف البرلمانية عملية بسيطة لا تساوي كلفتها كلفة الأرض غالية الثمن التي سيحصل عليها المستثمر.
وورد في بيان لوزارة العدل أن وزير العدل خالد شواني اجتمع مع عضوي اللجنة النيابية الخاصة بالحفاظ على أملاك الدولة النائبين أمير المعموري وحسين الأسدي، وبحضور وكيل وزارة العدل للشؤون الإدارية والمالية برهان القيسي ومدير عام دائرة التسجيل العقاري ابتسام رحيم الساعدي، وأن الاجتماع دار حول “أهمية إحصاء العقارات الحكومية ووضع آليات عملية لإنشاء قاعدة بيانات شاملة تسهم في إدارة الممتلكات العامة بشكل فعال”.
وناقش المجتمعون بحسب نفس البيان “آليات إعداد قاعدة بيانات دقيقة للعقارات التابعة لمؤسسات الدولة، حيث أكد الوزير شواني على أهمية التنسيق الوثيق بين الجهات التشريعية والتنفيذية لضمان الحفاظ على أملاك الدولة وحمايتها”. ورأى الوزير أنّ “هذه القاعدة ستشكل أداة محورية في تعزيز نظام الحوكمة والتصدي للتجاوزات أو الاستغلال غير المشروع للعقارات الحكومية”.
ووجه شواني بـ”تشكيل لجنة برئاسة وكيل الوزارة برهان القيسي، وبعضوية مدير عام دائرة التسجيل العقاري ومعاونيها، تتولى إعداد تقرير مفصل يتضمن دراسة شاملة للعقارات المملوكة للدولة، بالتنسيق والتواصل مع اللجنة النيابية المعنية”.
وكان التغيير القسري والعنيف لنظام الحكم في العراق على يد القوات الأميركية قد جعل الكثير من العقارات التابعة لرموز نظام حزب البعث ومؤسساته، وحتى لمواطنين عاديين اضطروا إلى الفرار من موجات العنف المتلاحقة التي ضربت البلد بعد سنة 2003، في حكم السائبة من منظور القوى التي استلمت الحكم على الرغم من أنّها آلت قانونيا إلى ملكية الدولة.
وانطلق في ضوء ذلك المنظور سباق بين القوى الطارئة على الحكم، والممتلكة من جهة لسلطة السلاح اللازم لفرض سيطرتها على الممتلكات العامّة كأمر واقع وللسلطة السياسية والنفوذ داخل مختلف أجهزة الدولة من جهة ثانية، لإجراء عمليات تزوير ونقل لملكيات الآلاف من العقارات من دور ومحلات وأراض زراعية وصالحة للبناء بعضها في أماكن راقية وإستراتيجية ما يجعل لها قيمة مادية مرتفعة.
وانخرطت قوى شيعية بشكل رئيسي في نهب ممتلكات الدولة لكن قوى سنية وكردية أخذت نصيبها من عملية النهب تلك.
وانصبت عمليات النهب المنظم لعقارات الدولة بادئ الأمر على مناطق وسط وجنوب العراق بما في ذلك العاصمة بغداد حيث مراكز نفوذ الأحزاب والميليشيات الشيعية الحاكمة. لكنّ الحرب ضدّ تنظيم داعش التي دارت بين سنتي 2014 و2017 أطلقت موجة جديدة من نهب العقارات والممتلكات العمومية هذه المرة في مناطق شمال وغرب العراق حيث دارت تلك الحرب بمشاركة فاعلة من الميليشيات الشيعية، الأمر الذي مكنّها من دخول تلك المناطق وفتح الباب لتركيز نفوذها ونفوذ الأحزاب الشيعية ذات الصلة بها.
وتتحدّث مصادر عراقية عن تجاوز عدد عقارات الدولة، التي آلت ملكيتها بشكل غير قانوني إلى عدة أطراف، لواحد وثلاثين ألف عقار من مختلف الأنواع، كما تقدر قيمة ما تم نهبه من ممتلكات الدولة طيلة العقدين الماضيين بمبلغ فلكي يصل وفق المصادر ذاتها إلى حوالي ستمئة مليار دولار.
وباتت التجاوزات على الملك العام مرئية في المشهد العام بالعراق من خلال نشوء الكثير من الأحياء العشوائية في الكثير من مدن البلاد، وذلك كنتيجة لظاهرة الاستيلاء على الأراضي غير المهيأة أصلا للسكن وبيعها لمواطنين أقاموا عليها مساكن تفتقر إلى التخطيط المسبق والخدمات الأساسية من ربط بشبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي.
وتعتبر حالة تلك الأحياء نموذجا عن الممتلكات العامة التي لم يعد من الممكن جردها واستعادتها بعد أن فرط فيها ناهبوها بالبيع وتغيرت صيغها وآلت إلى عدد كبير من المالكين بمن في ذلك سكان الأحياء العشوائية الذين لا يمكن للحكومات انتزاع مساكنهم المقامة على أراض تابعة للدولة تجنّبا لتعميق الأزمة الاجتماعية القائمة أصلا في البلاد.
وكثيرا ما فجّر التنافس بين القوى النافذة على نهب عقارات الدولة العراقية صراعات حادّة بين الأحزاب والميليشيات تحولت في بعض المناسبات إلى مواجهات مسلّحة كانت تحدث من حين لآخر عندما تتعطّل آليات تقاسم العقارات المنهوبة.
وبمقتضى تلك الآليات أصبحت أحزاب وميليشيات شيعية بارزة تسيطر على مناطق وأحياء بأكملها في بعض المدن من بينها العاصمة بغداد.
وأحيت البرلمانية سروة عبدالواحد الجدل حول نهب عقارات الدولة العراقية، بإثارتها جملة من الشبهات حول منح الأراضي وممتلكات الدولة لـ”مستثمرين” وفقا لصفقات غير متناسبة تلوح من ورائها المحسوبية والمحاباة.
وقالت في تعليق لها عبر منصة إكس “نحن من أكثر الداعمين للاستثمار الحقيقي في العراق، لكن ما يحدث لا يدخل ضمن مصطلح الاستثمارات، بل هو نهب للدولة وعقاراتها وأراضيها”. وأشارت إلى أنّه “منذ سنة 2003 وهبت الحكومات العراقية كلَّ العقارات المهمة للفاسدين والشخصيات السياسية المتنفذة باسم الاستحقاقات، واليوم هيئة الاستثمار تمنح ما تبقَّى من القصور الرئاسية لأسماء عليها شبهات”.
وطالبت الهيئات المسؤولة عن منح الاستثمارات ببيان الإنجازات التي حققها للدولة عدد من المستثمرين بمن فيهم من أوكلت إليهم مهمّة تأهيل واستثمار القصور الرئاسية.
وتساءلت هل يعقل أن إحدى الشركات “تعمِّر معسكر الرشيد وفي المقابل تأخذ كل مشاريعه التجارية والسياحية لمصلحتها بالإضافة إلى سبعمئة دونم في محيط المطار”، مضيفة “أين تريدون الوصول، وهل بقي شيء لم يتم بيعه بصفقات مريبة”.
ومن جهته وصف النائب بمجلس النواب العراقي ياسر الحسيني الفساد في ملف عقارات الدولة بالكبير والخطير. ونقلت عنه وكالة “بغداد اليوم” الإخبارية قوله “لا يوجد رقم لحجم أموال الفساد في هذا الملف لكنها كبيرة جدا، وهناك جهات متنفذة متورطة فيه”.
كما نفى النائب أن تكون السلطات جادّة في فتح الملف ومعالجته، قائلا “طيلة السنوات الماضية لم نر أي فتح لملف عقارات الدولة لوجود تغطية سياسية لهذا الفساد الذي زاد مؤخرا وسط صمت الحكومة وتفرّج الجهات الرقابية المختصة”.
وعن ملف الفساد في استثمار القصور الرئاسية الذي فتحته عضو لجنة النزاهة النيابية قال الحسيني “القصور وغيرها من عقارات الدولة ممكن أن تقدم كفرص استثمارية حقيقية، بدل الاستحواذ عليها من قبل المتنفذين، وهذا الملف الخطير ستكون لنا وقفة جادة بشأنه داخل البرلمان قريبا”.
715 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع