البيان الاماراتيه:على مدى مئة عام، ظلّ الثقب الأسود رمزا للغموض الكوني، لغزا يقف على حافة الفهم الإنساني. كيف يمكن لجسم لا يَنفُذ منه الضوء أن يُطلِق نفثات من طاقة تفوق ما تنتجه مليارات النجوم؟ سؤال حيّر الفيزيائيين منذ أن رسم آينشتاين ملامح الثقوب السوداء في نظريته النسبية العامة.
واليوم، بعد قرن من الحيرة، يقترب العلماء أخيرا من الجواب.
فبعد سنوات طويلة من الحيرة، اكتشف العلماء أخيرا السر وراء القوة الغامضة للثقوب السوداء. فبدلا من اعتمادها فقط على دورانها السريع، تبيّن أن هناك عملية طبيعية تُسمى إعادة الاتصال المغناطيسي تساعد في توليد الطاقة الهائلة التي تنفجر منها على شكل نفثات تمتد آلاف السنين الضوئية في الفضاء. هذا الاكتشاف يغيّر فهمنا لكيفية عمل الثقوب السوداء ودورها في تشكيل المجرات من حولها.
وكشف فريق من علماء الفلك والفيزياء النظرية في جامعة جوته بفرانكفورت، عن اكتشاف غير مسبوق يُعيد تعريف الطريقة التي نفهم بها الثقوب السوداء.
الدراسة، التي نُشرت في مجلة رسائل مجلة الفيزياء الفلكية (The Astrophysical Journal Letters)، ركزت على الثقب الأسود الشهير M87* — أول ثقب أسود تم تصويره عام 2019 بواسطة تلسكوب "أفق الحدث".
ووفقا لما توصل إليه الفريق، فإن السر وراء الطاقة الهائلة التي يطلقها هذا العملاق الكوني لا تكمن فقط في دورانه الهائل، بل في عملية مدهشة تُعرف باسم إعادة الاتصال المغناطيسي.
في قلب الغموض
يقع M87* في مجرة العذراء على بُعد 55 مليون سنة ضوئية من الأرض. وهو أحد أضخم الثقوب السوداء المعروفة، بكتلة تعادل ستة مليارات ونصف المليار كتلة شمسية. ورغم أن جاذبيته هائلة لدرجة لا يفلت منها الضوء، إلا أنه يُصدر نفثات من المادة تمتد لآلاف السنين الضوئية، وتتحرك بسرعات تقترب من سرعة الضوء. هذه المفارقة حيّرت العلماء لعقود، كيف يمكن لشيء يبتلع كل ما حوله أن يُطلِق في الوقت نفسه طاقة بهذه الضخامة؟
في الماضي، كان التفسير السائد هو آلية بلاندفورد–زنايك، التي تفترض أن الحقول المغناطيسية المحيطة بثقب أسود دوّار يمكنها "استخلاص" جزء من طاقته الدورانية وتحويلها إلى طاقة إشعاعية ونفثات مادية. لكن هذا التفسير ظلّ ناقصا؛ فالمحاكاة الحديثة لم تكن قادرة على تفسير بعض الخصائص الغامضة لتلك النفثات، خصوصًا شدة لمعانها وتسارعها الهائل.
الانفجار الخفي
من هنا بدأ الفريق الألماني بحثه. استخدم العلماء أداة حاسوبية متطورة طوروها بأنفسهم تُعرف باسم "شيفرة فرانكفورت للجسيمات في الخلية لزمكان الثقب الأسود" (FPIC)، وهي نظام محاكاة قادر على تمثيل سلوك الجسيمات المشحونة والمجالات الكهرومغناطيسية قرب أفق الحدث بدقة غير مسبوقة، وفقاً لـ " dailygalaxy".
وعبر هذه المحاكاة، لاحظ الباحثون حدوث ظاهرة مثيرة، خطوط الحقل المغناطيسي كانت تنكسر وتتصل مجددًا في نمط متكرر، مطلقة كميات هائلة من الطاقة. هذه العملية تُعرف في الفيزياء باسم إعادة الاتصال المغناطيسي — وهي نفس الظاهرة التي تسبب الانفجارات الشمسية على سطح الشمس، لكنها هنا تحدث في بيئة أعنف بمليارات المرات.
يقول الدكتور فيليبو كاميلوني، أحد المشاركين في البحث: "تفتح نتائجنا احتمالا ثوريا، أن آلية بلاندفورد–زنايك ليست وحدها المسؤولة عن توليد الطاقة في الثقوب السوداء، بل هناك عملية ثانية تعمل بجانبها، وهي إعادة الاتصال المغناطيسي. الاثنتان معًا تخلقان القوة الخارقة التي نراها في النفثات الكونية.”
ولادة الطاقة من الفوضى
المحاكاة أظهرت أن قرب المستوى الاستوائي للثقب الأسود، تتفاعل خطوط الحقل المغناطيسي بعنف لتُنتج فقاعات من البلازما عالية الكثافة تُسمى بلازمويدات. هذه الفقاعات تتسارع بسرعة تقارب سرعة الضوء، وتُقذف إلى الخارج، مُشكّلةً النواة الأولى للنفثات التي تمتد عبر الفضاء.
يشرح الدكتور لوتشيانو ريزولا، قائد الفريق البحثي: بفضل المحاكاة المتقدمة، استطعنا رؤية كيف يُستخرج جزء من الطاقة الدورانية للثقب الأسود ويُحوّل إلى طاقة إشعاعية ومادية. هذه العملية تشرح اللمعان الهائل للنوى المجرية النشطة وتسارع الجسيمات إلى سرعات نسبية".
بهذا المعنى، فإن الثقب الأسود ليس فقط "مقبرة" للضوء كما تصوّرناه سابقا، بل هو أيضًا محرك كوني فائق يحول الجاذبية والمغناطيسية إلى طاقة خالصة، في دورة فيزيائية تكاد تتحدى الحدس البشري.
الكون يعيد توزيع طاقته
ما يجعل هذا الاكتشاف أكثر أهمية هو أنه لا يقتصر على M87* وحده. فظاهرة إعادة الاتصال المغناطيسي قد تفسّر سلوك العديد من الأجسام الكونية الأخرى، مثل النجوم النيوترونية والنجوم المغناطيسية، وحتى النوى المجرية النشطة (AGN) التي تُعد من ألمع الأجسام في الكون.
هذه النفثات الكونية لا تبقى في حدود الثقب الأسود، بل تمتد عبر الفضاء لتؤثر في تطور المجرات نفسها. إذ إن الطاقة والمادة التي تُقذف عبر هذه النفثات تعيد توزيع الغاز والغبار في المجرة، مما يؤثر على تشكّل النجوم الجديدة ومسار تطور المجرات عبر مليارات السنين.
يقول أحد أعضاء الفريق في تعليق جانبي: "عندما نفهم كيف تُولد الثقوب السوداء طاقتها، نحن لا ندرس جسما واحدا فقط — نحن ندرس دورة الطاقة في الكون بأسره.”
فصل جديد في فهم الكون
يعكس هذا البحث تحولا جذريا في طريقة تعامل العلماء مع الظواهر الكونية المتطرفة. ففي الماضي، كانت الثقوب السوداء تُرى كمناطق "نهائية"، حيث تنتهي المادة والضوء. أما اليوم، فهي تُعتبر مختبرات طبيعية للطاقة القصوى، تكشف عن فيزياء جديدة على حدود الفهم البشري.
ومع تطور قدرات الحواسيب الفائقة، يمكن لمحاكاة أكثر تعقيدًا أن تكشف تفاصيل إضافية حول ديناميكيات الجسيمات والمجالات المغناطيسية في قلب هذه الوحوش الكونية. وربما خلال العقود القادمة، سنتمكن من فهم ليس فقط كيفية انبعاث الطاقة منها، بل كيف يمكن أن تؤثر في نسيج الكون نفسه.
يختتم الدكتور ريزولا حديثه قائلًا "كل اكتشاف جديد يجعلنا ندرك أن الثقوب السوداء ليست نهايات، بل بدايات لفهم أعمق للطبيعة. إنها ليست فراغات تبتلع الضوء، بل مصانع للمعرفة والطاقة في آن واحد".
بعد مئة عام من الأسئلة التي حيّرت العقول، ينجح العلماء اليوم في كشف أحد أسرار الكون الأعظم، أن الطاقة التي تنبعث من قلب الظلام ليست لغزا أبديا، بل نتيجة تفاعل مذهل بين الجاذبية والمغناطيسية في أقسى بيئة عرفها العلم.
بهذا، لم يكتفِ العلماء بحل لغز الثقب الأسود، بل خطوا خطوة نحو فهم كيف يعمل الكون ذاته — من أعماق الظلام، إلى أبعد نجوم الضوء.
839 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع