محاضرة أكراد العراق(طموح أكراد العراق بين الممكن والمستحيل)
الفريق الركن الدكتور عبد العزيز المفتي
أقول مأثورة عن الكرد
* من أقوال الزعيم الهندي (جواهر لال نهرو) قال:
[أستغرب كيف أن الأتراك الذين ناضلوا من أجل حريتهم يقمعون بهذه الوحشية؟ الشعب الكردي الذي يناضل من أجل الهدف نفسه ـ أي الحرية ... كما هو غريب أن تتحول قومية أعلنت احترامها لحقوق الإنسان إلى قومية عدوانية بهذا الشكل ... وأن يتحول نضالها من أجل الحرية إلى محاولة لاستبعاد الآخرين .... ونسمع عن المآسي التي يتعرض لها الشعب الكردي الذي استقر في عدة دول، ولم تتيح له الظروف التاريخية أو السياسية تشكيل دولة تضم قوميته (الكردية)]
جواهر لال نهرو
* [وهكذا فالأتراك الذين لم يمض إلا وقت قصير على كفاحهم من أجل حريتهم عمدو إلى سحق الكرد الذين سعوا بدورهم إلى نيل حريتهم. ومن الغريب كيف تنقلب القومية المدافعة إلى قومية معتدية، ويتغلب الكفاح من أجل الحرية إلى كفاح من أجل التحكم بالآخرين. ففي عام 1929 نشبت ثورة أخرى عند الكرد. إلا أنها سحقت من جديد، مؤقتاً على الأقل. ولكن كيف يسمح أحداً أن يسحق شعباً يصر على نيل حريته وحقوقه القومية وهو على استعداد لدفع ثمنها ...]
جواهر لال نهرو
* وصف الكاتب التركي س. أوستونغل:
[نشاهد القرويين عائدين من مراكز الشرطة والجندرمة وهم على قيد الحياة رغم أن الكثير منهم كانوا مثخنين بالجراح، أما بالقسوة تجاه الشعب الكردي فقد فاق الكماليون السلاطين العثمانيين. المخضبة أيديهم بالدم الكردي. إنهم يثقفون بالقسوة التي ينتهجونها إزاء الأكراد والأقليات الأخرى. التي يحاولون تتريكها بالقوة. لقد أرحلوا القبائل الكردية عن أوطانهم وهم يجهزون على الكرد بالجملة، مثلما فعلوا بالأرمن تماماً..... ].
وصف الكاتب التركي س. أوستونغل
* نلسون مانديلا:
[سأل أحد الصحفيين السيد نلسون مانديلا عن سبب رفضه لجائزة أتاتورك ... قال مانديلا: (حاول أن تكون كردياً ساعة واحدة ثم أخبرني عن شعورك وستعلم لماذا رفضت جائزة أتاتورك) ]
نلسون مانديلا
* من أقوال الدكتور عبد الرحمن البزاز رئيس وزراء العراق الأسبق( ):
1- (إن القضية الكردية هي مشكلة العراق الأساسية المرتبطة بوجودهُ، ولن يتأتى له الاستقرار إلا إذا حلها حلاً عادلاً ينصف الأطراف المعنية كلها، فتتحقق نتيجة ذلك وحدة الشعب الكردي).
من كتابه (العراق من الاحتلال إلى الاستقلال)
2- (القضية الكردية ليست وليدة فترة زمنية متأخرة أو حصيلة وضع سياسي معين، أو نتيجة تحريض شخص أو بضع أشخاص، كما يتوهم بعض العراقيين اليوم، وإن تأكيد هذا الأمر أصبح في الوقت الحاضر ضرورياً لأن بعض المسؤولين لم يدركوا بعد حقيقة هذه المشكلة الكردية في العراق، ولم يتح لهم أن يسبروا عمق أغوارها).
من كتابه (العراق من الاحتلال إلى الاستقلال)
3- (الشعب الكردي لا يريد الانفصال ولا يريد إلا الحفاظ على وجوده، ونحن مستعدون أن نعترف بالوجود الكردي وأن نعترف بالذاتية الكردية كقومية متميزة لها لغتها وتراثها وأمجادها، ومن حقهم الحفاظ عليها).
في 15/6/1966م (ندوة تلفزيونية)
* الدكتور (الطبيب) فهمي الشناوي:
في كتابه (الكرد يتامى المسلمين أم ضحاياهم)
1-إن الأكراد هم يتامى المسلمين، وأنّ ثرواتهم الطائلة قد قام عليها إخوتهم المسلمون الآخرون، ونهبوها لأنفسهم دون الوريث المستحق الأصلي (ص8).
2-الأكراد الخمسة والثلاثون مليوناً يملكون منابع أنهار الشرق الأوسط، ويملكون معظم نفط هذه البلدان، يملكونه أصلاً، ولكنهم محرومون منه فعلاً. يملكون المياه والنفط ولكن ملكياتهم منهوبة عند إخوانهم وجيرانهم (ص41).
3-وأقصى ما وصل إليه وازعٌ ضمير المغتصب، هو أن يعطي الأكراد في مناطقهم ما يشبه (الحكم الذاتي ...) ولكن لا يتمتّع صاحب هذا الحكم الذاتي برسم السياسة، أو الاشتراك في الحكم، ولا توجيه الدولة حرباً ولا سلماً ولا تفاوضاً مع الأجنبي بأي حال، لأنه غير مؤتمن على الدولة، فوضعهم مثلُ وضع عرب فلسطين تحت الحكم الإسرائيلي (ص15).
4-"الحكم الذاتي ما هو إلا رقّ واسترقاق سياسي" (ص16).
5-"كل من حول الأكراد يتباهى بالوطنية صباح مساء، ويجعل منها أيديولوجيا، ويتغنى بتراب الوطن، ويتشدّق بالموت في سبيل الوطن، حتى إذا طلب الأخ الكردي أن يكون له وطن مثلهم لا أكثر ولا أقل، أنكروا عليه ذلك، واعتبروه معتدياً على ما في يدهم" (ص20).
6-فالقومية العربية لا تكفُّ عن التباهي والتفاخر، ولها مؤسساتها، سواء فاشلة أو ناجحة، ويجعل زعماؤها منها ديناً مقدساً، ... فإذا طلب الأكراد أن يكون لهم قومية استنكروا فهم هذا (ص21).
*صدام حسين:
[كردستان جنة الله على الأرض].
صدام حسين
* نزار بابان (كاتب ومناضل كردي):
[كردستان جنة الله وجحيم أمة].
نزار بابان
محاضرة أكراد العراق(طموح أكراد العراق بين الممكن والمستحيل)
على رغم ما تعرض له أكراد العراق من ويلات واضطهاد خاصة من الحكومات العراقية السابقة وخاصة نظام الديكتاتور العراقي صدام حسين، إلا أن رجائي فايد مؤلف كتاب (أكراد العراق ... الطموح بين الممكن والمستحيل) يرى أنهم رغم كل ما تعرضوا له من ويلات كانوا الأسعد حظًا على الإطلاق بالمقارنة بباقي المجموعات الكردية في دول الجوار المختلفة، وذلك للمعاملة الخاصة التي يتعاملون بها في العراق، والتي تجعلهم أشبه بدولة مستقلة، ولذلك يحاول المؤلف أن يطرح عدة تساؤلات مفادها: ما هي أبعاد الطموح الكردي في المنطقة، وكيف تتحقق، وما هي التفاعلات التي ستترتب على ذلك الطموح؟.
ولم ينس رجائي فايد في نفس الوقت أن ينبه إلى وجود قلة محدودة جدا من المثقفين العرب، أدركت عن وعي، مدى أهمية الاعتراف بالوجود الكردي بين ظهرانينا، شأنهم في هذا شأن الأقليات غير العربية، والتي تعيش في المنطقة، وأنه من منطلقات عدة، لا بد أن تحصل تلك الأقوام على حقوقها القومية.
ويؤكد الكاتب رجائي فايد وصف السياسي والمفكر القومي العربي الدكتور جمال الأتاسي، الذي يقول عن أكراد العراق أن المكان مختلف وشكل القرى مختلف، والسكان مختلفون، والأزياء مختلفة... اللغة غير لغة أهل العراق.. وكل الأشياء تختلف عن نظائرها في العراق، ويصف الأتاسي قائلاً: وبشجاعة تحسب لصاحبها، يقرر أن هذا الشعب غير باقي الشعب العراقي العربي.
ثم ينتقل الكاتب رجائي فايد إلى الإشارة إلى بعض من الرموز الكردية التي أثرت في محيطنا العربي والإسلامي، فيقول أن الأكراد على مر التاريخ قدموا الكثير للعالمين العربي والإسلامي، منهم صلاح الدين الأيوبي قاهر الصليبيين ومحرر القدس، ومن قبله أبو مسلم الخراساني أحد أبرز فرسان مؤسسي الدولة العباسية والشيخ عبد القادر الكيلاني ومن الأكراد أيضًا، رب السيف والقلم محمود سامي البارودي، ومحرر المرأة قاسم أمين، والإمام محمد عبده، والعائلة التيمورية التي خرج منها أحمد تيمور وعائشة التيمورية، ومحمد ومحمود تيمور، والزعيم الوطني السوري الكبير إبراهيم هنانو، ومحمد كرد علي، والشاعران جميل صدقي الزهاوي وبلند الحيدري، ومن العائلات ذات الأصول الكردية التي أسهمت في الثقافة والفنون العربية عائلة بدرخان، وعائلة وانلي ومؤسس مصر محمد علي باشا وغيرهم كثر.
ويؤكد الكاتب أن الأكراد قدموا الكثير خدمة للإسلام والعروبة سياسيًا وثقافيًا، إلا أن الظروف جعلت منهم خنجرًا في خاصرة الدولة العراقية، فما بين المطالبة بالحقوق والمزيد منها والرفض الحكومي، نشأت المشكلات بين الأكراد والحكومات العراقية المتعاقبة، وخرج إلى الوجود ما عرف بالمسألة الكردية، وما تفرع عنها من مسائل أخرى مثل مسألة ولاية الموصل ومسألة الحدود العراقية الإيرانية، والتركية والسورية، مضيفًا لأن الحركة الكردية شأنها في ذلك شأن أي حركات أخرى في أماكن أخرى من العالم، لا بد أن تأخذ العون المادي والمعنوي من الخارج، فإن ذلك أدى إلى أن دولا إقليمية في المنطقة وجدت في المسألة الكردية فرصة للنيل من خلالها من الحكومة العراقية من أجل تحقيق مآرب لها.
ويشير المؤلف رجائي فايد إلى أنه على الرغم من أن الأكراد من أقدم وأعرق شعوب المنطقة، فإنهم لم يستطيعوا تكوين دولتهم المستقلة على أي جزء من كردستان حتى الآن كغيرهم من الشعوب، وكردستان (أي أرض الكرد) وهو الاسم الأحب لدى الأكراد الذي يدغدغ مشاعرهم القومية، يعيشون على هذه الأرض منذ ألاف السنين، دون أن ينازعهم أحد فيها، وهم في نضالهم هذا يدركون أنهم ضحايا التاريخ والجغرافيا واللعبة السياسية للأمم، مبينًا أن من يستطيع في المستقبل أن يزيح عن كاهله ما تعرض له من ظلم تاريخي كأكراد العراق، فإنه حتما يتطلع إلى باقي الأجزاء من كردستان للتحرر مثلما تحرر، وعندها تتجمع أشلاء الجسد الكردي من جديد.
ويوضح رجائي فايد بعض الإحصائيات المتعلقة بالكردستان جغرافيًا وديموغرافيًا في المنطقة؛ إذ تبلغ مساحة كردستان الكبرى حوالي نصف مليون كيلو متر مربع، وهي بذلك تبلغ نصف مساحة مصر، لكن مساحة مصر معظمها صحاري جرداء، في حين أن كردستان غنية بالأمطار والأنهار والجداول، وتكثر فيها المراعي الطبيعية والزراعات بأنواعها من محاصيل بستانية إلى محاصيل حقلية كالقطن والذرة والقمح والشعير والتبغ.
أما عن عدد الأكراد، فيرى المؤلف أنه يصعب تحديد رقم محدد لهم، وهذا يرجع إلى أن الدول التي تنتمي إليها المجموعات الكردية، لا تعلن ـ لأسباب سياسية ـ عن أعداد الأكراد الموجودين ضمن حدودها السياسية، لكنه يلمح إلى بعض المؤشرات التي تضع أرقامًا تقريبية للأكراد كما يلي:
-تركيا 20 - 25 مليون نسمة.. يعيشون على 29% من الأراضي التركية.
-إيران 12 - 15 مليون نسمة... يعيشون على 12% من الأراضي الإيرانية.
-العراق 6 - 8 ملايين نسمة ... يعيشون على 29% من الأراضي العراقية.
-سوريا 2 - 2.5 مليون نسمة.
-الاتحاد السوفيتي السابق 1.5 - 2.5 مليون نسمة.
-الأكراد في المهجر حوالي 2 مليون نسمة.
ويخلص المؤلف من تلك الإحصائيات إلى أن العدد الإجمالي للأكراد ما بين 35.5 إلى 46.5 مليون نسمة، مضيفًا أنهم يتوزعون على عدة دول متجاورة، وقد تم ذلك نتيجة للتقسيمات التي جرت لكردستان.
ويشير المؤلف رجائي فايد إلى كلام الكاتب شرف خان البدليسي في كتابه الشرفنامه الكردية، سائلاً: (هل تريد أن تعرف أيها الكردي ما هي الأماكن التي يقطنها أقرباؤك؟.. إنها صوب البحر الأسود وشمالا أردهان وآراس وشرقا من جبال الوند حتى جبال حمرين وسنجار وطريق نصيبين)، مجيبًا أنه في العراق يعيش الأكراد في جزء كبير من ولاية الموصل ذات الأكثرية الكردية "القسم الشمالي من العراق"، حيث تمتد منطقتهم جنوبا حتى سلسلة جبال حمرين التي تقطع طريق بغداد آربيل في منتصفه.
وفي تركيا، يشكلون الأغلبية الساحقة في ولاية هكاري القريبة من الحدود الإيرانية، وكذلك في المناطق الجبلية في ولايتي وان وبتليس وفي ولايتي ديار بكر وخربوط ومنطقة بوتان ومقاطعة ديرسيم. أما في إيران، فيشكل الأكراد الأغلبية المطلقة في ولايتي كرمنشاه وكردستان، وبعض أجزاء من مقاطعة ساوجبلاغ وكردستان مكري في جنوب بحيرة أورومية وفي الرضائية.
وفي الاتحاد السوفيتي السابق، في أذربيجان السوفيتية، ومقاطعات أخرى. أما في سوريا، فيتواجد الأكراد في محافظات القامشلي وحلب والحسكة. ومن أبرز المدن الكردية مدينة أربيل، مدينة السليمانية ومدينة دهوك ومدينة كركوك في العراق ومدينة ديار بكر بتركيا، ومدينة بدليس.
ويتطرق الكتاب إلى أحد الفاعلين الرئيسيين على الساحة الكردية، ويذكر أنه في عام 1977 بدأ اسم عبد الله أوجلان يظهر بقوة على الساحة الكردية، وذلك من أجل حق تقرير المصير للشعب الكردي وخلق تنظيم ثوري محترف والتحول للكفاح المسلح، عن طريق حزب العمال الكردستاني PKK ثم في 31 مايو 1999، كان بدء محاكمة عبد الله أوجلان، الذي وقف خلف صندوق زجاجي ضد الرصاص وحكم بإعدامه، وأمام الضغوط الدولية والاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، الذي تسعى تركيا للانضمام إليه، تم تخفيف الحكم إلى السجن مدى الحياة.
كما أنه أمام نفس الضغوط بدأت تركيا في التخفيف من حدة إجراءاتها ضد الأكراد، والسماح بإصدار الصحف والإفراج عن بعض المعتقلين الأكراد، وكان في المقدمة منهم ليلى زانا، والتي كانت نائبة في البرلمان التركي، وأصرت على أن تقسم قسم العضوية باللغة الكردية، فرفعت عنها الحصانة البرلمانية، وقدمت للمحاكمة وأودعت في السجن.
ويقول المؤلف رجائي فايد أن المسألة الكردية في تركيا دخلت إلى الثلاجة مؤقتًا، فأحيانا تعلن الأحزاب الكردية عن تحولها إلى الكفاح السلمي، وأحيانًا أخرى تعلن عن عودتها للكفاح لمسلح، لكن لن يطول الوقت طويلاً حتى تخرج من جديد من هذه الثلاجة.
أما فيما يتعلق بأكراد العراق، يوضح الكاتب رجائي فايد أنه المجموعة الكردية الوحيدة التي برزت على السطح واستطاعت أن تحقق لنفسها مكاسب لم تستطع أي مجموعة كردية أخرى أن تحقق جزءًا منها، مرجعًا ذلك للظروف المختلفة، لذلك كانت مقولات القيادات الكردية بالعراق حول المجموعات الكردية الأخرى (لسنا نحن من قسم كردستان، لقد خرجنا لنجدها هكذا، لقد تم التقسيم منذ مدة، ومع مرور سنوات التقسيم، حدث تمايز بين المجموعات الكردية المختلفة وخصوصية كل مجموعة عن الأخرى، وليس لها أن تصدر هذه المشاكل إلى المجموعات الأخرى.. فمشاكل أكراد تركيا تحل في أنقرة، ومشاكل أكراد إيران تحل في طهران، ومشاكل أكراد سوريا تحل في دمشق.
ويذهب إلى أن المكاسب التي تحققت للحركة الكردية تعود إلى أسباب قديمة نسبيًا ومنذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ومؤتمر القاهرة في 12 آذار/مارس 1921برئاسة وزير المستعمرات البريطاني "ونستون تشرشل"، ووضع المناطق الكردية وعلاقتها بالعراق.
ويرى المؤلف رجائي فايد أنه منذ أدار الأكراد منطقتهم ذاتيا بعيدا عن الحكومة المركزية في بغداد منذ عام 1991، والمنطقة الكردية ملاذا لكافة قوى المعارضة العراقية، وللمواطن العادي العراقي الذي ضاقت به سبل الحياة في العراق، والذي يعود ليرى الأهل فيكون اللقاء في المنطقة الكردية، أما قوى المعارضة فكانت المنطقة الكردية مكانا مفضلا للقاءاتها، فاجتماعاتهم فيها، موضحًا أنها على الجانب المعنوي اجتماعات معارضة على أرض عراقية، وهذا أعطى للكرد مكانة بارزة في فصائل المعارضة العراقية، حيث كانت المعارضة العراقية الوحيدة التي تعارض من على الأرض العراقية، في حين أن الآخرين يعارضون من الخارج، ولذلك انتشر هذا المصطلح "معارضة فنادق ومعارضة خنادق"، ولأن الولايات المتحدة كانت تحضر للحرب على العراق، ولم يكن أمامها سوى فصائل المقاومة العراقية ليكون لهم دور في مستقبل العراق، فقد سعت إلى تجميع صفوفهم والتنسيق فيما بينه.
يمهد المؤلف رجائي فايد للحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق، مشيرًا إلى دور الأكراد فيها، ذاكرًا أنه خلال تصاعد التهديدات الأمريكية للعراق خلال عام 2002، نشطت العلاقات بين الولايات المتحدة والأكراد وقوى المعارضة العراقية للتشاور على ما يمكن لهذه القوى أن تقدمه سندًا لتلك الحرب، وترتيبًا للبيت العراقي في مرحلة ما بعد السقوط المتوقع للنظام العراقي، ولأن الولايات المتحدة كانت تهيئ مسرح العمليات لحربها القادمة، فقد كان هذا المسرح يشمل تركيا في كردستان، وأكراد العراق في كردستان أيضًا، موضحًا أنه في خضم ذلك مثلت تركيا حساسية خاصة بالنسبة لأكراد العراق بسبب ما يعرف بمسألة ولاية الموصل، حتى أن رئيس الوزارة التركي السابق "بولاند أجاويد" قال بوضوح إبان المعركة الانتخابية التركية والتي جرت أواخر عام 2002 "إن ولاية الموصل وكركوك أمانتان لدى الحكومات العراقية المتعاقبة، وقد آن الأوان لاستردادهما".. لذلك فإن مسالة مشاركة تركيا في الحرب كان إجراء بالغ الخطورة على الأكراد.
* رؤيتان مختلفتان ميَّزتا الصراع الفكري والسياسي إزاء القضية الكردية في العراق
خاض العرب والكرد كل على انفراد وبشكل مشترك نضالاً عنيداً وطويلاً من أجل حقوقهم القومية العادلة والمشروعة وانتظرا تنفيذ الوعد السياسي الذي أعطي لقيادة الشعبين في حينها بإقامة دولتيهما المستقلتين. وتجلى ذلك النضال في انتفاضاتهما وثوراتهما قبل قيام الدولة العراقية أو بعدها حين لم تكن ولاية الموصل قد ألحقت بعد بالدولة العراقية الملكية الحديثة التي تشكلت في عام 1921. وكانت الطموحات القومية للشعبين قد بدأت تبرز لتوها على صعيد النضال الوطني وتؤثر بشكل ملموس على حركة الجماهير. وكان الدور البارز في قيادة هذا النضال بيد شيوخ العشائر وعلماء الدين وعندما ألحقت ولاية الموصل، وبضمنها كردستان الجنوبية (العراق) التي كانت تضم إلى جانب مدينة الموصل المناطق الكردية منها، إضافة إلى السليمانية وأربيل وكركوك، إلى الدولة العراقية في عام 1925، لم يتوقف الشعب الكردي عن النضال في سبيل الحصول على حقوقه المشروعة التي أقرت في حينها عصبة الأمم وفي معاهدة سيفر 1920، رغم تخلي انجلترا وفرنسا عن وعوديهما له، إذ لم يؤخذ رأي الشعب الكردي عملياً حول موقفه من إقامة دولته المستقلة أو اندماج كردستان الجنوبية (ولاية الموصل) مع بلاد ما بين النهرين (القسم العربي) وتكوين الدولة العراقية الملكية، أو إقامة الإدارة الذاتية في كردستان الجنوبية ضمن الدولة العراقية. وكان موقف الشعب الكردي واضحاً وصريحاً، إذ كان يريد إقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض كردستان أو إقامة الحكم الذاتي فيها. ولم يكن هذا الموقف منسجماً مع أهداف ومصالح بريطانيا، الدولة المنتدبة على المنطقة والمستعمرة لها، ولا مع تصورات ومصالح النخبة الحاكمة العراقية الجديدة حينذاك، حيث كان أغلبهم من العسكريين الذين عملوا في الجيش العثماني وكانوا ذو قومية عربية.
ومنذ تلك الفترة تقريباً سادت في صفوف السياسيين والمثقفين والمهتمين في الشؤون العامة العراقية من العرب، وأغلبهم من خريجي المدارس والتربية العثمانية، رؤية قومية عربية ضيقة إزاء الكرد وحقوقهم المشروعة والعادلة في إطار الدولة العراقية، رغم أنهم كانوا من أوائل من ناضل في سبيل الحقوق القومية العادلة للعرب في العراق وضد سياسات التتريك العثمانية، ولكنهم لم يدركوا بعمق ومسؤولية مفهوم الحرية والديمقراطية وأهميتها لا للشعب العربي في العراق فحسب، بل ولجميع الشعوب، ومنها الشعب الكردي، التي يفترض أن تتمتع بها جميع الشعوب. ومنذ أن تصاعد النضال الكردي والعربي وجوده في الساحة السياسية العراقية برزت رؤية أخرى إزاء الموقف من القوميات وحقوقها في العراق، رؤية ديمقراطية تقدمية حملتها الأوساط اليسارية العراقية ومنها الاتجاهات الماركسية أيضاً.
وابتداءً من ثلاثينيات القرن العشرين تبلورت لدى الأوساط السياسية العربية في العراق تدريجياً رؤيتان إزاء الحقوق القومية للشعب الكردي وحقوق القوميات الأخرى الثقافية والإدارية وسبل معاجلتها والحلول التي تسعى إلى ممارستها كل من هاتين الرؤيتين( )؟
ورغم مرور عشرات السنين على وجود وصراع هاتين الرؤيتين، ورغم كثرة المحن والكوارث والمآسي التي عاشها العراق من جراء التعامل غير الواعي وغير العقلاني وغير المنصف مع هذه المسألة الكردية الحساسة والحيوية، فإن هاتين الرؤيتين ما تزالان تتصارعان وكأن دروس الماضي لا قيمة لها أصلاً عند أصحاب الرؤية الأولى، وكأن العراق بحاجة إلى مزيد من المحن والكوارث والمآسي والموت لمزيد من البشر، وكأن الشعب الكردي لا حق له كبقية الشعوب في العالم في التطلع إلى الحرية والديمقراطية والمساواة والوحدة القومية والتمتع بها فعلاً.
-تبنت الرؤية الأولى، التي سادت في العراق في مختلف المراحل المنصرمة ومارسها الحكام بإصرار أهوج عجيب في العهدين الملكي والجمهوري، مبدأ رفض الاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي، ومنها حقه الثابت في تقرير مصيره على أرض وطنه وإقامة دولته الوطنية المستقلة أو حقه في إقامة الحكم الذاتي أو إقامة اتحادية فيدرالية في كل من الإقليمين العربي والكردستاني في إطار عراق جمهوري ديمقراطي موحد. وتبنت هذه الرؤية منذ البدء أسلوب القوة وممارسة العنف والردع والتأديب وزج الجيش في معارك شوفينية ضد الشعب الكردي لحرمانه من حقه في التمتع بتلك الحقوق ومطالبته الملحة بالاستجابة لها. وتجلى هذا الموقف، حتى بعد الاعتراف بوجود شعبين في العراق إلى جانب وجود قوميات أخرى، بعد إسقاط الملكية وقيام الجمهورية، عندما كرس المشرع العراقي ذلك في الدستور المؤقت بعد ثورة 14 تموز 1958 حيث جاء في المادة الثانية منه النص التالي: "العراق جزء من الأمة العربية"( ).
ثم نصت المادة الثالثة على ما يلي: "يقوم الكيان العراقي على أساس من التعاون بين المواطنين كافة باحترام حقوقهم وصيانة حرياتهم ويعتبر العرب والكرد شركاء في هذا الوطن ويقر الدستور حقوقهم القومية ضمن الوحدة العراقية"( ). إن القول "أن العراق جزء من الأمة العربية" يعني مسألتين وهما:
1. أن الأرض العراقية هي جزء من الوطن العربي، وبالتالي لا مجال للحديث عن وجود لكردستان العراق.
2. ورغم الاعتراف بوجود كرد وحقوق قومية لهم يتنافى مع القول بأن العراق جزء من الأمة العربية إذ مثل هذا القول يشمل الكرد أيضاً، كما يشمل غير الكرد من قوميات أخرى. وهو خلل صارخ غير متأت من عدم وعي ما كتب بقدر ما كان إصراراً على مخالفة الحقيقة حول الشعب الكردي.
واشتدت هذه الوجهة الفكرية والسياسية بعد انقلاب الثامن من شباط/ فبراير عام 1963 وتبلورت في سياسات الحكومات التي تشكلت في أعقابه. واعتبرت القوى التي تناضل في سبيل الاعتراف بالحقوق القومية العادلة والمشروعة للشعب الكردي ومطالبته بالحكم الذاتي بمثابة قوى انفصالية ترتكب جريمة لا تغتفر. وكرس هذا المنهج سياسة العنف والحرب لفرض الحل الأوحد الذي تراه القوى القومية العربية الشوفينية لدى البعض منهم، وتريد فرضه على الشعب الكردي. ولم تتبن هذا الموقف القوى والأحزاب السياسية الحاكمة فحسب، بل وبعض القوى والأحزاب التي كانت في المعارضة، سواء أكان ذلك في العهد الملكي أم في العهد الجمهوري. أنها كانت وما تزال تعبر بذلك عن وجهة فكرية وسياسية قومية ذات طبيعة شوفينية بغض النظر عن وجود هذه المجموعة أو تلك في السلطة السياسية أو خارجها.
ولم يكن الموقف من المسألة الكردية وسبل معالجتها هي المسألة الوحيدة التي تختلف الرؤية حولها، بل كانت هناك قضايا أساسية أخرى، ومنها مواقف التمييز والتعامل غير المتكافئ إزاء الكرد في العراق من جانب الحكومات المختلفة والتي تجلت في مختلف مجالات الحياة اليومية ابتداءً من حرمانهم من الدراسة بلغة الأم الكردية وتضييق قبول الكرد في الجامعات والمعاهد المختلفة، وخاصة العسكرية منها، أو التوظيف في الوزارات المختلفة، وخاصة الخارجية والداخلية والدفاع.. الخ، وكذلك التمييز البارز في مجال توظيف رؤوس أموال الدولة في عمليات التنمية في كردستان العراق، حيث كان نصيبها محدوداً بالقياس إلى مناطق معينة من العراق. وبدا هذا واضحاً وصارخاً منذ السبعينيات من القرن العشرين، تماماً كما كان نصيب بعض محافظات الوسط والجنوب المهملة من جانب الحكم الصدامي. وكانت المشكلة تبرز أيضاً في مجال التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية وخاصة المناطق الريفية، أو إقامة "الطرق الاقتصادية"الخاصة بنقل السلع الزراعية وتأمين تخزينها وحفظها من التعفن وتسويقها. وهذه أمثلة قليلة قياساً لممارسات كثيرة تعرض لها الشعب الكردي من جانب النظم الحاكمة في بغداد. ولا شك أن الرؤية كانت مختلفة جداً إزاء مفهوم ومضمون الديمقراطية والحقوق المدنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان وأهمية التمتع بها وممارستها فعلاً لا من العرب والكرد فحسب، بل ومن جميع القوميات الأخرى في العراق.
أما الرؤية الثانية التي عبرت عنها قوى وأحزاب وشخصيات سياسية وعلمية ومثقفة ومهتمة بالشؤون العامة، فكانت في الغالب الأعم في صفوف المعارضة بشكل عام، إذ كانت وما تزال تؤكد ما يلي:
إن الحل العلمي والعملي والواقعي والعادل والمشروع للمسألة الكردية يتم أولاً وقبل كل شيء على أساس الاعتراف المبدئي والمتبادل بوجود شعبين رئيسيين في العراق هما الشعب العربي والشعب الكردي إلى جانب قوميات أخرى عديدة. ويترتب على هذا الاعتراف ثانياً أن يتمتع الشعبان بحقيهما في تقرير مصيريهما واختيار الوحدة مع بعضيهما في دولة واحدة أو الانفصال أو إقامة دولتين مستقلتين على أرض القسم العربي من العراق وعلى أرض كردستان منه، كما أن وحدتهما الاختيارية يمكن أن تتم على أساس الحكم الذاتي أو الاتحاد الفيدرالي. وهذه القضية يقررها كل شعب بمفرده ويتم الاتفاق بينهما على الصيغة المناسبة التي يفترض أن ينص عليها دستور البلاد الدائم. ومثل هذا الحل يتم عبر التفاوض الديمقراطي السلمي وفي ظل حكم دستوري ديمقراطي تعددي لا مكان للاستبداد والعنف والقسوة فيه. إنه الحل الوحيد والعقلاني الذي يرضي جميع الأطراف ويستند على قرارات الأمم المتحدة بحق الشعوب صغيرها وكبيرها في تقرير مصيرها. ويفترض أن يتضمن الدستور الديمقراطي الدائم في الاعتراف الكامل بالحقوق الثقافية والإدارية للقوميات الأخرى في كردستان العراق وفي العراق عموماً.
ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين مارست الرؤية الأولى كل أساليب وأدوات القهر والزجر والقوة والعنف والقتل الجماعي والحرب والتدمير الاقتصادي والتخريب العمراني المتوفرة في أيدي الدولة العراقية واستعانت بالغير أيضاً لكسر شوكة الشعب الكردي وفرض الحل الشوفيني عليه، ومارست كل أساليب وأدوات الحقد أو الكراهية العنصرية في حملات ومذابح الأنفال السيئة الصيت واستخدمت الأسلحة الكيميائية لهذا الغرض على مدن وقرى كردية مثل مدينة حلبجة في 16 آذار 1988، ولكنها لم تفلح في ذلك ولن تفلح بطبيعة الحال لأنها إرادة شعب كردي مؤمن بحقوقه القومية.
فحكومات العهد الملكي جربت ومارست سياسيات تميزت بالشوفينية ورفضت الاعتراف بحق الشعب الكردي في تقرير مصيره وممارسة بقية حقوقه القومية المشروعة والعادلة وشنت الحملات العسكرية ضده وخربت قراه ومدنه وطاردت سكانه الكرد وفرضت الهجرة القسرية على المناضلين الكرد من بناته وأبنائه وأنزلت الدمار والخراب على السكان الآمنين في فترات مختلفة. ورغم ذلك عجزت عن لوي رقبة هذا الشعب في كردستان وفرض حلولها عليه، إذ واصل النضال في سبيل تلك الحقوق القومية العادلة وكانت أحد الأسباب الأساسية والمباشرة في إضعاف الحكومة الملكية ونخرها من الداخل وسقوطها أخيراً. إضافة إلى الأسباب الأخرى، وخاصة غياب الديمقراطية وكبت الحريات العامة وغياب العدالة الاجتماعية والخضوع التام لإرادة ومشيئة المستعمرين.
وبعد سقوط الملكية وقيام الجمهورية العراقية في ثورة 14 تموز 1958 عمدت القوى الحاكمة إلى ممارسة السياسيات الشوفينية. فمنذ البدء أصرت حكومة عبد الكريم قاسم على عدم تغيير نص المادة الثانية من الدستور المؤقت ورفضت الالتزام بتنفيذ مبدأ الاعتراف بحقوق الشعب الكردي القومية العادلة وممارستها فعلاً. فتراكمت المشكلات تدريجياً وتفجرت في ثورة الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 1961 التي قام بها الشعب الكردي بقيادة الزعيم الخالد الملا مصطفى البارزاني بعد أن شن النظام الجمهوري بقيادة عبد الكريم قاسم عدواناً عسكرياً ضد الشعب الكردي والذي بدأ بقصف همجي لمناطق البارزانيين وقتل الكثير من الأبرياء من النساء والأطفال والرجال، ولم يستمع إلى صوت العقل الذي نادى بالديمقراطية للعراق والسلم في كردستان والحكم الذاتي للشعب الكردي. وكانت واحدة من أكثر النقاط حسماً في إضعاف حكم عبد الكريم قاسم وسقوطه لاحقاً.
استولت القوى البعثية والقومية على السلطة بعد إطاحتها بحكومة عبد الكريم قاسم في انقلاب 8 شباط 1963 أي 14 رمضان 1963. ولكنها لم تستفد من التجارب المنصرمة، بل صممت على خوض الحروب ضد الشعب الكردي واعتبرتها "نزهة ربيعية" منطلقة في ذلك من ذهنيتها الشوفينية والعسكرية التي لا تعرف سوى لغة القوة والحرب في معالجة المشكلات الداخلية والرفض الصريح لحقوق الشعب الكردي القومية وحقوق القوميات الأخرى أيضاً. قادت تلك السياسيات إلى المزيد من نزيف الدم، إلى الموت والدمار والخراب، ولكنها انتهت أيضاً بسقوط ذلك النظام البعثي والذي تلاه، لأنهما مارسا عملياً نفس السياسة العدوانية.
وأخيراً جاء نظام البعث الصدامي إلى الحكم ثانية. وفي السابع عشر من تموز عام 1968 حتى سقوط النظام تحت ضربات التحالف الأمريكي- البريطاني في التاسع من نيسان عام 2003 عاش الشعب العراقي مأساة مريرة بلغ عمرها 35 عاماً تقريباً وتميزت بكونها أسوأ العهود والنظم التي عرفها العراق الحديث.
وتحت ظروف خاصة وموازين قوى معينة أجبر نظام البعث على الاعتراف بوجود الشعب الكردي في كردستان العراق وأقرَّ ببعض حقوقه وفق اتفاقية الحادي عشر من آذار من عام 1970. ولكن قيادة البعث كانت منذ البدء تقدر بأن هذه الاتفاقية ليست سوى مرحلة عابرة وقصيرة يفترض التحضير في أثناء ذلك بما يساعد على كسر شوكة الشعب الكردي وقيادته وحركته الثائرة. فبدأت بمحاولة نسف المشروع ابتداءً من التآمر على القيادة الكردية من خلال تنظيم عملية اغتيال فاشلة ضد قائد وزعيم الحركة الكردية الملا مصطفى البارزاني، والسعي إلى سلب المضامين الديمقراطية الأساسية لمشروع الحكم الذاتي وجعله مجرد حكم شكلي يخضع للقيادة البعثية، إضافة إلى تقريم منطقة الحكم الذاتي من خلال قطع بعض أوصالها عنها وتعريب الباقي منها. وقادت هذه السياسة إلى تعقيد الأمور وإلى شن حرب دموية ضد الشعب الكردي وترويع الناس والتسبب في خراب القرى وهجرة السكان. وتسنى لنظام الحكم الاستبدادي التعاون مع حكومة شاه إيران وبموافقة الولايات المتحدة الأمريكية بالتنازل عن أراضي عراقية وقسم من شط العراق لإيران وترحيب الحكومة التركية من أجل ضرب الحركة الكردية المسلحة في عام 1975. (اتفاقية الجزائر في 6 آذار 1975م)
بعد ذلك شن النظام البعثي حروباً داخلية وأخرى خارجية ليبرهن على قوته مستجيباً لأطماعه في المنطقة. فكانت المحن والكوارث تتوالى على رأس الشعب العراقي، وحصد الموت مئات ألوف العراقيين. مع قرب نهاية الحرب العراقية الإيرانية ونظم النظام ونفذ حملات ومجازر الأنفال ضد شعبه من الأكراد في حلبجة في 16 آذار 1988 مستخدماً الأسلحة الكيميائية ضد الشعب الكردي وضد قواه المسلحة وبقية قوى الأنصار، بمن فيهم العرب والقوميات الأخرى، في الفترة الواقعة بين شباط/ فبراير وأغسطس/ آب من عام 1988، نجمت عنها عواقب كارثية أصبحت الآن معروفة للجميع. إذ حصدت الرياح الصفراء القادمة من بغداد أرواح عشرات الآلاف من البشر (المواطن الكردي)، كما أصبح مصير عشرات الآلاف الأخرى من الكرد غير معروف حتى الآن. لقد كانت أبشع مجزرة عنصرية ترتكب بحق الشعب الكردي في القرن العشرين. ونفذت هذه المجزرة بدناءة وخسة بالغتين. وقد تم كل ذلك باسم العروبة والقومية وحماية الوحدة العراقية والعربية! ولم تنقطع سلسلة الاعتداءات على الشعب الكردي بل تواصلت في أعقاب انتفاضته وانتفاضة الشعب العراقي كله في آذار/ربيع عام 1991 والتي اضطر أكثر من مليون إنسان كردستاني كردي وعشرات الآلاف من العرب وغيرهم إلى الهروب وترك العراق. وكانت الحصيلة مرعبة. ورغم كل ذلك بقى النظام البعثي حتى سقوطه يعول على استخدام القوة والحرب لمعالجة القضية الكردية، رغم خروج القسم الأعظم من منطقة الإقليم (الحكم الذاتي) من دائرة حكمه وخضوعها للحماية الأمريكية، إذ أنه لم يترك فرصة إلا واستخدمها لتحقيق أهدافه الشريرة.
إن تجارب ثمانية عقود من عمر الدولة العراقية في عهدها الملكي والجمهوري تؤكد بما لا يقبل الشك ما يلي:
1. إن الموقف من المسألة الكردية نشأ مع نشوء الدولة العراقية، هذا النشوء غير الديمقراطي والتربية العثمانية الاستبدادية والرؤية القومية والدينية المتعصبة والقاسية والعنيفة في آن واحد. وانعكس في سلوك الحكام وأجزاء من المعارضة العراقية على امتداد الفترات السابقة، وزاد في الطين بلة موقف سلطات الاحتلال البريطانية الاستبدادي والاستعماري الاستغلالي من القضية الكردية وسعي هذه السلطات إلى تهميش دور الكرد في المنطقة ومنع إقامة دولتهم الوطنية المستقلة على أرض كردستان، والإصرار على تجزئتها. فالموقف الشوفيني، وفيما بعد العنصري، والاستبدادي من قضية الشعب الكردي حمل معه نهجاً مؤسسياً ثابتاً للدولة العراقية شاركت في صياغته وتنفيذه السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية على امتداد العقود المنصرمة.
2. وهذا لا يعني أن النظم السياسية التي وجدت في العراق كانت كلها تسير على خط واحد إزاء المسألة الكردية، إذا برز بعض التباين عند النظم المختلفة، ولكن الموقف الجوهري من حقوق الشعب الكردي ومن حقه في تقرير مصيره كانت في الجوهر واحدة. ففي الوقت الذي استخدم الجميع العنف لإخضاع الشعب الكردي تباين هذا العنف في فترات العهد الملكي عنه في عهد البعث الأول وعهد القوميين ومن ثم في عهد البعث الثاني. وكان الاختلاف في شدة وقسوة العنف لا في وجوده وممارسته. ولكن النظم اللاحقة بنت عنفها وسياستها على ما أرساه العهد الملكي من نهج عدواني في هذا الصدد.
3. إن الرؤية الأولى إزاء المسألة الكردية ليست فقط قاصرة وعاجزة عن تحقيق الأهداف التي ترمي إليها، بل خاطئة وخطرة ومليئة بالاستعلاء القومي والعدوان والرغبة في الهيمنة والاستغلال وتعبر عن شوفينية لا تحترم حتى قوميتها، وأنها لن تقود لاحقاً إلا كما أدت إليه في السابق، أي إلى مزيد من هدر الكرامة والدماء والدموع والخراب والدمار الواسع والخسائر البشرية والمادية، وأنها لا تحصد سوى الريح العاتية لأنها لا تنسجم مع طبيعة الإنسان وحاجاته وحقوقه المشروعة في هذا القرن الجديد، القرن الحادي والعشرين. ومن المناسب أن نشير هنا إلى أن مجموعات من القوميين العراقيين قد أدركوا هذه الحقيقة وتبنوا رؤية أخرى أكثر ديمقراطية ووعياً بواقع العراق وحاجات الشعبين العربي والكردي والقوميات الأخرى. وهي وجهة سليمة ومنصفة وتدل على استعداد ذاتي للتعلم والاستفادة من دروس الماضي لصالح المستقبل.
وخلال الفترات المنصرمة لم تتوفر للرؤية الثانية أي فرصة فعلية لممارسة مضامين رؤيتها الديمقراطية للقضية الكردية وسبل الحل السلمي واستخدام الآليات الديمقراطية الضرورية لتحقيق الغاية المنشودة. وهو ما يفترض التركيز عليه وتبنيه. وكان الأستاذ الراحل والسياسي القدير (عزيز شريف) الذي وضع نفسه في خدمة السلم والديمقراطية في العراق، وقد طرح لأول مرة ومنذ أربعينيات القرن العشرين الحل العلمي والديمقراطي السليم للمسألة الكردية مؤكداً حق هذا الشعب في تقرير مصيره بنفسه، بما في ذلك حق الانفصال وإقامة دولته الوطنية المستقلة على أرض كردستان. كما ناضل بحيوية من أجل هذا الهدف.
ورغم التناقضات التي تلف عالمنا المعولم الراهن واختلال شديد في القيم، فإن القيم العامة والشاملة ما تزال وستبقى تدفع بالناس للنضال في سبيلها، وأبرزها قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، قيم العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات، تلك القيم التي تعترف للشعوب بحقوقها العادلة والمشروعة بما فيها حقها في الانفصال وإقامة دولها الوطنية المستقلة على أرض وطنها. أي أن الاعتراف بالحقوق والواجبات والاحترام المتبادل يعتبر الطريق الوحيد المناسب للتعامل الدولي بين شعوب تعترف بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات وتحترم نفسها.
كان وما يزال نضال الشعب الكردي موجهاً صوب خمس مسائل جوهرية، وهي ليست كثيرة ولا بعيدة عن الواقع، إذ أنها تشكل جزءاً من حقوقه المشروعة، وهي:
1. الاعتراف له بحقه الكامل في تقرير مصيره على أرض وطنه بكل حرية وفي أجواء الديمقراطية وسيادة الشرعية، بما في ذلك حقه في الانفصال وإقامة دولته الوطنية المستقلة. إن هذا الحق ينبغي أن يعترف به من حيث المبدأ ويصان، ويكون له الحق في ممارسته متى شاء ذلك وفي ظروف يقررها وحده؛
2. الاعتراف الواقعي بأن الشعب الكردي جزء من الأمة الكردية الموزعة على أرض كردستان الممتدة في أراضي دول المنطقة الأربع؛
3. الاعتراف له بحقه في المشاركة في إرساء دعائم دولة عراقية جمهورية اتحادية (فيدرالية) تستند إلى دستور ديمقراطي وحياة حرة وتعددية سياسية تحترم حقوق القوميات والأديان والمذاهب والفلسفات والآراء المختلفة وتعترف وتمارس حقوق الإنسان وتقيم علاقات صداقة وتعاون واعتراف بالدول المجاورة وحدودها الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والشعوب الأخرى وتعالج المشكلات الداخلية والخارجية بالطرق السلمية ووفق الآليات الديمقراطية المعترف بها دولياً.
4. الاعتراف له بحقه في استخدام ثروته وخيراته لصالح تنمية الاقتصاد الكردستاني في إطار خطة إقليمية تنسق وتتكامل مع خطة إقليمية عربية وأخرى مركزية تشمل العراق كله، بما يساعد على تجاوز التخلف والأضرار الفادحة التي لحقت بالشعب الكردي وإقليم كردستان وبقية مناطق العراق.
5. الموافقة على استعادة كردستان للمناطق المقتطعة منها، وبشكل خاص كركوك وخانقين وإعادة الحقوق المغتصبة والمهجرين قسراً إليها وكذلك إعادة كل المهجرين بمن فيهم الكرد الفيلية والعرب إلى مناطق سكناهم، لكي يتسنى للجميع بناء عراق جمهوري ديمقراطي اتحادي مزدهر ومتماسك.
فهل في هذا ما يتناقض مع مصالح الشعب العربي في العراق ومع بقية القوميات التي كانت وما تزال تعيش في هذه المنطقة من العالم؟ ليس في ذلك ما يتناقض مع هذه المصالح، بل فيها كل ما يتطابق مع مصالح العرب وما يفترض في العرب أن يمارسوه إزاء أنفسهم وإزاء القوميات الأخرى التي تعيش على أرض العراق. أي أن من حق العرب الكامل أن يقيموا في المناطق العربية فيدرالية أيضاً وتشكل مع الفيدرالية الكردية الجمهورية العراقية الاتحادية ذات الحقوق والواجبات المتساوية، والتي تحترم حقوق القوميات والجماعات الدينية والمذهبية المختلفة. وينظم هذه العلاقة دستور ديمقراطي حديث ودائم وحياة برلمانية تعددية حرة.
إن قناعتي ثابتة في أن العراق المتعدد القوميات لا يمكن أن تبنيه قوى استبدادية وعنصرية وشوفينية لا تؤمن إلا بقوة السلاح في حل المشكلات الداخلية والخارجية. وبرهن الحكم الاستبدادي والعنصري على ذلك وعلى أنه غير مؤهل بالقطع وممارسة سياسات أخرى غير تلك التي مارسها حتى سقوطه إزاء الشعب الكردي بشكل خاص وإزاء الشعب العربي والقوميات الأخرى بشكل عام. ومن هنا كانت الحاجة إلى ضرورة تغييره لتوفير المناخات الضرورية لبناء عراق ديمقراطي اتحادي جديد ومزدهر. إن المستبدين في العالم، ومنهم صدام حسين، هم الأكثر انفصالية وتمزيقاً للمجتمع والبلاد بسبب السياسات العدوانية والعنصرية التي يمارسونها إزاء الشعوب المتآخية في بلدانهم. وصدام حسين ونظامه شكلا الخطر الحقيقي على وحدة النسيج العراقي.
لقد خرج الحكم المركزي الاستبدادي من القسم الأكبر من أراضي كردستان العراق في أعقاب فرض الحماية الدولية على المنطقة مخلفاً وراءه تركة ثقيلة ودماراً واسعاً وعدد هائلاً من العاطلين عن العمل والضحايا الأبرياء الذين لا يعرف مصيرهم وخزينة مفرغة من الموارد المالية ومنشآت صناعية متوقفة وعاطلة عن العمل أو مخربة وقرى محروقة ومهدمة في جميع أرجاء ريف كردستان، وأرياف حدودية مليئة بالألغام الأرضية التي يتراوح عددها بين 15-20 مليون لغم. وستكون تكاليف إزالتها أعلى بكثير من أثمان اقتنائها وزرعها في الأرض. لقد ترك الحكم المركزي الاستبدادي الشعب الكردي في القسم الأكبر من كردستان التي هي الآن في إطار الحكم الفيدرالي، بعد أن اقتطع منه كركوك وخانقين وأجزاء أخرى وضمها للقسم العربي من العراق/ في أوضاع نفسية واجتماعية غاية في التعقيد، وخاصة أولئك الذين عاشوا مجازر الأنفال والكيماوي والهجرات الهروبية القسرية السيئة الصيت في أعوام 1975 و 1991، أو أولئك الذين شاركوا في حروب النظام ضد إيران أو ضد أبناء شعبهم. وكانت ولا تزال حملات التطهير العرقي في كركوك وغيرها من المناطق الكردية تجسد صورة دنيئة وخبيثة للعنصرية التي تهيمن على عقلية وسلوك حكام العراق، كما أنها كانت تثير الكرد ضد العرب الذين يستولون على مساكنهم ومدنهم دون أدنى مبرر وبأمر من النظام، وهي أوضاع تحتاج إلى سنوات طويلة لمعالجتها. كما كانوا السبب وراء تعقيد العلاقات الشعبية في المجتمع العراقي، وهي بحاجة إلى سنوات طويلة وإلى جهود حثيثة بعد أن زال النظام لمعالجتها وإعادة المياه إلى مجاريها الطبيعية. إذ غالباً ما تثير الأفعال العنصرية ردود فعل قومية ضيقة وأحياناً عنصرية أيضاً، وهو أمر طبيعي ومعروف. ورغم بروز هذه الظاهرة هنا وهناك وبسبب ما قام به النظام باسم العرب من جرائم بشعة ضد الشعب الكردي، فإن الشعب الكردي في غالبيته العظمى، ومعه الأقليات القومية، ميز بصواب بين النظام الاستبدادي، ومعه قلة من العنصريين والمتطرفين العرب، وبين الغالبية العظمى من الشعب العربي في العراق، وهو أمر له أهميته وقيمته في مستقبل العلاقات العربية الكردية في عراق المستقبل القائم على أساس الدستور الديمقراطي الاتحادي.
إن الثروات المتوفرة في العراق والكفاءات والخبرات التي يمتلكها والمشتتة حالياً في سائر أرجاء العالم يمكنها أن تعجل من عمليات إعادة اعمار العراق وتسريع عملية التنمية الاقتصادية والبشرية وضمان مستقبل أكثر بهاءً لعراق لم يجد الراحة والاستقرار عقوداً طويلة بل قروناً طويلة. وتحقيق هذا الهدف يستوجب السعي والنضال في سبيله.
ويبدو لي أن الفيدرالية الكردستانية الراهنة في مقدورها أن تقدم النموذج المطلوب إقامته في عراق المستقبل. وهي، رغم الإيجابيات التي يعيشها الإنسان العراقي في كردستان العراق حالياً، ما تزال بحاجة إلى تعاون وتنسيق الجميع لحشد المنشود. وهي أولاً وقبل كل شيء أما مهمة إجراء تغيير في واقع الانقسام الراهن في ممارسة السلطات الثلاثة، التشريعية والتنفيذية والقضائية. إن هذا الواقع يعتبر جزءً من تركة وعلاقات الماضي السلبية الممتدة في الحاضر، والتي لعبت سياسات النظم في العراق ودول الجوار دوراً أساٍسياً فيها، والتي لا يمكن ولا يجوز استمرارها. وإلا ستكون على حساب ومصالح الشعب الكردي، وستكون في الوقت نفسه على حساب ومصالح العراق كله. ومن هنا تنشأ مسؤولية الأحزاب والأخوان المسؤولين في كردستان وكل القوى الأخرى المشاركة في الحكم أو المساندة للحكم هناك. ليست الرغبات والنيات الحسنة هي القادرة على حل المشكلات، بل تلك المقترنة بالإرادة الواعية والصادقة والواقعية والتي تسعى إلى توفير مستلزمات حل المشكلات المعلقة بالطرق السلمية. فهل تتوفر أرضية واقعية لمثل هذا الحل السلمي والديمقراطي على ارض كردستان العراق؟
الجواب نعم من الناحية النظرية، إذ لا توجد مشكلة في كردستان العراق لا يمكن حلها بالطرق السلمية. ومن الناحية العملية تبرز مشكلات غير قليلة، ولكن السنوات المنصرمة أكدت وجود إمكانية فعلية لتوفير مستلزمات ذلك. والإشكالية التي يفترض التفكير بها لا تنحصر في الاختلافات الموجودة في وجهات النظر بين الطرفين أو الحزبين الرئيسيين، (الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني)، في كردستان العراق فحسب، إذ يفترض أن يكون طرفاً واحداً عند معالجة مشكلاتهم الداخلية، بل الإشكالية الأساسية تبرز في التدخل الإقليمي والدولي الذي يمكن أن يعيق أو يسرع الحل الديمقراطي بينهما. لم تلعب الأطراف الإقليمية حتى الآن دوراً إيجابياً في حل الخلافات الداخلية لكردستان العراق، في حين يلعب العامل الدولي في الوقت الحاضر، بغض النظر عن العوامل المحركة له، دوراً إيجابياً ملموساً، إذ أنه يضغط على قوى الطرفين باتجاه معالجة الإشكاليات بينهما بالطرق السلمية وإنهاء الوضع غير الطبيعي الراهن في اقتسام السلطات الثلاث وفقدان مركزية القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والعسكري. ويقع على عاتق المسؤولين مهمة استثمار هذه الفرصة الفريدة للشعب الكردي لتكريسها وتعزيز المسيرة الديمقراطية لكردستان العراق وجعل الفيدرالية الكردستانية القائمة نموذجاً للعراق كله ولسائر دول المنطقة وشعوبها. ويأمل الإنسان أن يتحقق ذلك في مدى غير بعيد، فالزمن ليس باستمرار لصالح الحلول الإيجابية، وليس من حقنا تضييع الفرص بانتظار فرص أخرى غير معروفة. وهو ما يفرض أن نعيه جميعاً ونعمل على أساسه ومن أجله.
ويبدو لي أن القوى والأحزاب والشخصيات السياسية والثقافية وذات الاهتمام بالشؤون العراقية العامة قادرة أن تلعب دوراً حيوياً وفعالاً في تأكيد مسألتين أساسيتين برهنت عليهما تجارب الفترة المنصرمة على قيام الدولة العراقية الحديثة، وهما( ):
1. أن الاستبداد وممارسة القوة والعنف والقسوة والحرب تعتبر من الأساليب العاجزة عن تقديم حلول عملية للمشكلات التي يعاني منها المجتمع العراقي ومنها بشكل خاص المسألة الكردية وقضايا القوميات الأخرى، بل تزيدها تعقيداً.
2. إن الحل الوحيد والممكن هو الحكم الدستوري والديمقراطي التعددي وخوض الحوار الديمقراطي والحضاري الهادف إلى تحقيق الحلول العملية للمشكلات القائمة وفي مقدمتها القضية الكردية. وأن الاعتراف بحقوق الشعب الكردي العادلة والمشروعة وحقوق القوميات الأخرى العديدة التي أشرنا إليها في الرؤية الثانية وحمايتها هو الطريق المبدئي والوحيد الذي يوصلنا إلى بناء عراق جمهوري دستوري ديمقراطي اتحادي.
إن تبني ذلك من قبل المثقفين العراقيين والبدء بخوض حوار عراقي موضوعي وهادف سيكون إسهاماً كبيراً على طريق التغيير والبناء الديمقراطي المنشود للعراق الذي غرق لعقود في وحل الاستبداد والعنصرية والكراهية والعنف والموت والخراب، وسيكون دافعاً جيداً للسياسيين العراقيين الذين يتبنون الحلول الديمقراطية والواقعية للعراق الجديد.
* نضال الشعب الكردي من أجل تأسيس دولة كردية
في الثامن من شباط 1918 أعلنت الحكومتان البريطانية والفرنسية في بيانهما المشترك عن الغاية التي تهدفان إليها وهي تشكيل حكومات وطنية في الأقطار التي كانت تحت سيطرة الدولة العثمانية فكان الشعب الكردي من الشعوب التي اهتزت فرحاً بهذا الهدف السامي الذي طالما ناضل وقدم التضحيات الجسام في ثوراته العديد من أجل الوصول إلى تحقيق هذا الهدف وهو التحرر من السيطرة العثمانية خاصة وأن الحرب العالمية الأولى قد عمقت لدى قسم من الشعب الكردي الوعي القومي وفكرة استقلال كردستان.
كتب نائب الحاكم السياسي البريطاني العام في العراق (ويلسن) في كتابه (بلاد ما بين النهرين بين ولاءين ج2 ص 228) قائلاً إنه إثر احتلالنا لكركوك في 7/5/1918 عقد الوجهاء (الأكراد) في السليمانية اجتماعاً قرروا تشكيل حكومة كردية برئاسة الشيخ محمود الحفيد وأنه بعد أن شكل حكومته المؤقتة في اجتماع السليمانية كتب إليّ (ويلسون) والقائد العام في كركوك رسالة عبر فيها عن نفسه بعبارة "نيابة عن الشعب الكردي القاطن على كل من جانبي الحدود" أي نيابة عن أكراد كردستان إيران أيضاً( ) وأضاف أن الشيخ محمود الحفيد كتب في رسالته أنه يسلم مقاليد الحكم في السليمانية إلينا أو أن نجعله ممثلاً لنا تحت العلم البريطاني المجيد وأن أهالي كردستان قد سروا من النجاح الذي أصبناه وأنهم قد تحرروا من الطغيان التركي على يد قطعاتنا الباسلة ليتطلعون إلى الازدهار تحت حكمنا على ما ازدهر العراق سواء بسواء ثم إنه ختم قوله راجياً أن يعطي الضمان الكافي بالاّ يسمح تحت وطأة أي ظرف للسلطة التركية بأن تعود إلى كردستان مرة أخرى.
وكتب (ويلسن) أنه أجاب الشيخ محمود الحفيد بأنهم ينسحبون من كركوك ولكنني آمل أن نعود سريعاً. وقال قبلت اقتراح الشيخ محمود الحفيد باتخاذه ممثلاً لنا في السليمانية وكتب منشوراً عاماً بهذا الخصوص لكن احتلال الأتراك لكركوك حال دون نشره ... ثم أن الأتراك أرسلوا مفرزة قوية إلى السليمانية واودع الشيخ محمود الحفيد السجن كما سجن من الوجهاء من لم يستطع الهروب إلا أن الأتراك اظهروا لينا سياسياً تجاه القادة الأكراد وأطلقوا سراح الشيخ محمود الحفيد.
ولما احتل البريطانيون كركوك للمرة الثانية في 27 تشرين الأول 1918 أرسل الشيخ محمود الحفيد رسالة أخرى إلى (ويلسن) طلب منه في الرسالة إنشاء دولة كردية تحت الانتداب البريطاني.
وطلب منه إرسال ممثل عنه إلى السليمانية فلبى (ويلسن) طلبه فعين (ميجرنوئيل) حاكماً سياسياً لمنطقة كركوك وأرسله إلى السليمانية لقد حدد (ويلسن) منطقة كركوك في وثيقة تعيين (ميجرنوئيل) بالمنطقة الممتدة من نهر ديالى إلى الحدود التركية الإيرانية في الجبهة الشمالية الشرقية أي إلى نهاية منطقة (برادوست وبارزان) وهذا يدل أن سلطات الاحتلال البريطاني اعتبرت كركوك مركزاً لمعظم كردستان الجنوبية كما ذكرنا في موضوع (ولاية شهرزور في الجزء الثاني)( ). وصل (ميجر نوئيل) إلى السليمانية في السادس عشر من تشرين الثاني وألقى خطاباً باللغة الفارسية وسط حشد كبير من شخصيات المدينة ورؤساء العشائر وجماهير المدينة في (ساحة السراى) في السابع عشر من تشرين الثاني وألقى خطاباً باللغة الفارسية وسط حشد كبير من شخصيات المدينة ورؤساء العشائر وجماهير المدينة في (ساحة السراى) في السابع عشر من تشرين نالثاني 1918.
أعلن ميجر نوئيل في خطابه عن تشكيل حكومة أو حكمدارية كردية برئاسة الشيخ محمود الحفيد (من نهر ديالى حتى الزاب الكبير وإلى الحدود التركية الإيرانية أي إلى آخر منطقة رواندز) أي حتى المثلث الحدودي الحالي ولما نزل ميجر نوئيل عن الكرسي الذي وضع لخطابه أصعد الحاضرون بأمر من الشيخ محمود على الكرسي العالم المجود التقي الأعمى (الملا محمد ده نكَ كَه وره) أستاذ الشيخ محمود تيمناً به فخطب بصوته الجهوري الذي لقب به( ) ولما نزل صعد الشيخ محمود الحفيد الكرسي وخطب وأشاد بهذه المناسبة التاريخية العظيمة.
باشر ميجر نوئيل بالتشكيلات الإدارية في السليمانية ومنطقتها وظل حاكماً سياسياً ومستشاراً للشيخ محمود الحفيد الخالد. اتخذ الشيخ محمود اللغة الكردية في اليوم الثاني عشر من حكمه اللغة الرسمية في الدوائر وانتشر نفوذه بسرعة حتى طلب أربعون من رؤساء العشائر في كردستان إيران من السلطات البريطانية ضم ذلك الجزء من كردستان أيضاً إلى حكومة الشيخ محمود الحفيد ثم حضر السليمانية في الأول من كانون الأول (ويلسن) نفسه ولكن سرعان ما ظهر أن البريطانيين غير صادقين في وعودهم. فصل (ويلسن)، (ميجر نوئيل) عن وظيفته بالسليمانية وعيّن مكانه (ميجرسون) وذلك للتقليل من نفوذ الشيخ محمود الحفيد، وكان ضابطاً متعجرفاً يكره الشيخ محمود الحفيد وتطورت الأمور بسبب سوء سياسة البريطانيين وعدم صدقهم إلى أن يعلن الشيخ محمود الحفيد الثورة عليهم في مايس 1919 فحرر مدينة السليمانية من موظفي الإنجليز وقواتهم بمساندة محمود خان دزلى كما أحرز انتصاراً ساحقاً في الجولة الأولى من المعارك خارج المدينة حيث سحقت قوات الثورة القوات البريطانية القادمة لإحتلال السليمانية وذلك في (طاسلوجه بازياني) في 25 مايس 1919 وغنمت أسلحتها وعتادها وكان من الشهداء عارف بك( ) إسماعيل عوزه يرى وعبد الله آغا بشدرى، ووصلت قوات الثوار إلى قرب (قره هنجير) على بعد 20كم من كركوك بخصوص تشكيل الشيخ محمود الحفيد الحكومة الكردية وسفر الحاكم السياسي إلى السليمانية وأعطاء الوعود للشيخ محمود بتأييده في (مؤتمر الصلح في فرساي عام 1919م) ... ثم نقض البريطانيون لوعودهم وبخصوص معركة (طاسلوجه) وخسائر الأنجليز توجد في مركز الوثائق العثمانية وثيقة تحت رقم DH.kms/50-3/25 وهي عبارة عن تقرير للفرقة الخامسة عشر بأرضروم بتاريخ 12/9/1335 رومي (1919م) أعطيت صورة منها إلى ولاية طرابزون وولاية (وان)( ) وقد صور الوثيقة في مركز الوثائق العثمانية وهناك صورتها.
أرسل البريطانيون قوات كبيرة من الموصل وغيرها لسحق الثورة الكردية للشيخ محمود الحفيد وانتصروا في معركة مضيق بازيان (ده ربه ندى بازيان) الحاسمة في 18/6/1919 وأسر الشيخ محمود الحفيد جريحاً وحكم عليه في بغداد بالإعدام ثم نفي إلى الهند( ) علماً أن الشيخ أحمد البارزاني قد أرسل قوة من البازرانيين لمساندة الشيخ محمود الحفيد كما أن الشيخ رقيب السورجي قاد قوة من السورجيين لمناصرة الشيخ محمود الحفيد ولكن قبل وصول القوتين إليه أسر الشيخ محمود الحفيد في معركة دربند بازيان فرجعت القوتان إلى بارزان وبجيل.
مما لا شك فيه أن الشيخ محمود الحفيد كان قد أرسل الرسائل إلى الكثيرين من رؤساء الأكراد لكي يتوحدوا ويتكاتفوا لتشكيل حكومة كردية ويكونوا يداً واحدة ضد الإنكليز لكي يرضخوا للمطالب الكردية هذه.
في سنة 1919 قامت حركة كردية مسلحة ضد الإنكليز في مناطق عقره وعمادية ودهوك وزاخو، وتكررت الإشارة إلى أربيل ورواندز أيضاً في عدد من الوثائق العثمانية ويحتمل أن يكون المقصود ما حدث في (حرير وباتاس) من القتال مع القوات البريطانية هناك في تشرين الثاني 1919 ففي منطقة عقره قتل الحاكم السياسي للموصل (بيل) والحاكم السياسي لعقره (كابتن سكوت) مع المترجم وتسعة وخمسين شخصاً من حمايتهما في (بيرا كبرا) في بارزان حسب البرقية الصادرة من (وان) بتاريخ 29 تشرين الثاني سنة 1335 رومى (= 29 تشرين الثاني 1919) الموجودة في الأرشيف العثماني باستنبول تحت رقم( ) (D.H.kms/50–3/25) وهناك صورتها.
بخصوص حادثة (بيرا كه برا) ذكر عبد المنعم الغلامي في (ثورتنا في شمالي العراق) ص 79 أن قتل الحاكمين السياسيين البريطانيين بيل وكابتن سكوت كان في اليوم الثاني أو الرابع من تشرين الثاني 1919 وقال قتل معهما ثلاثة أشخاص وأما الباقون فانحازوا إلى الأكراد.
بعد ذلك توجهت إلى مدينة عقرة قوات بارزان بقيادة الشيخ أحمد البارزاني وكذلك قوات الزيبار بقيادة فارس آغا وقوات السورجي بقيادة الشيخ رقيب وقاتلت القوات البريطانية فحررت مدينة عقرة واستولت على الخزينة وعلى ما في المدينة من الأسلحة والأعتدة وقد ضربت القوات البريطانية مدينة عقرة والمقاتلين بكافة الأسلحة منها الطائرات وكان كثير من سكان المدينة قد احتموا بالكهوف الموجودة فيها على ما ذكروه الكثير أيضاً من شهود العيان وقد هدمت الطائرات مجموعة من الدور( ).
لقد ذكرت المعلومات المتعلقة بهذه الحادثة وبتحرير عقره في برقية لقائد الفليق الخامس عشر للدولة العثمانية بتاريخ 3 كانون أول 1335 رومي (= 3 كانون أول 1919) وهي موجودة في مركز الوثائق العثمانية تحت رقم: D.H.kms/50 – 3/25.
وجاء في الوثيقة أيضاً أن الإنكليز يريدون تأديب سمكو آغا الشكاك وأن طائراتهم كانت تحلق على المنطقة بقرب الحدود الروسية.
أن تحرير عقره كان في (3/تشرين الثاني / 1335) = (3/11/1919) على ما جاء في البرقية المؤرخة (4/كانون أول / 1335) الموجودة أيضاً في مركز الوثائق العثمانية تحت نفس رقم البرقيتين المذكورتين علماً أنه توجد تحت الرقم المذكور (101) وثيقة وإنها مصورة كلها لكن عبد المنعم الغلامي كتب أن تحرير عقرة كان في الخامس من تشرين الثاني وذلك في كتابه (ثورتنا في شمالي العراق) ص 81.
أما في مدينة العمادية فثار سكانها بقيادة الحاج شعبان ومشاركة قوات من (الحاج رشيد بكَ برواري زورى) على البريطانيين الموجودين فيها وقتلوا في 15 أو 16 تموز 1919 الحاكم السياسي (ويلي) والذين معه في المدينة وقد جاء في وثيقة عثمانية بنفس رقم الوثيقة السابقة في مركز الوثائق العثمانية وبتأريخ 23 تموز 1919 ذكر حركة عمادية وقتل الحاكم السياسي البريطاني ويلي والاستيلاء على الأسلحة والأعتدة وكانت برقية مستعجلة من والي (وان) حيدر إلى الصدر الأعظم كما يعلم من نسخة أخرى وكان مدير مالية ناحية برواري قد أعلمه بذلك في رسالة له بتاريخ 17 تموز 1919 وكان اسمه محمد صالح، وهناك صورتها:
لقد قاد (لجمن) القائد البريطاني بنفسه قوة عسكرية من الموصل وحاصر (بامرنى) وضربها بكافة الأسلحة وذلك في 3/ آب 1919 وقبض على الشيخ بهاد الدين وأخيه الشيخ علاء الدين وسبعة آخرين وسجنهم في الموصل( ) وتمكنت القوات البريطانية من احتلال العمادية في السادس من آب 1919 وفي الثامن والتاسع من آب 1919 حدثت معركة عنيفة في (كَه لي مزوركا) قبالة مدينة العمادية في سلسلة (متينا) ما زالت لها شهرة في المنطقة إلى اليوم انتصرت فيها القوات الكردية وكان معظمها قوات الحادج رشيد بك رئيس عشيرة (بروارى زورى) وكانت أكبر معركة في المنطقة وقد خسر البريطانيون فيها الكثير( ) بخصوص هذه المعركة والهجوم على بامرنى وإلقاء القبض على الشيخ بهاء الدين توجد لدى الأستاذ عبد الرقيب يوسف وثيقة عثمانية رقمها DH.kms/50-3/25 جاء فيها أن قوات حاجي رشيد كانت ألف مقاتل وورد فيها خطأ اسم (برواري زير) أي (به روارى زيرى) بدل (به بروارى زورى) وهي عبارة عن برقية لوالي وان (حيدر) بتاريخ 11 اغسطوس 1335 الرومي، وهناك صورتها:
ما زالت لمعركة (سواره توكا) شهرة واسعة في المنطقة أيضاً وهو الآن مصيف في طريق دهوك ـ عمادية (آميدي) شاركت فيها قوات طاهر آغا هزاني من رؤساء عشيرة دوستكي وصادقي برو وسليمان قتى من رؤساء عشيرة (كَولى) في زاخو وقوات (حسو دينو) من عشيرة كَويان وذلك في (22/آب/1919)( ) وكان معظم القوات البريطانية في الحركات الكردية في مناطق رواندز وعقرة وعمادية وزاخو يتكون من الهنود المرتزقة من السيخ وكَوركَه ومن الآثوريين الذين اضطرتهم المآسي لأن يحملوا السلاح للبريطانيين ورد في وثيقة أخرى بنفس الرقم (D.H.kms/50-3/25) أنه قتل بعض البريطانيين من قبل الشيخ نوري محمد البريفكاني الذي كان يتحلى بالفكر القومي الكردي وكان من الموقعين على مذكرة بخصوص حقوق قومية كردية إلى الدولة العثمانية سنة (1908 على الأرجح) واشتهرت بمذكرة الشيخ عبد السلام البارزاني. في الوثيقة إشارة إلى الحركات الكردية من قبل أكراد زاخو ودهوك وعقره وزيبار ورواندز وكَويان ومن رؤساء كَويان الشيخ صالح، وأن الإنكليز أرسلت قوات انتقاماً لحادثة عقرة.
صدرت هذه الوثيقة (البرقية) من ديار بكر بتاريخ (12 كانون أول 1335 الرومي – 1919م) وهناك صورتها.
أما في منطقة زاخو فقد قاتل (صادق برو) رئيس عشيرة (كَولى) وسليمان قطى (قتى) وطاهر همزاني وحسودينو القوات البريطانية التي هاجمت المنطقة والتي اندحرت في المعركة وذلك في أيلول 1919، وأسقط (صادقى برو) بنفسه طائرة بريطانية وقاتل جميل آغا وعبدى آغا السندى القوات البريطانية في منطقتهما وقتل (مصطو شاهو) من رجال حسو دينو الضابط البريطاني (بيرسن) في (كانى كَويزك) بين قريتي مزكَه وكرور في سهل حرير وباتاس، قاتلت عشيرتا سوران وسورجى القوات البريطانية أيضاً.
لقد أدخل رفيق حلمي في مذكراته (ياد داشت ج2 ص 60) هذه الحركات المذكورة ضمن الثورات الكردية وقد عاصرها وكان أحد معتمدي الشيخ محمود الحفيد وكاتب ميجر نوئيل.
لو اتحدت هذه الحركات ونشبت في ربيع تلك السنة وإلتفت حول قيادة الشيخ محمود الحفيد واستمرت وشملت الثورة الكردية خانقين حتى زاخو كثورة 11 أيلول 1961 الكردية لاضطر البريطانيون إلى الخضوع لمطاليب الشعب الكردي حيث كانت الظروف العسكرية والسياسية أسهل بكثير من ظروف ثورة 11 أيلول 1961 وعندما تجددت الثورة الكردية سنة (1923) ثورة الشيخ محمود أصبحت منطقة السليمانية وحيدة في الميدان إذ كانت حدود الثورة تنحصر بصورة عامة فيما بين نهري سيروان والزاب الصغير بحيث كانت قوات العدو البريطاني كافية لأخمادها.
هذا وعندما كان الزعيم الكردي الشيخ محمود الحفيد الخالد في منفاه بهندستان قام الشعب الكردي بحركات مسلحة ضد البريطانيين فقد انعقد في قرية (زاله) في سنكَاو مؤتمر لرؤساء العشائر في قره داغ وجمجمال وجبارى وسنكاو وزه نكَنه حضرها الشيخ قادر كَولله نه بر وابنه الشيخ مصطفى وكريم بك فتاح بك رئيس الهماوند وسيد محمد الجباري وعبد الكريم آغا ورستم آغا زه نكَنه ورؤساء قبيلة روغزالي وميكائيلي من الجاف وأشرف رباتي رئيس عشيرة ربات وقرروا القيام بحركة مسلحة ضد الإنجليز وكان المؤتمر في ربيع سنة 1920 وقاموا بعمليات مسلحة وفي كفرى استولى إبراهيم خان رئيس عشيرة دلو ـ على كفرى وأسر الحاكم السياسي البريطاني (سالمون) وفي جبل سورين شرقي شهرزور حيث قاتل في نفس الوقت (الشيخ فرج بانى بنوك) القوات البريطانية. أما في رواندز فاستولى رؤساء العشائر عليها في الثلاثين من آب 1920. وأسسوا مجلساً وطنياً شاركت فيها عشيرة بشدر وقاتل غفور خان رئيس ناودشت الإنجليز ثم التحق برواندز والتحق بها أشخاص سياسيون مثل ماجد مصطفى وأحمد تقي الذي الف كتاباً في تاريخ حركة رواندز التي حررت بشدر ورانيه وكوينسجق ووصلت قوة من مقاتليها بقيادة أحمدي حمه آغا البشدري إلى قرية قمجوغه في سورداش القريبة من السليمانية تمهيداً للزحف على مدينة السليمانية فاضطر الإنجليز إلى الفرار من السليمانية والتخلي عنها في 5/9/1922 وأرسلت تركية سنة 1922 قوة صغيرة كانت أقل من مئتي جندي مع الضابط التركي (أوزدمير) إلى رواندز وانضمت إليها عشيرة بارزان وزيبار وسورجي وكذلك عشيرة آكو والتحق بها كريم بك هماوند وسيد محمد الجباري ورفعت بك رئيس عشيرة داوده في طوزخورماتو وكذلك إنضمت عشيرة خوشناو إلى الحركة حيث شارك فيها ميراني قادر بك رئيس خوشناو في شقلاوه اقتربت قوات حركة رواندز من أربيل للزحف عليها وأرسلت صالح بك خوران الخوشناوي المعروف بتأييده للشيخ محمود الحفيد إلى الكابتن (هي) الحاكم السياسي البريطاني لأربيل( ) طالباً منه باسم الحركة إعادة الشيخ محمود الحفيد من منفاه في الهند إلى كردستان كما قدمت حركة رواندز بتشجيع من السياسيين الأكراد في السليمانية إلى السلطات البريطانية عدداً من المضبطات مطالبة بإعادة للشيخ محمود الحفيد ومنح الأكراد حقوقهم على ما هو مفصل في (مذكرات أحمدى حمه ئاغاى بشده رى)( ).
وقد سجل ذكريات المعمرين من بين المشاركين في هذه الحركات المسلحة الكردية والمعاصرين لها وذلك بأصواتهم وكذلك المشاركين في ثورات الشيخ محمود الحفيد بما يقدر بمئات من الصفحات من المعلومات النادرة غير المنشورة وسوف ينشرها الدكتور عبد الرقيب يوسف ووجهة نظره حول الكتاب في أجزاء، علماً أن الدكتور كمال مظهر ألف كتاباً بعنوان (دور الشعب الكردي في ثورة العشرين) حرف فيه أهداف هذه الحركة الكردية واعتبرها من ثورة العشرين العربية الهادفة إلى تشكيل حكومة عربية في العراق في حين لم تحدث أي اتصال بينها وبين ثورة العشرين إضطر البريطانيون إلى إعادة الشيخ محمود الحفيد من الهند تحت ضغط الحركات الكردية المسلحة التي دامت من 1920 إلى حين أعادته ووصوله إلى مدينة السليمانية في (الثلاثين من أيلول 1922) وقد شكل الشيخ محمود الحفيد وزارة حكومته في 10/10/1922 في السليمانية فسرعان ما عملت سلطات الاحتلال البريطانية في العراق ضده كالسابق وظهر أنهم لم يعيدوا الزعيم الكردي من الهند من أجل منح الأكراد حقهم القومي وإنما أعادوه حسبما قاله (ادموندز) مستشار وزارة الداخلية العراقي في كتابه (كرد وترك وعرب ص 274): من أجل إخماد الحركات الكردية وإخراج القوات التركية (الصغيرة) بقيادة الضابط التركي (ازدمير) بواسطة الشيخ محمود الحفيد وأشار إلى أن مطاليب الشيخ محمود كانت تؤيد وتدعم من قبل كافة أكراد الألوية الثلاثة أي السليمانية وكركوك وأربيل وأطراف الموصل الكردية، واستغرب (ادموندز) في (ص 272) مما كان يتمتع به الشيخ محمود الحفيد من شعبية كبيرة عندما أعاده البريطانيون من الهند ووصل من بغداد إلى كفري حيث تقاطرت لاستقباله حشود الأكراد ورؤسائهم حتى رؤساء عشيرة البيات( ) وكان (ادموندز) حاضراً في كفرى الذي كان ضيفاً على السيد محسن آغا وفي 17/11/1922 أي في اليوم الثامن عشر من وصول الشيخ محمود الحفيد من المنفى إلى السليمانية كتب (ادموندز) تقريراً إلى المندوب السامي البريطاني ضد الحركة الكردية وأبدى فيه مخاوفه من كركوك تصوت إلى جانب الشيخ محمود الحفيد وطلب من المندوب السامي البريطاني تأجيل التصويت على ما ذكره بنفسه في كتابه المذكور (ص 274 – 275).
لم يكن البريطانيون في العراق يعملون ضد الحركة الكردية في كردستان الجنوبية فحسب وإنما كانوا يعملون طول بقائهم في العراق ضد الحركة الكردية في كردستان الشرقية التابعة لإيران أيضاً وكانوا قد شكلوا لهم أجهزة تجسسية على الحركة الكردية هناك كانت تشمل عدداً من رؤساء العشائر وكانوا يرسلون إليهم الأموال والمنشورات والتوجيهات.
فكانت الأطراف الثلاثة بريطانيا والعراق وإيران كما هو دأب الأعداء تتعاون وتتفق ضد الحركة الكردية في إيران كما في العراق وكان (ادموندز) عندما كان مستشاراً لوزارة الداخلية العراقية (1935 – 1945) هو المسؤول عن هذه المهمة وقد اتخذ (ادموندز) له عملاء، واستمر هذا التعاون إلى نهاية العهد الملكي في العراق وكان لدى المرحوم الشهيد شاكر فتاح معلومات مهمة بهذا الصدد وأن عبد الرقيب يوسف ينتقد بشدة (محمد أمين زكي وتوفيق وهبي) وأمثالهما أيضاً إذ لم يدونوا المعلومات المتعلقة بهذا الخصوص مفصلاً في كتاباتهم وأخفوها عن الأنظار.
في خريف عام 1922 قدم قائد الثورة الكردية في كردستان إيران (سمكو آغا الشكاك) الشكاكي إلى قرية (بحركة) القريبة من مدينة أربيل وحل ضيفاً على جميل آغا كَردى وذلك بعد هجوم القوات التركية على مقره الرئيسي بصورة مباغتة وقتلت زوجته وأسر ابنه الطفل (خسرو) وكانت القوات الإيرانية في نفس الوقت تخوض معارك مع قوات سمكو آغا الشكاك فاتصل بالبريطانيين وتفاوض معهم حيث نزلت طائرتهم عند قلعة (ديـره) شمال أربيل القريبة غرباً من جبل بيرمام (بيرمه م ـ جبل مصيف صلاح الدين) في هذه النقطة( ).
وحضر الاجتماع السيد طه الشمديني الذي كان سابقاً اليد اليمنى لسمكو آغا الشكاك ولكنه وصل أربيل قبله فلم يلب البريطانيون مطاليبه أي لم يبدوا استعداداً لتأييده وكان مجيد آغا وفتاح آغا الهركي هيئاً لسمكو آغا خيمة في قرية (سروكانى) الواقعة في سفح الجبال المذكور وفي شرقي قرية (ديره) حيث شخصت وصورت مكان خيمته واختار سمكو آغا الشكاك سروكانى هذه لكي يسند ظهره إلى الجبل حيث كان يتحذر من البريطانيين كما أن السكان هناك تحدثوا بأن الإنكليز دبروا دسيسة لقتله( ).
في الثامن من كانون الثاني وصل سمكو آغا الشكاك إلى مدينة السليمانية فسر الشيخ محمود بذلك سروراً عظيماً وكتب رسائل إلى رؤساء أكراد ليأتوا إلى السليمانية لزيارته كرسالته إلى السيد محمد الجباري طالباً فيه أيضاً إبلاغ رفعت بك رئيس عشيرة داوده في منطقة طوز وكانت الرسالة بتاريخ 9 كانون الثاني 1339 هـ = 9/1/1923م.
لقد استقبل سمكو آغا استقبالاً جماهيرياً حاشداً في السليمانية وتقاطر رجال العشائر مع رؤسائهم لزيارته ومكث في السليمانية إلى أن قصفت الطائرات البريطانية المدينة وخاصة دار عزت بك جاف التي كانت أحدى مقرات الشيخ محمود الحفيد وقتل على بابها واحد من رجال سمكو آغا بالقصف. شارك سمكو آغا الشكاك في مؤتمر سري بالسليمانية حضره ستة وعشرون من الرؤساء الأكراد بضمنهم فارس آغا وسليمان بك رئيسا عشيرة بيات وبضمنهم سمكو آغا وحامى (حامو) بك جاف رئيس عشيرة الجاف وجعفر سلطان رئيس هورامان ووقعوا على مضبطة لمنح الشيخ محمود الحفيد صفة شرعية للتفاوض مع الترك باسم (رئيس جمعية كردستان) أو رئيس (الهيئة الممثلة لكردستان الجنوبية)( ). إن لجوء الشيخ محمود الحفيد وكذلك سمكو آغا الذي خرج نتيجة الضربة التركية أو نتيجة تعاون الدولتين الإيرانية والتركية معاً للقضاء عليه إلى ترك التفاوض معهم على منح الأكراد حقوقاً قومية إنما كان لليأس من البريطانيين. وإن ما جاء في وثيقة عثمانية من التعبير عن سياسة البريطانيين الكاذبة إزاء الكرد كان صحيحاً ولو أن الترك لم يكونوا بأحسن منهم فقد جاء في الوثيقة: أن الإنكليز يحاولون بسط نفوذهم على شمدينان و (أوره مار) (من هكارى) وعلى كويان (من بوتان) وإنهم إذا علموا أنهم لا يستطيعون بسط نفوذهم على منطقة ما يحترمون حتى العوام من الأكراد ويحاولون الحصول على ماسندة مشايخ بارزان والشيخ محمود الحفيد وأحمد فائق بدرخان ويقولون إننا نعمل من أجل الأكراد وعندما قضوا حاجتهم لا يحترمون مشايخ ورؤساء الأكراد ويتعاملون معهم بخشونة وإهانة وقد أرسلوا رسالة إلى رئيس عشيرة أوره مار (وكان سيتو أو ره مارى) الذي حضر إلى (وان) كتبوا فيها أنهم يرسلون إليهم شخصاً عليهم أن يحموه ويكتموا اسمه وعندما يتبين لهم فيما بعد من هو فأنهم يصبحون ممتنين وإنه هو أحمد فائق بدرخان وورد في الوثيقة أيضاً: يظهر أن الإنكليز يجذبون البدرخانيين للاستفادة منهم. أن هذه الوثيقة عبارة عن برقية لوالي ولاية وأن (حيدر) بتاريخ 6 مايس 1335 رومي (= 6 مايس 1919) وهي في مركز الوثائق العثمانية تحت رقم D. H. kms 50-3/25 وهناك صورتها:
لما تيقن الشيخ محمود الحفيد بحقيقة سياسة البريطانيين التي تقضي بعدم تلبية رغبات الشعب الكردي وأن كافة وعودهم كانت لخداع الكرد على ما قاله الشيخ محمود نفسه وأن سياستهم كانت تهدف إلى إلحاق كردستان الجنوبية بالعراق، قاد ثورة كردية ضدهم في أوائل آذار 1923 واتخذ من كهف قمجوغه الذي يسمى حتى الآن (ئه شكه وتى مه ليك) مركزاً لقيادته مدة ثم نقل مركز القيادة إلى كهف (جاسنه).
وخاض معارك ضارية ضد القوات البريطانية ثم عاد إلى مدينة السليمانية في السادس والعشرين من شهر حزيران 1923 بعد إنسحاب البريطانيين منها في السادس عشر من حزيران 1923م وكما أن هذا الانسحاب بناءً على ضغط دولي حيث كان الشيخ محمود قد أرسل مضبطة ضد الإنكليز إلى سفارات الدول التالية في طهران: أمريكا وتركيا وروسيا وإيطاليا وفرنسا وانكلترا وذلك بتاريخ (11 مايس 1923) وتوجد المضبطة في (جيم دى) ج 2 ص 34 – 36 لأحمد خواجه الذي أخذ المضبطة إلى مدينة (سنة) وأرسلها الشيخ عارف الشيخ شكر الله السنوي بالتلغراف إلى طهران وكان الشيخ محمود الحفيد قد أرسل مذكرة إلى قنصليات عدد من الدول في تبريز أيضاً على ما يوجد نصها أو قسم منها في أطروحة دكتوراه المناضل المرحوم الدكتور عزيز الشمزيني كما ارسل مذكرة أخرى إلى القنصل السوفيتي بتبريز بتاريخ العشرين من كانون الثاني 1923 التي يوجد نصهُ في الأطروحة المذكورة أيضاً ولما عاد الشيخ محمود الحفيد إلى السليمانية شكل حكومته الثانية التي دامت إلى السادس عشر من شهر تموز 1924 أي إلى أن غادر الشيخ محمود الحفيد السليمانية وسيطرت القوات البريطانية مرة أخرى عليها ودامت الثورة الكردية إلى أيار سنة 1931، وأضطر قائد الثورة الشيخ محمود الحفيد تحت ضغط الإنكليز والحكومة العراقية وإيران إلى الاستسلام فنفي إلى الناصرية ثم إلى المنفى في الرمادي وحي الصليخ في بغداد( ) إلى سنة 1941 حركة رشيد عالي الكيلاني حيث فر به أصحابه المقربون إلى قرية (سيتك) شمال السليمانية.
أخيراً إن المسؤولين البريطانيين في العراق وفي مقدمتهم المندوب السامي البريطاني برسي كوكس وويلسن وأدموندز ومس بيل أجرموا بحق الشعب الكردي وتركوه للمجازر الوحشية التي ارتكبتها الحكومة العراقية بحقه إلى أن وصل الحد إلى ضرب الشعب الكردي بالأسلحة الكيميائية في 6 آذار 1988 في حلبجة وغيرها ما لم يحصل في أي بلد آخر في العالم وإلي تخريب أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة قرية ومدينة كردية وإلى اعتقال أكثر من (182) ألفاً بصورة جماعية من المواطنين الأكراد من رجال ونساء وأطفال الذي سماها نظام البعث وصدام حسين بعمليات (الأنفال) السيئة الصيت وقتل هذا العدد الهائل ودفن قسم كبير منهم أحياءاً في القبور الجماعية ما تقشعر منه الأبدان( ). وإن القسط الأكبر من آثام هذه الجرائم البشعة تقع على أوائل المسؤولين البريطانيين ومع أن أمريكا حررت العراق مع الدول المتحالفة معها وفي مقدمتها بريطانيا إلا أنها لم تحقق للشعب الكردي إلى الآن حقه القومي المشروع ولم ترفع عنه الحيف الذي أصابه منذ أكثر من تسعين سنة ولم تحقق للشعب الكردي العيش في العراق في نظاماً فدرالياً كاملاً سليماً فما زالت مناطق عديدة من كردستان وخاصة كركوك والمناطق المتنازع عليها خارجة عن فدرالية كردستان التي اعترفت بها بصورة أولية فلم تحل أمريكا قضية الشعب الكردي كما أن رأي الأنظمة العربية ما عدا دولة أو دولتين ضد هذه الفدرالية الناقصة أيضاً.
4108 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع