إصدار جديد -علي بن أبي طالب الحاكم الديني للدولة المدنية
صالح الطائي
عجزت الحضارات القديمة والحديثة عن بناء الدولة المدنية خارج نمطها التقليدي المعهود، بعد أن عجزت عن احتواء مشروعها الرائع بصيغته النظرية، وإذا ما كانت الحضارات القديمة معذورة لأنها لم تستوفي عناصر البناء، لا أعتقد أن هناك من يقبل العذر من الحضارة المعاصرة، فهي بالرغم مما وفره لها العلم من آليات، تبدو أكثر عجزا عن أمس، وأكثر بعدا عن حقيقة الدولة المدنية، فالإنسان الذي هو رأس مال الدولة المدنية لا زال في حضارتنا المعاصرة مجرد سلعة كمالية مثل جميع السلع الأخرى، لها سعرها وقيمتها ومعدل طلب عليها؛ لا حسب اختلاف البلدان جغرافيا وسياسيا واقتصاديا فقط، وإنما حتى داخل البلد الواحد والمدينة الواحدة!
وبذا يبدو الحديث عن فكرة أو مشروع بناء دولة مدنية في الأيام الأولى لبدء التاريخ الهجري، ثم تتكرر التجربة في أواخر العقد الهجري الثالث، وتحديدا في زمن خلافة علي بن أبي طالب(عليه السلام)، يبدو مجرد سفسطة فارغة لا معنى لها، ولاسيما وأن هذا الدستور سرعان ما انهار، وسرعان ما تحولت علاقة السلم المقترح بين المكونات إلى نزاعات حربية دموية، انتهت بجلاء اليهود عن جزيرة العرب، وخسران الدولة لأحد مقوماتها.
بمعنى أن التجربة الأولى، فشلت ولم تنجح في التماهي مع مشروع دولة الإنسان! كما أن عليا (عليه السلام)؛ صاحب التجربة الثانية، لم يحظى بوقت للراحة والتفكير بعد أن شغلوه بالرد على الحروب الكبرى الثلاثة التي كتب عليه خوضها، لتأخذ جل وقته، وتغطي كامل مدة حكمه تقريبا وتعرقل مشروعه بالكامل، فضلا عن أن الدولة المدنية المقترحة لم تر النور، لا في التجربة الأولى، ولا في التجربة الثانية، ولم تترك أثرا بعدها، يستدل بواسطته عليها، ولم يفكر أحد بإعادة تجربة البحث عنها وإحيائها؛ خلال الأربعة عشر قرنا المنصرمة من عمر الإسلام!
هكذا يبدو الموقف من خلال الصورة المتخيلة، وهو موقف يبدو طبيعيا ومتساوقا مع ما حصل بالفعل على أرض الواقع، لكن هل ينكر أحد ما أن ملامح الدولة المدنية تبدو ظاهرة بشكل جلي في بنود دستور المدينة المنورة، الذي اقترحه النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم)، أي العهد الذي كتبه النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) مع أهل الكتاب والمشركين وغيرهم ممن كانوا في يثرب حينما دخلها؟
إن ملامح الدولة المدنية تبدو واضحة من خلال فقرات الدستور النبوي؛ الذي أكد على وجود المكونات المختلفة، بما أطلق عليه اسم (أمة) مثل: "وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم" وتبدو أوضح من خلال تأكيد المشروع على الرابطة التي تربط كل مكون(أمة) بالمكونات الأخرى، فالأمة وفق هذا المنطق لا يراد منها الرمز إلى توحد في الانتماء الديني مثلا، بل يراد منها الرمز إلى التوحد في المشروع السياسي، مكانيا وكيانيا، وهذا ما تهدف إليه الدولة المدنية تحديدا. إذ جاء عن أنصار الدولة المدنية المعاصرة قولهم: "فالدولة المدنية تعرف على أنها اتحاد من أفراد يعيشون في مجتمع يخضع لنظام من القوانين مع وجود قضاء يطبق هذه القوانين بإرساء مبادئ العدل، فمن الشروط الأساسية لقيام الدولة المدنية أن لا يخضع أي فرد فيها لانتهاك حقوقه من قبل فرد آخر أو طرف آخر، فثمة دائما سلطة عليا هي سلطة الدولة يلجأ إليها الأفراد عندما تنتهك حقوقهم أو تهدد بالانتهاك"
نعم قد لا يكفي أن يكون هناك نجاح في تطبيق بعض مباني الدولة المدنية لإطلاق اسمها حرفيا على ما حدث في صدر الإسلام، لكن من المستحيل بل من المجحف أن لا يتم الاعتراف بمباني الدولة المدنية حينما نجد عهدا آخر يكتبه علي بن أبي طالب(عليه السلام) إلى واليه مالك الأشتر(رضوان الله عليه) ينضوي على جميع مباني الدولة المدنية المعاصرة حرفيا!
قتل مالك الأشتر قبل أن يصل مصر للعمل بالعهد، وانشغل علي (عليه السلام) في تلك الحروب العبثية التي أثاروها لعرقلة مشروعه الإصلاحي، وقتل صاحب المشروع غيلة، وتحول نظام الحكم إلى ملكية كسروية قيصرية، ليتحول الإسلام بعد مرور (40) عاما فقط إلى دين دولة لا دين أمة، ويتحول نظام الحكم إلى دكتاتورية وراثية عشائرية، لا ديمقراطية وتداول سلمي للسلطة، فضاعت كل تلك المشاريع العظيمة، لكننا لا نعدم وسيلة التمكن من رؤيتها في عقول الرجال العظماء الذي خططوا لها! وهي إن فشلت عمليا في ترسيخ وجودها فإنها أثبتت نظريا أن مشروع دولة الإنسان كان قائما وسائرا نحو التطبيق.
هذا ما أردت التحدث عنه في كتابي الجديد الموسوم "علي بن أبي طالب الحاكم الديني للدولة المدنية" الصادر عن منشورات دار الفكر اللبنانية؛ والذي تناولت فيه
تفكيك الرؤية الإسلامية للعلاقة بين المواطن والدولة والسلطة والمواطنين الآخرين؛ من خلال الثقافة العلوية للدولة المدنية وبمنظور جديد. فالدولة الوطنية الدستورية القائمة على التعددية الحزبية والسياسية وتنوع التيارات الفكرية والثقافية لم تكن غائبة عن المشروع العلوي؛ الذي نجد فيه مفاهيم غاية في الرقي، تتزاحم لكي تحول الإنسان من رقم مهمل إلى كائن سام مملوء بالكرامة والسعادة والسلام، ولكن السياسة العربية التي عرقلت المشروع الإسلامي برمته، هي التي عرقلت نمو هذه الدولة المدنية العلوية، وعرقلت تحولها إلى أنموذج رائع للدولة اليوتيبية التي يحلم بها الإنسان على مر التاريخ.
يقع الكتاب في (132) صفحة حجم النصف، وهو الكتاب الأول من سلسلة كتب تبحث في بعض المشاريع المشتركة بين الدين والعلمانية.
1760 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع