قراءة في كتاب جمجمة بابل
صدر أخيراً كتاب للدكتور سعد العبيدي، بعنوان جمجمة بابل عن دار الورشة، شدني اليه ذاك الأسلوب الذي كتب فيه الكتاب، لأحداث قرية تمتد في أعماق التاريخ آلاف السنين، تجاور مدينة بابل، صورها الكاتب كأن لها حصة في بابل المدينة والتاريخ، أو هي جزء من ذاك التاريخ، تغفو ببساتينها من النخيل على نهر الحلة الذي يصارع الزمن من أجل البقاء، غابت تلك البساتين بعد الاحتلال تجاوزاً على إرث الأجداد، تحولت الى بيوت شبهها بعلب الساردين، تشبيها لا يخلو من ألم الفقدان لكاتب عاش جل طفولته وسطها وبعض من سني الشباب.
تضمن الكتاب أربعون عنواناً لأكثر من أربعين حكاية هي سيرة القرية وأهلها، أولئك الأجداد، الذي عد المؤلف جهده وفاء لهم وسبيلاً لإبقاء ذكراهم خالدة في عقول الأبناء، عززها بصور لهم شهود ساهموا في رسم شكل القرية وتاريخها الحديث، وتضمن حوادث حصلت في مدينة الحلة كانت القرية طرفاً فيها من أيام حكم العثمانيين ومن بعدهم الانجليز والعهود الجديدة الى ما بعد الاحتلال. وفكرة صاغها المؤلف بعناية فيها قال:
كانت بدايةً سعيدةً في قرية، حياتها تبدو صراعاً بين الريف والمدينة، قديمها يسعى لمسايرة المدينة، وحديثها ينوي التَّمرُّد على أصلها قرية. نهرها وطوق بساتين وتلال تغطي حضارة؛ أبقتها قرية صامدة، تُعارِك الزمن، تتدافع مع أهلٍ لها ينظرون لها مدينة، بوضعٍ صارت طوال حلوله طاردة جاذبة، يوم يَكبرُ أبناؤها في سُلَّم الوظيفة والسياسة، يتبعثرون خارج أسوارها، يأملون العودة إليها ليتذكَّروا الطفولة. طفولةٌ، لم يكن الواحد منهم إبانها وحيداً في انتظار عام جديد كي يلبس ثوباً جديداً يغطي عورته، ولم يكن الوحيد قد فاته العشاء، يوم يعود من سمر الليل لينام جائعاً أو يسدّ رمقه بفردة تمر زهدي، ولم يكن الليل مثل هذا الليل يوم كان سيده ظلاماً تملأه الخيالات الناقصة عن الجان.
كانوا جميعاً متساوين عند خط البداية، يأكلون من ناتج زرعهم، يهيئون مستلزمات حرّ القيظ بالطريقة ذاتها، مروحة خوص (مهفَّة) يصنعونها محلياً، وعماريَّة عاقول من جريد نخيل ميسور بكثرة. وبنات لهن في حياتها حصة ماءٍ يجلبنه من النهر يومياً، تشدُّ الواحدة خصرها بالعباءة محزماً، تضع على الكتف مشربية (البگمة) تعود بها من النهر واثقة في مشيتها تهزُّ الأرض هزَّاً. صحون على ستارة السطح تجاورها جرار فخار. سلالٌ حِيكَتْ من أغصان الصفصاف تغطي ما تبقى من العشاء واللبن الرائب، تحاك عنها حكايات. ضوء القمر في الأرجاء ساحر يبدّد عتمة ليل تخرقها الجَدّة عمداً لإخافة أحفادها بحكايات عن السِعلاة. الأبناء جميع الأبناء راضون عن عيش البساطة، متساوون في درجات الرضا، حتى صار الشقّ في خاصرة الثوب وظهور العورة مألوفاً لا يثير التَّحسُّس، وصارت القرية صورة علقتْ في الذاكرة، لها صوتٌ، ورائحةٌ مميّزة، كوّنت لها سلسلة من الحكايات. الحكايات خزينٌ قديمٌ لشكل القرية القديم، أخذت الراوي سعيد الذي وضعه الكاتب بديلاً لشخصه في سرد الأحداث والحكايات صوب العودة لرسم الصورة مكتوبة، منذ وعى أصحابها تثبيت وقع حياتهم وأنماط عيشهم وعلاقاتهم على هيئة صور تُحكَى عن أبناءٍ لها وطقوس تُؤدَى، تناقلتها الأجيال جيلاً بعد آخر. عن بساتين كانت شاهدةً على وقع الحياة، وتلالٍ تغطي أتربتها جماجم وعظام صارت شاهداً لعظمة الأجداد. عن سور، انتصبت فوق أساساته بيوت دون انتظام، وباب له مقوَّس يُشبِه قبل اختفائه أبواباً بابلية. عن حبِّ فتاة قروية كانت سبباً لتغيير مجرى الحياة والهجرة الأبدية. كلّ شيء في هذه القرية عبر قرن من الزمان قد تغيّر، الا ذكريات الراوي سعيد بقيت صوراً شبه ثابتة لم تتغيّر، وفي موقف استثارة صارت فيه الصور تتداعى، تظهر على السطح الناعم للذاكرة على شكل حكايات، وأشخاص كأنَّهم يتمنون رسمها مكتوبةً كما كانت عبر أزمنتهم، بلا تشويه أو تحريف. حكاياتٌ صمدتْ في عقل سعيد على الرغم من الطيات التي تكونت فيه بحكم الزمن، صارت كأنّها سلسلة ممتدة، تربط بين ماضي القرية وبين حاضرها، أضحت من طول فراق وكأنّها تتقطّع، وكأنّ العقل يريد العودة إليها، لرتق تلك القطوع، من أيام الطفولة وبعض من سني الشباب التي احتكرتها القرية، إلى سني الاستقرار القسري التي فازت بها لندن، وما تبقّى من عمر لا تُراد له نهايةٌ تكتنفها القطوع.
لقد ظلّتْ قصَّة هذه السلسلة ضجيجاً متواصلاً في العقل الباطن من التقطيع والرتق، دفع سعيد لا شعورياً إلى هذا التداعي المتواصل للذكريات في مسعىً لتسجيل صورة الماضي البعيد وبعض من الحاضر. التاريخ والأحداث كما كانت تتداول على ألسنة الأجداد والآباء والشهود الباقين على قيد الحياة وذكريات من فارقوا الحياة في هذه القرية التي يرجع البعض أصلها إلى جمجمة بابلية، عاشت ماضياً وكأنَّ تاريخها يريد أن يختفي داخل ثقب إبرة، أو يتوارى خلف تلّ أثري من تلال بابل التي جاورتها منذ النشأة الأولى إلى هذا اليوم. حكايات وبعض عادات وكلمات دارجة تعود إلى البابليين الأجداد، شكّلت دافعاً إلى استدعاء الذكريات القديمة والقريبة عنها، قرية لها حصّة في صناعة أحداث وأجيال، بغية وضعها على الورق قبل أن تختفي من عقول كبارها الراغبين في المحافظة على صورتها الأصلية قبل الاختفاء.
لقد ختم الدكتور سعد كتابه هذا بقصة فيها من الرومانسية لم نعهدها في كتاباته الجادة، الأمر الذي يمكننا من تقديم كتابه هذا كتاباً يمزج بين الرواية والسيرة والسرد التاريخي أبدع في تقديمه بأسلوب سلس مشوق يستحق القراءة بإمعان.
فؤاد حسين علي
1458 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع