الحلقة4 - الاحتلال البريطاني للعراق 1917-1921 من كتاب: تاريخ يهود العراق المعاصرد. نسيم قزاز
نستمر بنشر فصول من كتاب تاريخ يهود العراق المعاصر للباحث الإسرائيلي المعروف د. نسيم قزاز والذي أصدرته رابطة الجامعيين المنحدرين من العراق في إسرائيل في 2020.
الفصل الرابع يتطرق الى فترة الاحتلال البريطاني للعراق والى أحوال اليهود في تلك الفترة والمعضلة التي جابهتم في السنين الأولى- من الانصياع للسلطة البريطانية المحتلة او الوقوف مع المسلمين العرب المطالبين بالاستقلال وقيام دولة عربية.
كان هناك تياران يتصارعان في تحديد السياسة البريطانية حول مصير شعوب البلدان التي "حررت" من الحكم العثماني. تيار القاهرة الذي يؤيد قيام دولة عربية وتيار الهند الذي يعارض القومية العربية وتطلعاتها. في بداية الاحتلال اتبعت السلطات البريطانية سياسة فرق تسد لزرع إسفين بين الأقليات والأكثرية المسلمة.
بشفافية كاملة يصف د. قزاز كيف تحول موقف اليهود العراقيين من داعم للاحتلال البريطاني وحتى مطالبتهم بالجنسية البريطانية الى ادراكهم للأمر الواقع من ان الاحتلال سينتهي وان عليهم تأييد الأكثرية الإسلامية المتطلعة للاستقلال والتي سيستمرون في العيش معها. وبعد ان حسم الامر في 1921 في صالح إعطاء العراق حكم ذاتي وتأسيس الدولة العراقية (تحت الانتداب البريطاني) قرر وجهاء اليهود أن يعملوا جهدهم، لصالح عراق مستقل ومزدهر ولصالح "الوطنية العراقية".
الفصل الرابع - الاحتلال البريطاني 1917-1921
احتل الجيش البريطاني البصرة عام 1914 ووصل بغداد واحتلها عام 1917 ثم واصل زحفه إلى شمال العراق واحتله عام 1918.
تنفس يهود بغداد الصعداء بدخول الجيش البريطاني بعد أن ذاقوا الأمرين إبان الحرب العالمية الأولى. فإضافة إلى التنكيل والتشنيع بهم من قبل السلطات أصاب تجارتهم كساد بالغٌ بسبب انقطاع طرق الاستيراد وارتفاع الأسعار. فلا غرو أن يرحبوا بدخول الإنكليز، وأعلنوا يوم دخولهم الموافق 15 من شهر آذار/مارس حسب التقويم العبري (ט"ו באדר) يوم معجزة وعيد ݒوريم ثاني (יום נס וחג פורים שני).
تمتع اليهود إبان سني الاحتلال (1917-1921) بمساواة في الحقوق وبالحرية التامة وبشعور الأمن والاطمئنان. وساد الشعور لدى الكثيرين منهم وكأنهم مواطنون بريطانيون أو أنهم يعيشون في بقعة بريطانية. واغتنى كثير منهم وشغل آخرون وظائف في الإدارة البريطانية، خاصة في البصرة وبغداد، وتوخى يهود بغداد رغد العيش والانتعاش الاقتصادي أسوة بيهود البصرة الذين سبقوهم بثلاث سنوات تحت الاحتلال، فحبذوا دوام الاحتلال وأعربوا عن ذلك جِهاراً ولم يخطر ببال أحدٍ منهم أنَّ بريطانيا سوف تتخلى ذات يومٍ عن العراق وتقيم دولة عربية.
ويقول حسقيل الكبير، الذي عاصر الأحداث في بغداد آنذاك، إن وجهة نظر أبناء الطائفة اليهودية في العراق نحو الاحتلال البريطاني انقسمت إلى فئتين: فئة كبار السن ما فوق 45 عاماً، كانوا أقل ضوضاءً وفعاليةً وأطلقوا على الحكام الأتراك والعرب تسمية "ملوك العدالة" -:
"لقد عشنا أجيالاً كثيرة تحت هؤلاء الحكام، ولم يتدخلوا في شؤوننا الدينية ولم ينالوا من تراثنا وتقاليدنا. تاجرنا طوال 2500 سنة هنا دون تشويش أو إعاقة. وتبديل الحكم قد يؤدي إلى تدمير أحوالنا الجيِّدة ".
أما الفئة الثانية فغالبيتها كانت من شباب متطرف، ضوضائي لم ينضج بعد، انجرف بسيل من الحماس والتفاؤل وأوهام منقطعة النظير. ويشهد حسقيل الكبير على نفسه أنه كان من المنتمين لهذه الفئة، ويقول -:
"كانت رؤيتنا بسيطة، لقد ضقنا ذرعاً من الأسلوب الحالي المرتكز على الرشوة والفساد. إن العدالة البريطانية قد ذاعت شهرتها في جميع العالم ولا شك لدينا أننا سنظفر بمعاملة حسنة، والبلاد بحاجة ماسة إلى الإصلاح والتطوّر وإلى معالجة الإهمال الذي دام أجيالاً كثيرة. فمن غير المعقول أن يُبقي الإنكليز البلاد في خراِبها، لأن تطويرها يلائم مصالحهم، إضافة لذلك: إن البريطانيين يريدون المتاجرة ونحن نقول لهم، وفروا لنا الأمن ونحن نتاجر معكم وفق ما ترغبون".
كانت حماسة اليهود على النقيض تماماً من ردِّ فعل العرب الذين تقبلوا الاحتلال البريطاني بواقع ممزوج بالحزن والألم الذي حتَّم عليهم العيش تحت سلطة نصرانية من عنصر غريب، كفارٌ دحروا عساكر سلطان المسلمين واحتلّوا أرضاً إسلامية. وأبدى إبراهيم الكبير أسفه لموقف اليهود وفرحتهم من الاحتلال قائلاً -:
"إنهم بتصرفهم هذا يتجاهلون المعاملة الحسنة التي عاملهم بها العثمانيون على مر العقود منذ تشردهم من إسبانيا في القرن الخامس عشر الميلادي. إن الأتراك عاملوا اليهود دائماً بالتسامح ويمكن القول بودٍّ أيضاً". ووجَّه النقد للقائم بأعمال الحاخام باشي الذي أعلن يوم دخول البريطانيين إلى بغداد كيوم معجزة وعيد ݒوريم ثاني.
لم يكتف اليهود بإعلان فرحتهم للاحتلال، وقام بعضهم بأعمال تمس شعور الأغلبية المسلمة. حدث ذلك في الأيام الأولى التي تلت الاحتلال عندما وضعت السلطات البريطانية حراسة حول مساجد المسلمين، الأمر الذي يعتبره المسلمون انتهاكاً لحرمة مقدساتهم، وقته تجرّأ بعض اليهود المتهوّرين على التحرش واستفزاز المسلمين بمناداتهم: "يا هذا إن جوني نصراني يحرس مسجدك". ولكن سرعان ما اختفى هذا الطيش والرعونة عندما اتضح لليهود أنهم أمام واقع صعب يتطلب منهم، في آن واحد، إرضاء كلٍ من البريطانيين حكام البلاد والمسلمين سكان البلاد. فمن جهة كان واضحاً أن المسلمين باقون في البلاد إلى الأبد وينبغي تجنب إثارة حفيظتهم، ومن الجهة الأُخرى يجب إرضاء البريطانيين لحسن معاملتهم. وأدت النظرة المختلفة، وبالأحرى المتناقضة، بين اليهود والعرب، للاحتلال البريطاني إلى تردّي العلاقات اليهودية - العربية، وإلى أول شرخ بينهم الذي توسع فيما بَعد إثرَ بزوغ القومية العربية وتفاقم القضية الفلسطينية.
أدت السياسة التي اتبعتها السلطات البريطانية في العراق منذ احتلال بغداد في 11 أذار/مارس 1917 إلى ترسيخ إيمان اليهود باستقرار الحكم البريطاني واستمراره في البلاد. فقد كان الجنرال ستانلي مود (Sir Stanly Maude) قائد القوات البريطانية معارضاً للقومية العربية واستنكر البيان الذي نُشر، باسمه وبدون علمه، في التاسع عشر من شهر آذار/مارس 1917 - بعد أسبوع من دخوله بغداد -. ومما جاء في هذا البيان: إن الشعب البريطاني والشعوب المتحالفة معه يتوقعون يقظة الأمة العربية. اعتبر مود هذا البيان غير لائق ومُضِّراً، وأضاف أنه يخلق بلبلة عند العرب بكل ما يتعلق بنوايا وأهداف بريطانيا العظمى ويحدث لديهم طموحات لا مبرر لها وأمالاً باطلةً، وأن على الجيش البريطاني الاحتفاظ بالسلطة والسيادة بالكامل في المناطق المحتلة. وهو ما يطابق تماماً وجهة نظر حكومة الهند ووجهة نظر الضباط في ميوزوݒوتاميا الموالين للنزعة الإنكليزية - الهندية الذين كانوا على النقيض من زملائهم في النزعة الإنكليزية - المصرية الذين استمالوا العرب إلى جانبهم وحرضوهم على إعلان الثورة العربية الكبرى التي اندلعت في الحجاز عام 1916. لم يتخذ المحتلون في العراق إجراءات غير مألوفة ولم يبذلوا جهوداً لنيل أصدقاء من العرب في العراق، واعتبروهم عديمي المنفعة ومن غير المؤتمن بهم. وليس من باب الصدفة أن قوات الاحتلال الآتية من الهند لم تبذل سوى جهود طفيفة ومحدودة لحث عرب العراق على حمل السلاح ضد الأتراك. ولم يكن من باب الصدفة أيضاً مَنْع السيد طالب باشا النقيب من العودة إلى البلاد لأنه كان طموحاً في إقامة كيان عربي مستقل في العراق.
نُقل الضباط العراقيون، الذين خدموا في صفوف الجيش العثماني إبان الحرب العالمية الأولى والذين وقعوا أسرى بيد الجيش البريطاني، إلى معسكرات للأسرى في الهند ومصر، ومن هناك تم نقل بعضهم إلى الحجاز، بعد إقناعهم وتهيئهم للانضواء تحت راية الشريف حسين بن علي مع ضباط آخرين. وفي الحجاز - ليس في العراق - تعرّفوا عام 1916 على القومية العربية، وكان ذلك قبل أربعة أعوام من عودتهم إلى العراق عام 1920 بعد أن طُرد فيصل من سوريا.
لم يُسمع في العراق صدىً للقومية العربية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، لذا لم تبدِ السلطات البريطانية اهتماماً وتعاطفاً معها ولم يحظ إلا القليل من ضباطها وموظفيها بالتعرف عليها وعلى مدى حجمها وقوتها في الجانب المقابل من الصحراء. وطالب الضباط ورجال الإدارة المدنية البريطانيين في العراق بإقامة سلطة هندية - بريطانية. على النقيض من زملائهم في مصر، قرروا مكافحة القومية العربية والنزعة الشريفية في العراق، وظن بعضهم أنه من الممكن الاستعانة بالطائفة اليهودية بهذا الشأن التي، حسب تقديرهم، ذات أهمية خاصة ووزن كبير.
وفي تقرير حول "مستقبل ميوزوݒوتاميا" بتاريخ 9 تموز/يوليو 1918، يمضي ݒرسي كوكس (Percy Cox) الحاكم السياسي في العراق في نسج خيوط أفكار ضباطه الأنكلو - هندية ويعلن عن نيته في تشجيع ثلاثة عناصر من سكان العراق من أجل إنجاح السياسة البريطانية فيه. ودرَّج هذه العناصر، حسب الأولوية: 1) الطائفة اليهودية في بغداد، 2) وجهاء بغداد ذوو الحسب والنسب، 3) أثرياء عرب ويهود وشيوخ عشائر من الذين استقروا وسكنوا المدن. وعن الطائفة اليهودية جاء في المذكرة -:
"علينا قبل كل شيء أن نشجع الطائفة اليهودية في بغداد، وفي هذا الشأن أرجو مراجعة الدكتور وايزمن ليقوم بزيارة هنا إن أمكن أو إرسال ممثل عنه ذي صلاحية إلى بغداد بغية التأثير على الطائفة اليهودية للعمل من أجل المصالح البريطانية ".
وبعد عشرة أشهر، في حزيران/يونيو 1919، جاء في تقرير لشرطة بغداد -:
"كان الشعور لدى الطائفة اليهودية قبل عدة أشهر مشجِعاً جداً. والآن، بتقديري، يمكن تعريفه كموالٍ لبريطانيا. وإني معتقد، على الدوام، أن المساعدة الحثيثة من قبل الطائفة اليهودية الغنية تحمل في طياتها طاقات ذات أهمية سياسية بالغة. وأنا أعمل جهدي كي أُبرهن لهم أن ثمار حكمنا في البلاد ستكون لذيذة الطعم وستعود إليهم بالمنفعة أكثر من أيةِ شريحة أُخرى من السكان.
كانت الصدمة الأولى للأوهام والاعتقادات الخاطئة المؤمنة باستمرارية الحكم البريطاني وعدم إقامة سلطة عربية محلية في العراق في 8 تشرين الثاني/نوفمبر من عام 1918، وذلك عندما نُشر في بغداد التصريح الأنكلو - فرنسي الذي جاء فيه:
"...إن بريطانيا العظمى وفرنسا تسعيان إلى تحرير الشعوب، التي رضخت منذ أمد طويل تحت استبداد السلطة العثمانية، تحريراً كاملاً وإلى تشكيل حكومات وإدارات قومية تستمد قوتها من رغبة السكان... ".
استُوحي هذا التصريح من المبادئ 14 التي أعلنها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون - Woodraw Wilson (1856-1924) والتي جاءت مطابقة تماماً لما قاله الموالون للنزعة الشريفية من أصحاب العقد والحل البريطانيين وعلى النقيض تماماً من وجهة نظر زملائهم في العراق.
صدرت هذه المبادئ في 8 كانون الثاني/يناير من عام 1918، ولم تسمح السلطات البريطانية بنشرها في الصحف العراقية إلا بعد عشرة أشهر - في 11 تشرين الأول/ أكتوبر. وأثار البند الثاني عشر من تلك المبادئ غيظ السلطات البريطانية في العراق، لأنه ينادي بتوفير فرص غير قابلة للتأويل، لتنمية حكم ذاتي وطني لدى سكان المناطق التي انسلخت إبان الحرب العالمية الأولى من الإمبراطورية العثمانية.
نفى أرنولد ويلسون (Arnold Wilson) الحاكم البريطاني في العراق هذه المبادئ بشدة قائلاً إن السكان العرب راضون عن الاحتلال البريطاني وإن العناصر الغير مسلمة تتكل عليه وإن للبريطانيين الحق الكامل لإقامة حماية ناجعة.
رأى أبناء الطائفة اليهودية بالتصريح الأنكلو - فرنسي إنذاراً خطيراً، وعقد وجهاء الطائفة على أثره اجتماعاً في الكنيس الكبير في بغداد، بحثوا فيه إمكانية تقديم طلب إلى سلطة الاحتلال لمنح الهوية البريطانية لجميع يهود العراق واعتبارهم رعايا بريطانيين، فيما لو تِم تشكيل حكومة عربية في العراق. وعارض بعضهم هذا الاقتراح باعتباره غير قابل للتنفيذ ويتعارض مع القانون ومع أعراف المجتمع الدولي. وادعى خصومهم أن جهات خارجية (بريطانية) تدعم الطلب، لذلك يجب تقديمه. وكانت الأكثرية في جانب المؤيدين، وعليه تم تقديم الطلب لسلطة الاحتلال.
رفض البريطانيون طلب اليهود بلطف وألحوا عليهم أن يعلنوا للملأ عن تأييدهم لاستمرار الحكم البريطاني في العراق وأن يطلبوا بصراحة حماية بريطانيا العظمى. أرسل السر أرنولد ويلسون، القائم بأعمال المعتمد السياسي ݒرسي كوكس أثناء غيابه، سكرتيره اليهودي صيون كرجي إلى وجهاء الطائفة حاملاً طلباً - بين إكراه ورجاء- يدعوهم للتوجه إلى السلطات البريطانية بتقديم طلب الحماية لأنفسهم ولأموالهم. أحرج طلب السر ويلسون وجهاء الطائفة فمن جهة توجب عليهم إطاعة السلطات الحاكمة، وهو ما تحتم عليهم تعاليم دينهم، ومن الجهة الثانية كان عليهم الامتناع عن إثارة غضب الأكثرية المسلمة التي تعايشوا معها طيلة أجيال كثيرة وسيستمرون بالعيش معها في المستقبل. شكل وجهاء الطائفة لجنة من سبعة أعضاء للبت في هذه المشكلة الحساسة. وبعثت هذه اللجنة الجواب التالي إلى ويلسون -:
"نحن أقلية هنا...ونحن نرضى بكل سلطة تحكم البلاد ونتعاون معها. وبما أن أغلبية تجارتنا مع المملكة المتحدة فإننا نطالب بحمايتها".
لم يكتفِ القائم بأعمال المعتمد بجواب اللجنة. وبعد عدة أيام أعاد صيون كرجي، الذي قام بمهمة الوسيط بين السر أرنولد ويلسون، جواب اللجنة وقال -:
"إن السيد ويلسون ليس راضياً من الوثيقة التي أرسلتموها إليه وإنه يريد أن لا تطالبوا بحماية تجارتكم فحسب، بل عليكم أن تطالبوا بحمايتكم أيضاً ".
أحدث طلب السر ويلسون حيرةً وارتباكاً لدى وجهاء الطائفة، وعندها تدخل صيون كرجي وقال -: "من المؤسف تضييع الوقت، إنه ليس رجاءً وإنما أمراً إليكم من عند السر ويلسون". وبعد مضي بضعة أيام انصاع رؤساء الطائفة للأمر ووقعوا على طلبٍ استجابوا فيه لإملاءات السر ويلسون.
يُعزى تردد اليهود وموقفهم من إملاءات ويلسون إلى الإبهام والغموض الذي اكتنف مصير العراق وإلى عدم اتخاذ قرارات واضحة حول مستقبله. تجلّى هذا واضحاً في تقرير من بغداد إلى الهند، أُرسل في الرابع من تشرين الأول/أكتوبر 1918 -:
"إن عدم اتخاذ قرار حول مستقبل العراق خلال مدة طويلة أضعفت العناصر المؤيدة لبريطانيا في العراق. الطائفة اليهودية التي كانت مؤيدةً للسلطات البريطانية بحماسة أصبحت غير منحازة إليها ".
في نفس الوقت بثت السلطات البريطانية دعايةً واسعة في جميع أنحاء العراق لتأييد حكمهم فيه. فنظموا إرسال مضابط ووزعوا المناشير وعقدوا اجتماعات للوجهاء واستعانوا بالعلماء كالمستشرق مرجليوث. ومن الجهة الأخرى اعتقلوا ونفوا الكثير من معارضيهم.
تكللت سياسة فرِّق تسد التي اتبعتها السلطات البريطانية بالنجاح. وأيدت الأقليات المختلفة سلطانهم، فمثلاً أصدر بطريك الكلدان وعشرة من وجهاء طائفته تصريحاً رحب فيه بسلطة الإمبراطورية البريطانية العظمى -:
"...التي حررتنا من نير الاستعباد التركي وأنقذتنا من عذابه. نحن نطلب من سمو الحاكم المدني أن يعمل جهده لإبقائنا تحت حماية الإمبراطورية البريطانية ".
أجرى البريطانيون، في نهاية عام 1918 ومستهل عام 1919، استفتاءً عاماً حول استمرار حكمهم في العراق. وأيدت الأكثرية الاستمرار ما عدا عدة بؤر مناوئة في أوساط السنة في بغداد وحشود الشيعة في النجف وكربلاء والكاظمية. أعلنت هذه الأوساط معارضتها الشديدة لاستمرار الحكم البريطاني ورفضت إجراء الاستفتاء رفضاً باتا، وهدّد رؤساء الشيعة بنبذ وطرد من المساجد كل من يصوت مخالفاً لرأيهم.
قرر البريطانيون، إزاء هذه المعارضة، عقد اجتماع مع وجهاء وأشراف بغداد واطرافها، في 21 من شهر كانون الثاني/يناير 1919، أملاً في إقناعهم للتوقيع على بيان صريح لصالح استمرار الحكم البريطاني. فأشاروا على قاضيين، واحد من السنة والثاني من الشيعة، أن يجمع كل منهما 25 رجلاً من طائفته، كما أشاروا على الحاخام باشي أن يجمع 20 رجلاً من وجهاء اليهود وعلى رؤساء الطائفة المسيحية أن يجمعوا 10 من وجهائهم. وحددت نسبة الممثلين اليهود لهذا الاجتماع تماشياُ مع عددهم حيث شكلوا في حينه ما يقارب ربع سكان العاصمة.
رفض الممثلون المسلمون استمرار الاحتلال البريطاني، وحاولوا أن يتحاورا مع وجهاء اليهود والمسيحيين لمعرفة وجهة نظرهم، ولكنهم أبوا الاستجابة، كما رفضوا تأييد اقتراح المسلمين بإقامة حكومة عراقية مستقلة. يقول علي البازركان، وهو من وجوه الشيعة الذين دُعوا إلى الاجتماع، إنه طلب من عزرا مناحيم والمطران جرجس دلال أن يبديا رأيهما بشأن الأجوبة، فأجاباه أنهما يحتفظان حالياً بسريّتها.
تأثر اليهود والمسيحيون بدعاية وشائعات روّجها البريطانيون، فحواها أن المسلمين يريدون تكوين حكومة إسلاميه بحتة وإبعاد اليهود والنصارى عن البلاد. رُوِّجت تلك الشائعات لدفع اليهود والنصارى إلى المجاهرة ببقاء الاحتلال البريطاني في العراق لحمايتهم من التعصب الإسلامي، وقد وُفقوا في ذلك إذ أن بعض اليهود والنصارى أخذوا ينادون بالاستقلال تحت حماية الإنكليز.
ومما رسخ خوف اليهود كانت التصريحات المغيظة من قبل متطرفين مسلمين، فمثلاً، تصريح في خطاب أمام جمهور يهودي من متكلم مسلم جاء فيه -:
"ألم يمشِ بكم النبي موسى أربعين سنة في التيه كي يطهركم ويصفيكم؟، ونحن أيضاً سنسلك دربه ونسير حسب سنَّته ونجلب إليكم خليفة طاهراً من الصحراء لانبعاثكم من جديد ".
كان لارتياب وجهاء اليهود والمسيحيين من 14 المبادئ التي أعلنها الرئيس الأمريكي ويلسون ومن البيان الأنكلو - فرنسي التي نُشر في الصحف العراقية في 8 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1918 إلى جانب توجُّسهم من إقامة حكم عربي في البلاد، أثره البالغ في اتخاذ موقف منفصل عن موقف المسلمين وعزز تشبثهم بالحكم البريطاني. فقدموا التماساً منفصلاً عن المسلمين طلبوا فيه استمرار الحكم البريطاني والسماح لهم بأن يكونوا رعايا بريطانيين وانهم لا يحبذون إمكانية إقامة حكومة وطنية معللين ذلك، أن العرب غير قادرين على تحمّل المسؤولية السياسية ولا توجد لديهم الخبرة الإدارية وقد يكونون متعصبين وغير متسامحين.
ونشر ممثلو المسلمين مضبطة من عندهم في 22 من شهر كانون الثاني/يناير 1919، من دون مشاركة الأقليات، طلبوا فيها إقامة دولة عربية إسلامية برئاسة ملك عربي مسلم من أنجال شريف مكة حسين بن على. كما نشرت مضابط مماثلة عن مراكز الشيعة في الكاظمية وكربلاء.
لا شك أن موقف ممثلي اليهود والمسيحيين وسَّع فجوة الشرخ بينهم وبين المسلمين. ومما أدى إلى ذلك هو قصر النظر وغياب زعامة يهودية ذات كفاءة، ويظهر أنه في حينه لم تتوفر لرؤساء اليهود الحكمة الكافية للوقوف ضد طلبات البريطانيين المُلِحَّة وسياسة "فرق تسد" التي اتبعوها والتي قذفت بهم إلى المسرح السياسي من دون الأخذ برأيهم والوقوفِ على رغبتهم بالاشتراك في هذه اللعبة الخطيرة وهم عديمو المؤهلات اللازمة لذلك. حدث كل ذلك بغياب زعمائهم السياسيين المعروفين، ساسون حسقيل كان آنذاك في استانبول ومناحيم صالح دانيال (1846-1940) كان طريح الفراش، ونجله عزرا مناحيم دانيال (1874-1952)، لم ينضج بعد ولم تكن له آنذاك المؤهلات الكافية للقيام بمهمات والده.
وهذا ما جاء به كوك في كتابه -:
"إن نظرة اليهود السلبية نحو العرب ظاهرة للعيان، وإن هناك أملاً ضعيفاً، في الظرف الحالي، أن ينصاعوا لإقامة دولة عربية في ميوزوݒوتاميا و إبداء تحمُّس لخطوة كهذه".
ازداد قلق اليهود عندما اتضح لهم أن بريطانيا العظمى حسمت أمرها نهائياً وقررت عام 1921 الاستجابة للمطالب العربية. فعادوا إلى المندوب السامي البريطاني السر ݒرسي كوكس (Sir Percy Cox) بمحاولة أخيرة راجيين منحهم الهوية البريطانية، مُدعين أن بريطانيا احتلت بلادهم من السلطان العثماني، وأنهم في الواقع أصبحوا مواطنين عثمانيين تحت سلطة بريطانية، وبما أن هويتهم العثمانية باتت ملغية من جراء الاحتلال، أصبح من واجب المحتل أن يزودهم بهوية بديلة ملائمة لتطلعاتهم. هدّأ المندوب السامي من ورعهم وطمأنهم بكلام مريح معلناً أنه سيوفر لهم أمناً كاملاً ضد أي عدوان أو إجحاف داخلي.
أدرك المسلمون إن تصريحاتهم المناوئة لليهود لم تخدم مصالحهم وإن البريطانيين اغتنموها فرصة لدقِّ إسفين بينهم وبين أبناء الطوائف الأخرى. فغيّروا تكتيكهم وبدأوا بتصريحات مهدئة ومطمئنة. فمثلاً صرح الزعيم الروحي للطائفة الشيعية آية الله شيرازي بوجوب حماية أرواح وأموال اليهود والنصارى والسماح لهم بممارسة طقوسهم الدينية. لم يخالف هذا التصريح تعاليم الشريعة التي تفرض على المسلمين حماية أرواح وممتلكات أهل الذمة مقابل تأديتهم "الجزية"، ولم يحتوِ على أيَّة تسوية أو تنازل عن أهداف القوميين الرائجة في أوساط العرب المسلمين في العراق. مع ذلك تم بعد عدة أيام اتفاق بين الطرفين. ورغم ذلك قامت الأوساط القومية بتوزيع منشور جاء فيه، "أننا نرفض مهاجرة كل عنصر غريب عن العنصر العربي إلى البلاد العربية كالهنود واليهود". وأرسلت نسخ منه لسوريا وفلسطين وشرق الأردن وتركيا وأفغانستان وغيرها.
دامت موالاة اليهود للسياسية البريطانية نحو 15 شهراَ قرروا بعدها التخلي عن الخط الانفصالي عن العرب الذي تبنّوه منذ الاحتلال وأيدوا الأكثرية الإسلامية المتطلعة للاستقلال. ولم يحصل هذا التحول بمعزل عن مجرى التطورات الهامة التي حدثت في تلك الآونة بالشرق الأوسط عامةً وبالعراق خاصةّ.
وفي نيسان/أبريل من عام 1920 توصلت الدول العظمى إلى تسوية لتقسيم الشرق الأوسط بموجب اتفاقية سايكس - ݒيكو وبين مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون التي تنادي بإقامة حكم ذاتي لكافة الشعوب. وُضع ضمن هذه التسوية كل من سوريا ولبنان تحت الانتداب الفرنسي ونالت بريطانيا الانتداب على فلسطين مع شرق الأردن الذي انفرد منها فيما بعد، وعلى العراق، وذلك تماشياً مع بند 22 من نظام منظمة "عصبة الأمم"، الذي ينص على الدول المستعمرة مساعدة وتمكين الدول التي تحت انتدابها، والتي انسلخت من الإمبراطورية العثمانية، على النهوض وتأهيلها للحكم حتى تصبح قادرةً على أن تستقيل وتحكم البلاد وذلك تحت رعاية "عصبة الأمم".
اندلعت، في شهر حزيران/يونيو من عام 1920، ثورة شعبية ضد الاحتلال البريطاني، عرفت فيما بعد "بثورة العشرين"، وكانت بداية نشوبها بمنطقة الفرات الأوسط وسرعان ما شملت أجزاءً أخرى من العراق. ولم تستطع سلطة الاحتلال إخمادها نهائياً حتى شهر شباط/فبراير من عام 1921. زعزعت هذه الثورة سيطرة الجيش البريطاني لبعض الوقت، فحسم السياسيون البريطانيون أمرهم وتبلورت عندهم سياسة موالية للنزعة الليبرالية.
انتاب أبناء الطائفة اليهودية في العراق قلق وارتياب من زعزعة الأمن في البلاد إبان ثورة العشرين. ففي أثناء ذلك راجت البغضاء ضد الأجانب وتوترت جداً العلاقات بين الأكثرية المسلمة وبين اليهود. وفي هذا الصدد كتب سلمان شينا الذي كان سكرتيراً لجمعية أدبيّة إسرائيلية أقيمت في تموز/يوليو 1920 -:
"كانت العلاقات بين اليهود والمسلمين متوترة جداُ إبان اندلاع الثورة، وكانت البغضاء والكراهية قد بلغتا أوجهما. وعندها تفقد شبابنا الأوضاع برئاسة ضابط شرطة، يهودي في العشرين من العمر، ورأوا أن هناك حاجة ماسة لإقامة "جمعية أدبية إسرائيلية لرفع معنوية إخواننا وإصلاح أوضاعهم بتوطيد علاقات طيبة مع المسلمين في تلك الأيام الحالكة من شهر حزيران/يونيو 1920 عندما كانت تتكرر المناوشات في الشوارع ".
ولَّدت معارضة فرنسا لحكم عربي مستقل في سوريا وطرد الملك فيصل (1883-1933) منها في 28 من شهر تموز/يوليو 1920 عدة مشاكل مُلحَّة على بريطانيا، إذ توجب عليها أن تتخذ قراراً حول مصير فيصل، وبعد أن تبلورت فكرة تنصيبه ملكاً على العراق تحت الانتداب البريطاني تحتم عليها أيجاد حل لأخيه عبد الله الذي كان من المفروض أن يحظى بالتاج العراقي. فتبنت حلاً موقتاً، الذي سرعان ما أصبح دائماً، وهو إقامة إمارة شرق الأردن وتنصيب عبد الله أميراً عليها.
لما اتضح لزعماء اليهود أن لا مناص من إقامة حكومة عربية في العراق، والأمل في الحصول على الهوية البريطانية بات ضعيفاً، قرروا، من الناحية العملية ووفقا لما تلزمهم تعاليم دينهم بإطاعة السلطان، التفاهم مع المسلمين والعمل وإياهم على إقامة الدولة الجديدة. وأول مظهرٍ لهذا التفاهم تجلَّى في الاتفاق الذي توصل إليه زعماء المسلمين وزعماء اليهود والمسيحيين قبيل انعقاد اجتماعهم عند الحاكم المدني البريطاني، السر ويلسون. وكان ويلسون قَد وجّه دعوات، في العشرين من شهر حزيران/يونيو 1920 إلى 40 من وجهاء بغداد والكاظمية، ضمت هذه المجموعة 15 وجيهاً من المسلمين المتطرفين المطالبين باستقلال العراق كدولة قومية عربية، وممثلين من الطائفة المسيحية، وأربعة من زعماء اليهود: ساسون حسقيل، مناحيم صالح دانيال ونجله عزرا، ويهودا زلوف. استطاع الطرفان للتوصل إلى اتفاق طالبوا البريطانيين بموجبه استقلالاً تاماً.
يبدو أن الاتفاق بين الأكثرية الإسلامية والطائفتين اليهودية والمسيحية، الذي نادى على إثره المسلمون بالتآخي ورص الصفوف، كان له قسطاً وافراً في عدم مس الأقليات بسوء إبان الثورة التي اندلعت في العراق حينذاك.
أذعن اليهود لمطالب القوميين العرب تحاشياً من توسيع الخلاف معهم في ظرف صعب جداً، عمَّت فيه ثورة شعبية عارمة وساد في البلاد من جرائها خلل في الأمن. وفي ظرف كهذا، فمن المؤكد أن مناهضتهم للقوميين ستجلب عليهم الويل والدمار. ولم يتلاشَ تحفظ اليهود من إقامة سلطة عربية في العراق بعد اتفاقهم مع العناصر المتطرفة.
كان للخطاب الذي القاه فيصل، المعتمد لتاج العراق، في حفل أقامته الطائفة اليهودية في الكنيس الكبير في 18 تموز/يوليو 1921 أثره الإيجابي البالغ عند الأقليات وعزز إيمان أبناء الطائفة اليهودية بمستقبل زاهر في أرض الرافدين، فتوجهوا نحو "الوطنية العراقية". جاء في خطاب فيصل -:
"ولا شيء في عرف الوطنية مسلم، مسيحي أو إسرائيلي، بل هناك شيء يقال له العراق...إني أطلب من أبناء وطني العراقيين أن لا يكونوا إلاّ عراقيين لأننا نرجع إلى أرومة واحدة ودوحة واحدة هي دوحة جدنا سام، وكلنا منسوبون إلى العنصر السامي ولا فرق في ذلك بين المسلم والمسيحي واليهودي...".
من الآن وصاعداً، قرر وجهاء اليهود أن يعملوا جهدهم، لصالح عراق مستقل ومزدهر ولصالح "الوطنية العراقية". واعتبر المتحمسون منهم أنفسهم شركاءً بالكامل وطليعة لبذل الجهود القومية ولإرساء أُسس إدارية قويمة واقتصاد قوي في أرض الرافدين، أرض آبائهم وأجدادهم، وطمحوا في إحياء عزَّته وكرامته وأمجاده الغابرة. وضع هذه الأسس كل من ساسون حسقيل ومناحيم صالح دانيال، رائدي التوجه نحو "الوطنية العراقية"، اللذين كان لهما تأثير أكثر من الآخرين على مستقبل يهود العراق منذ بداية القرن العشرين، وخاصة منذ العقد الثالث حين بدأ الحكم الوطني يتبلور في البلاد تحت راية الانتداب البريطاني. حيث تبنَّى الاثنان وزملاؤهم أيديولوجية شاملة بهدف تشجيع أبناء الطائفة الإسرائيلية في العراق لتأييد "الوطنية العراقية".
للراغبين الأطلاع على الحلقة السابقة:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/48376-2021-03-25-19-32-18.html
392 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع