جراح الغابة: الجزء الخامس/ د.سعد العبيدي
تخيل عمر غرابة الطلب، وكم هي قسوة التنفيذ، وتخيل في المقابل حتمية الهلاك الناتج عن عدم التنفيذ، قلبّه في ثنايا العقل المتعب، قارن النتائج بالقيّم التي يحملها، وجد نفسه غير قادر على ممارسة الجنس مع ضحايا تشبه الأموات، ليس لأنه لم يمارسه مع امرأة طوال حياة قضاها في مجتمع الفلوجة، المعروف بتدينه وشدة الانغلاق، وسعة التمسك بالقيم العشائرية، استهجن الفعل وهو في موقف أسر لا يحسد عليه، نظر الى الأم وبناتها وقد استجمع كل قواه، تيقن وعيهن الباقي مجرد نظرات ابتئاس، فسرها توسلات، واستجارة نسوة في مأزق خانق، والاستجارة بعرف الصحراء القادم من أطرافها لازمة، تستحق التضحية بالنفس من أجل تحقيقها.
فكر قليلاً ثم قال، لا يمكن فعلها.
تحجج ببعض الآيات القرآنية عسى أن يتحسسوا تدينه ويعتقوه، ثم بحديث حيث أوصى الرسول الأعظم بالجار السابع، عسى أن يحترموا التزامه بالسنة النبوية، ويتركوه، ومع استمراره طلب الرحمة، عرض عليهم أي شيء يريدونه إلا الفاحشة بالمستجير.
قبل الأمير في الظاهر حجته، غيّرَ من رأيه وصيغة الطلب، بان وكأنه لانَ في لحظة عابرة، حتى رفع الحذاء من على الوجه المغطى بالدماء، ثم قال:
- سأتفق معك، وسأقبل ضعف رجولتك، وسأبدل هذا الحكم بأخر سيكون فرصتك الوحيدة للنجاة، رد بيأس:
- يا الله، فبادره بالقول:
- خذ هذا المسدس، اقتل واحدة فقط، واخرج على الفور، معززاً مكرماً إلى اسرتك التي ستفتخر بك مناصراً للدولة الاسلامية في جهادها ضد الخونة والمرتدين، لأن مجيئك هنا، ودخولك هذا البيت الذي نحن فيه لتنفيذ القصاص، ليس بالصدفة، إنه أمر الله، وعليك تنفيذه، بالعمل مثلما نريد، وفقاً للأصول الشرعية.
كان الأمر الجديد أقبح من سابقه، بالنسبة له طالباً جامعياً يمتلك ثقافة دينية جيدة مثل كثير من أبناء جيله، ومدينته في العشر سنين الأخيرة.... ثقافة دفعت بالشباب إلى التوجه صوب الدين، تفتیشاً عن الحلول المعقولة، لمشاكل عصرهم غير المقبولة، حاول الإفادة منها الآن في أزمته جهد الامكان، بعد إحساس أحسه إتيان الفائدة في التخلص من إثم الزنى الذي أرادوه قبل قليل، فكرر عدم استطاعته قتل النفس التي حرم الله قتلها، قال:
- اطلبوا غير هذا، سأسكت وكأني لم أرى أي منكم، ولم أسمع بكم، ساترك هذه المنطقة الآن، وأعود إلى الفلوجة التي يعرف أهلها جميعاً أني عمر، أو أقتل جندياً أمريكياً إذا شئتم قتله مؤازرة للدولة الاسلامية، أو أزرع عبوة ناسفة في المكان الذي تريدون دعماً لقوة الدولة الاسلامية.
کلام ساذج، من طالب ساذج، لم يخطر بباله أن الأمير حامل السيف صديق في الأصل للابن المراد ذبحه، قرباناً للدولة المطلوب إنشاؤها، سلفية على أرض العراق، ولم يخطر بباله أيضاً أن هذا الحاكم بأمر الله، سبق وأن أكل من زاد هذه الأسرة التي يروم تدنيس شرفها الآن، وان الحقد في داخله يدفعه عدم القبول بغير القصاص وقطع الرؤوس، سبيلاً لديمومة إمارته الإسلامية، لا يقتنع إلا بها وسيلة مجدية، تشبع ما في داخله من شهوة للانتقام.
وضع الأمير حذاءه ثانية على رأس الضحية التي أوقعها الحظ العاثر في وليمة القتل الجماعي هذه، نظر إلى عينيه المتورمتين، وأكمل الآية التي ذكرت قبل قليل سبيلاً للخلاص من ارتكاب إثم القتل:
(إلا بالحق.....)
داس على الرأس بقوة أزاحت ما تحته من شعر سلخاً عن مكانه، قال:
- تريد أن تعلمنا القرآن أيها الحيوان الجاهل، إنك في تخاذلك هذا لا تختلف عن سامر في جبنه، وعليك أن تدفع ثمن امتناعك تنفيذ حكمنا الشرعي.
رفع سيفه إلى الأعلى، ومع كلمة (يا الله) ضرب العنق بكل ما أوتي من قسوة، ضربة واحدة فصلت الرأس الذي تدحرج أسفل الطاولة، عن جسد استمرت أرجله في التحرك دون انتظام، حركات تشبه تلك التي تصدر عن ارتجاف عصبي لأطراف شاة مذبوحة، حتى استقر بعد ثوان جنب جثة الوالد التي توقف النزف من شرايين رقبتها.
أنهى الأمير بإرادته حياة عمر في لحظة، وانهى معها آماله في التخرج، والعودة إلى الفلوجة للزواج من ابنة العم التي تنتظر اكتمال المراسيم في غضون شهر، أمنيات وحياة ومستقبل انتهت جميعها بسب الالتزام بالقيم التي لم يبق منها شيئاً، وفي غفلة أو صدفة لم يتوقعها، ولا الثلاث اللواتي ينتظرن ذات المصير، وهن يشاهدن طريقة موتهن في أواخر الدقائق الباقية للحياة، وربما بسبب الحظ العاثر الذي سحبه مرغماً إلى وضع لم يفهمه، وكذلك الثلاث الباقيات على قيد الحياة حتى هذه اللحظة، بل ومثلهم المستلقي على السطح، ومعظم أهل بغداد الذين يشاركونهم عثرة الحظ، حتى جال في خاطره أن ذوي الحظوظ العاثرة في بغداد كثيرون، وكثيرة هي البيوت التي يدخلها عنوة عبد الجليل، وكثيرة هي السيطرات التي ينصبها الشقاة لصيد ذوي الحظوظ العاثرة.
هكذا هو الأمير الجليل في دولة السلف التي يفكر بها، لم يرف له جفن على موت عمر، ولم يتوان في إكمال مشروعه في التدنيس والتنكيل والانتقام، حيث أشار قبل الشروع بالذبح على طريقته الاسلامية الخاصة، إلى أصحابه الواقفين في الزوايا أن يتوجهوا صوب الوالدة، والبنات في نيّةٍ مبيتةٍ لفعل الرذيلة، فأصبح المشهد بالنسبة إلى الجاثي على ركبتيه في السطح، أصعب من الموت، لبشاعة حركاته الوحشية، تخيله عبئا يصعب تحمله لما تبقَّ من العمر.
أين هو الموت؟ سأل نفسه، وأجابها عسى أن يأتي دون الذهاب إليه، كما فعل الوالد بشجاعة بات يحسده عليها وهو ميت، وبات يتحسس البقاء على السطح في داخله جبناً لا يطاق، وسألها أيضاً كيف يتم الموت؟
كذلك أجاب، أنه لا يشبه أباه في تقبل الموت وتحدي عبد الجليل، ولا في دافعيته في إستعجال الموت كي لا يشاهد الرذيلة مثل دافعية أبيه، وليقنع نفسه ويخفف من وقوع الألم على ذاته المنهارة، قال لنفسه:
- ان الحال بالنسبة له يجثو على السطح متخفياً، تختلف عن حال الموجود منصاعاً لسيف خرج من غمده بقصد القتل غيلة.
وقال أشياء أخرى، حتى صار يكلم نفسه، كأنه يحاججها للمحافظة على وضع يبعده عن الجنون، ختمها بالقول:
- لا فائدة من المقارنة والاحساس بالجبن يكبر في الداخل مع كل لحظة تمر، وخطوة يخطوها الجناة صوب البنات، وحوشاً كاسرة.
أغمض عينيه لحظة، أحس وقع أقدام الشقاة تدنس صفاء الانسانية، كأن السوداني الذي يتجه إلى الأم، خنزير بري، وكأن الأم التي استمرت في المقاومة تضعف، حتى أغميَّ عليها تماماً، فينتقل في غزوته إلى منى الفاقدة الوعي أصلاً، بينما يشتبك الليبي مع شذى اشتباكاً لم يطول، إذ سدد لها طعنة سكين في صدر لها تعرى من قسوة العراك.
كانت كل حركة يتحركونها تثير الاشمئزاز، وكل قطعة ملابس تخلع من على أجساد الثلاثة، تثير الرغبة بالموت، منظر موت لا يمكن أن يتابع من على السطح، رافقه شعور غريب بالإعياء، ورغبة شديدة بالقيء فعم الخوف خوفاً من نوع خاص، نزل على إثره العرق بارداً، فشلت الحركة تماماً، إلا من نظر يحملق بالسماء فيه عتب شدید، وعقل أدرك نصف المأساة، وتجاوز النصف الباقي بسبب التشوش الحاصل في ثناياه.
*********
للراغبين الأطلاع على الجزء السابق:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/52634-2022-02-06-16-20-22.html
3846 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع