جراح الغابة: الجزء السادس/ د.سعد العبيدي
كانت الردهة مخصصة فقط للرجال، لا يسمح البقاء فيها للنساء، كما ان الاختلاط بين أجناس المرضى غير مسموح في الأعراف التي دخلت مع حمى الديمقراطية، فاضطرت التخفي تحت السرير، كي لا يطردها المسؤول، تقفز بين الحين والآخر من مكان إلى آخر، لم يتعود فيه الراقدون مجاناً، أن يشاهدوا سيدة أنيقة، ترافق بقايا رجل مريض في ليل بغداد الموحش بلا كهرباء، تندب وحدتها في موقف صعب، وجميع الأولاد الذين أنجبتهم، وتأملت عونهم في أيام الشيخوخة والمرض، مقيمين ثلاثتهم بثلاث دول أوربية، لا يعلمون ما يجري، أنا من دفعهم الا يعلموا، حماية لهم من تقلبات العراق التي بدأت قبل مولدهم بعقود، كانت تحس الألم في صدرها، سكاكين لتقطيع الأوصال، مثل ألم في داخلي لا يطاق، تصرخ مع كل صرخة لي تخرج مبعثرة من القلب، لم تتوقف منذ ثلاث ساعات، تسأل المريض الراقد في الجنب، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
كيف توقفت عن الصراخ؟
تقصد كل من يمر لابساً الزي الأبيض في المكان، طبيباً كان، أو ممرضاً، أو مساعداً متدرباً لطبيب، متوسلة الحصول على مزيد من جرع الدواء المخفف للألم وإنهاء الصراخ، وإن تيقنت من كثر تناوله غير النافع، أن وقت فاعليته قد انتهى، أو إنه تقليد دواء صيني تم استيراده من تجار تعودوا استيراد الأرخص في غياب الفحص والتقييس. وجهها الجميل الباسم أصبح شاحباً، مائلاً الى الصفرة من شدة الخوف والتعب، وفقدان القدرة على التحمل، رقتها المعهودة غابت تماماً في لحظة تواجدها بردهة الرجال الملآى بأجساد الواهنين، تستفسر عن اختصاصي في أمراض القلب، أي اختصاصي کان، لا يهم أن يكون فرحان باقر، أو الشعرباف، أو أياً من العظماء الذين باتت أعدادهم تتناقص يوماً بعد آخر في بغداد، عارضة ما تملك من مدخرات ثلاثين عاماً، قسمت ما بين حرب وبين حصار، وما ورثته عن والد میسور، توفي قبل سنين بسبب نقص الدواء النافع أيام الحصار، قالت أعطيها في الحال لمن يخفف الألم عن صدر الحبيب.
لا فائدة من هذا العرض اليائس، والوقت قد تجاوز الثانية عشرة ليلاً، موعد منع التجوال،
لا أحد يجازف بالخروج من بيته، وإن وعِدَ بمال الدنيا، لأن الخروج منه يُعرض موجوداته الى السرقة من متربصين تتزايد أعدادهم مع الأيام، كما قد يتعرض من يرتكب حماقة الخروج بعد تلك الساعة إلى الموت غدراً؛ أو بالصدفة على يد مجهول.
لا بد من تحمل الألم، وانتظار الصباح حتى يأتي العامل المسؤول عن المولد الكهربائي، لتشغيل أجهزة الأشعة، وتخطيط القلب، وتثبيت التشخيص الذي على أساسه يمكن إعطاء الدواء، فالكهرباء انقطعت وتوقفت كل الأجهزة في الحال، والاختصاصي المخول بالقرار على نوع الدواء أصلاً غير موجود، كما ان الصيدلي هو الآخر غير موجود، وكل ما ينفع في التشخيص الصحيح والتهدئة النفسية، والتخفيف الجاد من آلام الصدر، كذلك غير موجود، لا خيار في مشهد الصراع من أجل البقاء على قيد الحياة، إلا الانتظار، وليس في المنظور بد، سوى الاستسلام لمزيد من الألم، ومزيد من المهدئات المتبقية، متناثر بعضها على طاولة طبيب ممارس بقي خافراً، ومعبأ بعضها الآخر بأكياس ورقية مثلما كان يحصل قبل ثمانين عاماً في مستشفى المجيدية الموروثة من زمن الاتراك العثمانيين.
قال لنفسه، انتظرْ، دع الأمر إلى القدر، ودموع الزوجة التي قد تنقذ الموقف في لحظات أخيرة تسبق الفناء، انتهى ذاك الهدوء الذي تعودته في بيتها الجميل، هذه الليلة، وبدأت الأحزان تلملم أوجاعها، لكن صرخات الدموع التي لم تتوقف منذ لحظة دخولها المستشفى تثير الأحزان، تتمنى أن تتناسى الأحزان، وتبقى قوية كي تضفي على الموقف نوعاً من الطمأنينة.
مازلتُ أصرخ من شدة الألم، ومازالت هي تبحر في عالم الحب والطمأنينة، ولما اقتربت من حافة اليأس استسلمت لنوبة بكاء، لا خيار لها سوى البكاء بصوت مكتوم، مستلقية على أرض الردهة، المشبعة برائحة العفونة من بقايا قيء، لم تمسه يد السيدة المسؤولة عن التنظيف، بعد أن غابت عن عملها ثلاثة أيام، بقصد الزيارة الجماعية لأضرحة الأولياء مشياً مع أهلها الى كربلاء.
هاتفها النقال لم يسكت، ولم تقبل أن يسكت لاستنفار المعارف، أو ممن بقيَّ من الأصدقاء في بغداد التي غادرها الأقرب منهم تفادياً لغدر مجهول في منتصف الليل، أو لتجنب إطلاقة كاتم صوت في وضح النهار، وربما للتخلص من احتمالات حدوث انفجار دون تخطيط.
بزغ الفجر تواً، لم يكن فجر بغداد الذي انتظرتهُ مشرقاً بعد ليل طويل مضاء بوهج الصواريخ، ولم يكن كذلك كما أراده الدكتور عامر الراقد في الجوار، العائد من عمله أستاذاً جامعياً في ليبيا، يئن هو الآخر من وجع الصدر.
إنه بدايات يوم جديد، أعلن عنه صوت الأذان القادم من جوامع قريبة، جوامع صارت مقفرة لا يأمن المصلون دخولها فجراً، لاستخدام بعض غرفها مخازن سرية لإخفاء الأسلحة والمتفجرات، وإعداد قاعاتها منابر تعليم المجاهدين الوافدين من خارج البلاد فن الاغتيال، والتفخيخ... بدايات يوم لم يعد مطمئنا لأهل بغداد، ولم تعد أصوات التكبير التي تنقلها مضخمات الصوت، المنصوبة على المآذن مسموعة من رواد الصلاة الأولى فجر هذا اليوم، بعد تشويهها من أزيز رصاص يطلق في عموم المنطقة، وانفجارات، أعقبتها نداءات استغاثة، وأعمال تحريض.
مع هذا فإنها بداية يوم يحسب جديداً، أكده بصيص ضوء خفيف راح يتسرب من زجاج الشباك المكسور، عبر ستارة ممزقة، لا تخفي عورة الاهمال والتقصير، في هذا الصرح الطبي الحكومي المشيد وسط الاعظمية.
تطلعت من حولها برهة، وجدت الألم باق كما هو، وكذلك الصراخ، والدموع والأشجان، مرضى يئنون، ومرضى ينامون دون اكتراث، وآخرون ينتظرون نوبة نواح على زميل يرقد في الجوار، لا أمل له في العيش وسط هذا الاهمال، ونقص الأدوية، وكثرة الغبار، وانقطاع الكهرباء.
عاودت الالحاح على صديق قديم، مع الدقائق الأولى لرفع الحظر الخاص بالتجوال، وزادتها بعض توسلات، لبى ذاك الصديق طلبها وفاءً، اصطحب زميل له استشاري جراحة قلب وشرايين، استمع الاستشاري إلى شرحها بعد أن استنفرت كل الحواس، واستخدمت كل احتياطي الطاقة النفسية المتاح، ثم أجرى فحصاً سريعاً على فانوس وحيد، كان قد بدد ما تبقى من ظلام ساد الردهة بأسرتها العشرة، لم يتكلم عن الأشعة والتخطيط، عندما نادى الطبيب الخافر، اختزل الوقت المتاح بتوجيه اللوم على التباطؤ، والتقصير في تشخيص حالة القيء، وشدة الألم ومكانه، جلطة قلبية واضحة المعالم، أخرج قلماً من جيب سترته، كتب دواءً ثم إلتفت صوب الطبيب الخافر ثانية، قال:
لو كنتم قد أعطيتموه هذا الدواء في الساعات الأولى، لما حدثت كل هذه المضاعفات.
أقترب منها واقفة تراقب المشهد، همس في اذنها الصاغية، لم ينتبه الى إجابة الطبيب الشاب عدم وجود الدواء، قال:
أنتم محظوظون، وأنت سيدة عظيمة، بوقفتك طوال الليل، وقفة أسهمت في ابعاد عوامل الانهيار، كذلك بإلحاحك على طلب اختصاصي في الموضوع، إذ لو استمر الحال على ما هو عليه ساعة أخرى، لحدث الأسوأ، سيهدأ في أقل من نصف ساعة، بعد أخذ الدواء الذي لا بد وأن يكون أجنبياً، يجلب من خارج المستشفى، من صيدلية بيت الدواء في شارع المغرب، سيعبر الأزمة، وبعد عبورها أنصح نقله خارج العراق لإجراء القسطرة، ومزيد من الفحوص إذا كنتم متمكنين، لأننا هنا، وكما تلمسين نعود بالطب إلى أيام الحجامة والحلاقين.
لكن ترك البلاد فوراً والانتقال الى أخرى قرار لم يكن سهلاً في ظروف اضطراب، تتلقى في أيامه العابرة ثلاجات الطب العدلي ببغداد وحدها، بين خمسين إلى مئة جثة مجهولة الهوية يومياً، ومع ذلك اتخذ القرار في الوقت المناسب، قالت في خضم الحوار لاتخاذ القرار، لابد من الرضوخ إلى رأي الطبيب الاستشاري وترك البلاد، على أمل العودة، أو حتى بلا عودة، لا فرق في هذا، المهم هو الوصول، ولأجل الوصول حضرت سيارة إسعاف، معلمة بعبارة (أنها مهداة إلى وزارة الصحة ضمن برامج المساعدات الدولية الى العراق) برنامج مخصص الى الدول التي تصنف فقيرة، علقت على العبارة بالقول، كيف يكون فقيراً وهو الطافي على بحيرات سموا نفطها بالذهب الأسود، كانت هذه السيارة وعلى الرغم من أنها هدية وحديثة، نصف أجهزتها لا يعمل بسبب عدم تيسر الخبرة، ونصفها الآخر تعطل بسبب جهل العاملين، وإهمال المسؤولين، ومع ذلك وصلت المطار.
أمسى اليوم الثاني في مستشفى (همر سمث)، المستشفى اللندني المعروف، كان الرقود هذه المرة على سرير حوله أجهزة متعددة تؤشر بعض ردود الفعل، وتقيس كل الاستجابات الاتية من الجسم. في القريب ممرضة بوجه يفيض حيوية، ناصع البياض مثل بياض صدريتها الأنيقة، كل حركة منها تلوح بالطمأنة وضرورة أخذ قسط يكفي من الراحة والاسترخاء، نور عينيها هادئ، يؤشر استعداداً لمنح العطاء، تقدم الدواء بمواعيد لا تتأخر دقيقة، ولا تتقدم أخرى، تفحص الحرارة، وسرعة دقات القلب، ومعدل التنفس، وكم الاوكسجين في الدم، تلبي كافة الطلبات، وابتسامة ندية لا تفارق محياها الجميل، تشعر الراقد من أي بلد كان، وبأي لون يكون، أنه إنسان.
في الجانب سرير رجل سبعيني أندرو، اسكوتلندي غريب الأطوار، في دعوته بإلحاح إلى ترك الحضارة ومآثرها، والعيش بعيداً عن ضغوطها، بلا كهرباء ولا هواتف نقالة، ولا مكائن ومعدات، يرى اطمئنان النفس وراحتها في ترك تلك الأشياء، والعودة الجادة إلى الطبيعة تتكفل بكل الأشياء، يدعم رأيه بتفسيرات قومه لما مكتوب في انجيل مازال بحوزتهم منذ وصولهم، طائفة مسيحية من الآميش، سكنوا هذه القرية الاسكوتلندية على حافة الغابة المطلة على بحر الشمال.
كانت المستشفى وسط لندن، لا حاجة بها إلى وجود الزوجة، التي لم تأتي بسبب صعوبة الحصول على التأشيرة في الوقت الحرج آنذاك، ولا حاجة الى مرافقين، ولا إلى أولاد قريبين، فالردهة الخاصة بأمراض القلب التي تم الاستقرار فيها، تحوي ستة أسرة، تفصل بينها ستائر من قماش، لا تسمع فيها الأصوات، ولا وقع الأقدام، كل شيء يجري بالهمس، حتى صوت التلفاز المشترك يكاد لا يسمع، مرضاها خليط من النساء والرجال، وكأن الفرق بين الجنسين بدعة، وضعت بقصد التمييز، أو التخويف من ارتكاب معصية، لا وجود لها خارج عقول الخائفين، فيها الممرضة مسؤول أول، يأتي بعدها الطبيب الممارس، ومن ثم الاختصاصي الذي لا يشاهد، إلا في أوقات الشدة، والحاجة القصوى، كل إجراء مكتوب ومثبت في طبلة المريض، منذ اللحظات الأولى للدخول حتى آخر إجراء قبل الايذان بالخروج، وكل شيء فيها يذَكْرُ بالفرق بينها، وبين تلك المستشفى الموجودة في أرض الوطن المكسور، فرق لا يقتصر على آليات الطب الذي تخلف عقوداً، ولا على التحضر والرقي والثقافة، والتنشئة التي عادت إلى الوراء عدة قرون، بل وعلى النفس التي تبدلت عاداتها وتقاليدها ومفاهيمها قريباً من الانحراف.
- هل مازلت تحلم؟ سأل نفسه، وأضاف:
- متى تتوقف عن أحلام بات الطريق إلى تحقيقها طويلاً، وربما لم يعد ممكنا؟
- ألم تنتبه إلى اليوم الأخير في المستشفى، بعد إجراء القسطرة وتثبيت التشخيص (انسداد في الشريان التاجي، وتلف في عضلة القلب بسبب التأخر في العلاج).
مر اليوم الأخير في المستشفى بوقع اسرع، في اللحظة التي عاودت الظهور فيها السيدة الأربعينية الشابة، بتفاؤلها المعهود، وابتسامتها الرقيقة بلا حدود، واطلالة لها هذا اليوم ببنطلون جينز، وقميص مخملي أبيض، يخفي فقط ذلك الجرح الذي أحدثته العملية في صدرها الحنون، تستعد إلى المغادرة دون تأخير، أصرت أن لا تغادر، قبل توديع زملائها في الردهة التي أمضت فيها شهراً كاملاً، وباتت أقدم الموجودين رقوداً.
تنقلت وابتسامتها المشرقة موزعة بين الجميع، سألت عن حالهم، شجعت على التفاؤل، وأخذ الموضوع بروح رياضية، لم تنسَّ الاستفهام عن أصول بعضهم، لأن الراقدين مختلفة ملامحهم، لا يشبه أحدهم الآخر، منهم الأفارقة، والآسيويون، والعرب والأوربيون، وأبناء البلد الأصليون، قَبَلتْ الرجال من دون تفريق، وعانقت السيدات دون تمييز، لم تسأل عن الشيعي منهم، لتطيل تقبيله، ولا عن السني، لتتركه من دون تقبيل، توقفت عند السرير طويلاً هذه المرة، وكأنها تودع حبيباً، تعلم أن صاحبه العراقي سيغادر هذا اليوم أيضاً، أصرت على قيامه من على السرير، مؤكدة حاجة المغادرة الى تجاوز الكسل والخمول، فتحت أزرار قميصها الأبيض، لتظهر آثار جرح خلفته العملية غائراً بين ثديين كاعبين، يستحقان شاعراً من زمن الجاهلية للتغزل بهما في عصر الانترنت، قالت:
انهض من سريرك سيدي، إنها مجرد كبوة، ألم ترني أتجول متفائلة، وإنا أحمل صماماً صناعياً في قلبي المتعب منذ الولادة، وصدري الذي قسمته الجراح نصفين؟
ابتسمت قليلاً ثم أكملت:
سعيدة أنا بالعيش حتى هذا العمر، وسأكون أسعد عندما أحس أنك تجاوزت وعكتك، ووخزات أحلامك وتعب السنين.
ولمزيد من التعاطف، وتلطيف الأجواء، والبسمة التي لا تفارق شفتيها الجميلتين، أكدت أن لديها صديقاً حميماً، اتفقت وإياه على الزواج بعد شهر من الآن، واتفقا على إنجاب طفل بعد أن سمح لها الطبيب فعل ذلك، ثم عاودت الاصرار على النهوض، لأنها لا تريد أن تنحني، أو لأنها لا تريد أن تبقي إحساساً بالمرض في داخل العراقي المريض، وهي عارفة أنه هارب غريب.
قدمت قبلة الوداع بثقة لا تشعر المقابل سوی بمتعة الوجود، وباستحقاق الحياة أن تعاش في أي مكان، بكل ما فيها من بهاء وجمال، وآهات وأنين.
موقف في لحظته يستحق المقارنة، وتذكر أيام بغداد، هروب من واقع حال أم هروب من مواجهة الفشل في تحقيق الأحلام؟
مع هذا لا مفر من اجترار الأفكار، وإعادة الذكريات في هذه البلاد البعيدة عن بغداد، وأهل بغداد الراقدين تحت رماد الفوضى والاحتراب، لابد من تذكرها هنا والآن، والعود بزمن التذكر إلى ستينات القرن الماضي التي لم يفكر فيها، ولم يفكر أحد غيره أيضاً من العراقيين بالهروب، هكذا هو الانسان يعود إلى الماضي بحنينه والذكريات، سلسلة يريدها الا تنقطع، كلما واجه مصاعب في الحاضر وبعض العثرات.
للراغبين الأطلاع على الجزء الخامس:
https://algardenia.com/2014-04-04-19-52-20/thaqafawaadab/53232-2022-03-24-12-47-57.html
4342 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع