ذاكرة/ سينمات البصرة .. من الفضة الى الرماد !
محمد سهيل احمد
عشرون ونيف دارا للسينما قدمت أجمل العروض ابان سنوات الأوج :الثلاثينيات،الاربعينيات ، الخمسينيات ، الستينيات حتى منتصف السبعينيات حين بدأ القوس بالانحدار فراحت دور السينما تتهاوى دارا اثر دار وتتفطر شاشة تلو أخرى .
ملك الصالة
الوقت : قبل الساعة الرابعة عصرا .. سماعتا الشاشة تصدحان باغنية لأم كلثوم او محمد عبد الوهاب . تنطفئ اضوية الصالة فتغرق لحظات في ظلام دامس مشحون بصفير وزعيق رواد الموقع الشعبي القريب من الشاشة . وفي لحظة مسرحية تعود الاضوية للسطوع لييبزغ ( تومان ) ابرع من يعزف ( الفيفرة ) او الناي بأنفه .
هو ملك الصالة الآن . وما ان يقدم وصلته الموسيقية الشجية متلويا بأناقة حتى ينسحب متواريا في غمرة ظلام جديد ينقذف فيه الى الشاشة الفضية عالم آخر سحري ومذهل . ربع ساعة من المقدمات الدعائية للأفلام التي ستعرض في قادم الأيام . ثم تحل فترة ( الفرصة ) يليها عرض الفيلم المعروض، فيجد المتفرج نفسه برفقة السندباد على صهوة طائر الرخ وهما يهربان من ملاحقة السايكلوب العملاق الوحيد العين والتي فقدها للتو بعصا طرفها مجبول من نار دسها السندباد في عينه بعد ان أغراه باحتساء نبيذ العنب الذي داسته ارجل الأخير وخمرته ليصبح سببا في هياج الوحش وخلاص السندباد . عوالم سحرية تجعل من دار السينما ( صندوق دنيا ) آخر . وهكذا وفيما كانت الحياة اليومية تسير ببطء في مدينة ريفية صحراوية الأصول في آن معا. كانت حياة اخرى او اشكال متعددة من الحياة تدور فضية ، سوداء أو ملونة على شاشة داخل صندوق ترتفع أضلعه كلما تقدمنا باتجاه الشاشة وكأني بالدنيا قد أولجت في قلب كرة زجاجية يقلّبها مارد من الجن : قصص وحكايات ، قبل وبوكسات ،دموع وضحكات ، حروب ، العاب نارية مطاردات ، رعاة بقر وهنود حمر ، حكايات عشق رومانسية وأخرى تراجيدية .
كان المشهد الذي يعرض بوصة او بضع بوصات من فخذ مارلين مونرو او صدر كلوديا كاردينالي يكفي بوصم الفيلم بعار ( الجرأة ) ولكن هذا مايريده الجمهور لاسيما جمهور الفتيان الشبق المحروم .أليس الأمر كذلك؟ كان ذلك كافيا لجعل تومان يرفع عقيرته ناعتا الفيلم بالإباحية ويكفي لاطلاق عاصفة مبعثها جمهور ( الترسو ) أو جمهور ( ابو أربعين) من التأوهات والصفير والشتائم لعامل مقصورة العرض لأنه في لحظة ايروتيكية حرجة ( عمل ) على اعتام الفيلم وحسبه بعضهم عجّان المشهد وخبازه وبائعه !
سينمات وعروض
سينما (رويال) وهي من اقدم دور السينما في البصرة وتقع في قلب سوق العشار بالقرب من سوق العطارين وقدمت عروضا صامتة كما يبدو في الثلاثينيات من القرن الماضي .
الوطني الصيفي من الافلام التي عرضت على شاشتها الصيفية :
2ـ عرض فيلم ( ام الهند ) على شاشتي الوطني الصيفي والشتوي عام 1959 وحظي باقبال هائل من قبل الجمهور البصري الذي كان جل قوامه من العائلات .
كما عرض فيلم (نهر بلا عودة) بطولة الممثلة الشهيرة مارلين مونرو ( الفيلم عرض مؤخرا على شاشة قناة الديار الفضائية ) وهو من افلام رعاة البقر .وفيلم (نزهة) بطولة الممثل الامريكي وليام هولدن . وكذلك فيلم ( النافذة الخلفيةThe Rear Window ) وهو من افلام التشويق التي اختص بإخراجها المخرج المتميز ( الفريد هتشكوك )
وفيلم ( القطار الأخير ) بطولة ( كيرك دوغلاس و( أنتوني كوين ) اضافة الى فيلم ( الحرب والسلام ) بطولة اودري هيبورن وآخرون . وقد شهدت الداران - الوطني الشتوي والصيفي- عروضا متزامنة لفيلم واحد . ولعل ذلك راجع الى ان مالك الدارين هو مجيد سلومي .
اما سينما ( الوطني الشتوي ) فقد قدمت هي الاخرى مجموعة من الافلام الأجنبية النخبة
مثل :
( لمن تقرع الاجراس ) رواية همنجواي والفيلم من بطولة الممثل العملاق ( كاري كوبر ) ، كما عرض فيلم ( سقوط الامبراطورية الرومانية ) وهو من الافلام التاريخية ، وفيلم ( الفخ ) من بطولة الممثل البريطاني ( اوليفر ريد) مع الممثلة البارعة ( ريتا توشينغهام ) ) . وعموما اختصت كلا الدارين ، ما عدا بعض الاستثناءات في تقديم الافلام الاجنبية لا العربية مثل فيلم ( فاني ) الذي قام ببطولته الممثل الفرنسي الشهير ( موريس شيفالييه ) ،. وقد عرضت دار سينما الوطني الشتوي أيضا فيلم ( المحاكمة ) عن رواية لكافكا وكان ذلك في اواسط الستينيات إضافة إلى عدد كبير من الأفلام الرائعة التي خلبت لب الجمهور لزمن طويل في وقت كان التلفزيون يتسلل على استحياء الى البيوت والمقاهي لتحل الشاشة الصغيرة بديلا عن الشاشة الفضية الكبيرة.
افلام العيد
اختصت سينما الرشيد بعرض افلام منوعة من العربية الى الاجنبية مثلما اختصت بتقديم افلام العيد المقصقصة مثل :
( القرصان الاحمر ) بطولة بيرت لانكستر وافلام ( طرزان ) و لوريل وهاردي وشارلي شابلن وبود ابوت ولو كاستيللو وكانوا نجوم الفيلم الكوميدي ، وقتذاك . لكن سينما الرشيد قدمت ( خلطة) من الافلام الايطالية بدء بافلام ( هرقل الجبار ) بطولة ستيف ريفز وجوليانوجيما ، مثلما قدمت افلاما مصرية مثل ( مراتي مدير عام ) و( البوسطجي ) وسواهما من أفلام عربية مصرية مثلما عرضت افلاما من دول اخرى من شتى انحاء العالم من بينها العراق مثل فيلم ( الحارس ) العراقي . وعلى نفس الغرار نوعت سينما ( اطلس ) عروضها فقدمت افلاما عراقية مثل ( النهر ) عام 1978 وهندية وأجنبية ، غير انها لم ترقَ في نوعية عروضها الى مستويات الافلام التي اختصت كل من سينمات ( الوطني الصيفي والشتوي والحمراء الجديدة الشتوية ) بتقديمها . الفيلم النخبة الوحيد ، ربما ، الذي شاهدته على شاشة ( أطلس ) كان عنوانه (ايفا ) من بطولة الممثلة الفرنسية القديرة ( جان مورو ) وقد تمحور موضوعه حول أغنية عن عويل شجرة الصفصاف الذي كان بمثابة المعادل الموضوعي لشجن امرأة مقهورة .
الحمراء الجديدة الشتوي
والحقيقة انني شاهدت اكبر عدد من الافلام العالمية الرفيعة المستوى على شاشة سينما الحمراء الجديدة الشتوي ، كما سبق وأن نوهت قبل قليل . وها هي مجموعة من الافلام التي شاهدتها على شاشة تلك الدار التي هدمت في زمن ما إبان السبعينيات او الثمانينيات من القرن الماضي ، مع الأسف : ( الفايكنغ ) كيرك دوغلاس وتوني كيرتس ، (آخر شعاع في العالم ) بطولة ( يول برينر ) ،( الهمس الصاخب ) شيرلي ماكلين وجان مورو ، ( انتظر حتى الظلام ) بطولة الممثلة الامريكية ( اودري هيبورن ) ..
(جامع الفراشات) بطولة تيرنس ستامب( الشقة ) جاك ليمون ، (الرولزرويس الصفراء ) ثلاث قصص الان ديلون وآخرون( مدافع نافارون ) عن العمليات الحربية ايام الحرب العالمية الثانية وتدور احداثه في اليونان .وتطول القائمة .
اما سينما الحمراء القديمة الشتوي ( الكرنك فيما بعد ) فعرضت افلاما منوعة متراوحة في الجودة والاداء ، مثل فيلم (زوربا ) بطولة انطوني كوين كما شاهدت افلاما في نفس الدار بعد ان تحول اسمها الى ( الكرنك ) مثل النسخة الروسية من رواية تولستوي ( الحرب والسلام ) وهو انجاز ضخم من انجازات السينما السوفييتية من جزئين ونظرا لطول الفيلم ، وتوزعه على جزئين شاهدت جزء واحدا فقط . كما حضرت فيلم ( الاختيار ) بطولة عزت العلايلي وسعاد حسني اواسط الستينيات .
على شاشة سينما ( شط العرب الصيفي ) شاهدت فيلم ( روبنسون كروزو ) وكذلك فيلم ( سعيد افندي ) الغني عن التعريف .
ومن دور سينما البصرة ( الفيصلية ) التي تقع بالقرب من ملعب الجمهورية . وكذلك سينما (برودواي ) في الزقاق الذي يقع خلف جامع البصرة الكبير والذي تحول اسمها الى سينما( الرافدين ) .
كما ان من دور السينما كل من سينما ( البصرة ) الصيفي ، في موقع عمارة جاسب الحربي حاليا تقابلها - عند الخاصرة - وسينما ( النصر ) . وفي المعقل : سينما ( بورت كلوب ) وسينما ( الميناء الصيفي ) و( الميناء الشتوي ) وفي مبنى المحافظة القديم سينما ( السياب ) التابعة للمؤسسة العامة للسينما والمسرح .
من التألق الى الاندثار
مع غزو التلفزيون وانهماك البلد بحروب مدمرة أصابت روحية المجتمع البصري في نحره ، أخذت دور السينما بالاحتضار واحدة تلو الأخرى . وبقدوم حقبة التسعينيات وصل الحال بدور السينما الى أقصى درجات الانحدار الذوقي فعج ما تبقى من صالات السينما بدخان السيجائر ونداءات باعة ( اللفات ) والمرطبات والروائح الوخمة و تخاطف الجرذان . وقبل مدة مررت بالشارع الذي تقع فيه سينما الرشيد وأطلس فلم أجد المبنيين إنما أبصرت مكانهما عمارتين بطوابق متعددة . وهو المصير نفسه الذي واجهته سينما ( الوطني الشتوي ) حيث شرع بهدمها وهدم المحلات المحيطة بها توطئة لبناء عمارة ، لا ريب . كما تعرضت سينما الوطني الصيفي لمصير مماثل .
بعد تغيير النظام كانت هنالك محاولة يتيمة لم يكتب لها النجاح تمثلت في السعي لإعادة افتتاح سينما ( اطلس ) ولكن هيهات اذ لا يصلح العطار ما افسد الدهر !
ويذلك انطفأ نصف قرن من الأضواء و الأمجاد الفضية. ان دور السينما الوحيدة المتبقية هي الآن مشيدة في رؤوس المخضرمين من أبناء المدينة يقتاتون عليها كذكريات عبرت افق أخيلتهم في أزمنة راحت وولت .
وقد صدق من قال :
الذكريات صدى السنين الحاكي !
834 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع