ذاكرة المدينة /الاعدادية المركزية .. تاريخ حافل بالوجوه
المستلات
1ـ ما هي إلا فترة قصيرة لا تتجاوز الشهر حتى تيقنت انني وقعت في مصيدة اسمها الموضوعات العلمية التي لم أكن افقه منها شيئا
2ـ من بين المدرسين ممن حظيت بتدريسهم معلمي الكبير استاذ مادة اللغة العربية الذي سبق وأن التقيته في متوسطة التحرير وكان له الفضل الأكبر في اندفاعتي الادبية كاظم نعمة التميمي
محمد سهيل احمد
• اقترنت الإعدادية المركزية في ذاكرتي مبنى وساحة منذ صغر سني ، اذ مازلت اذكر يوم اصطحبتني عمتي اليها لمشاهدة عرض لأحد حواة السيرك في ساحتها مما أثار دهشتي ورعبي في آن معا . ثم التحقت بها طالبا في المرحلة الاعدادية أواسط الستينات وهي الفترة التي سأظل محتفظا بالكثير من تفاصيلها لا سيما تلك المتعلقة بمدرسيها ممن تركوا في وجداني اكثر الذاكرات اخضرارأ .
من الأدبي الى العلمي
التحقت بالقسم الأدبي لا عن سابق وعي وإدراك لملكاتي .
كل ما اعرفه انني كنت اميل للموضوعات الأدبية المشحونة بالعاطفة والخيال. ويبدو انني التحقت بالقسم العلمي كنتيجة لقصور في الوعي بميولي .وما هي إلا فترة قصيرة لا تتجاوز الشهر حتى تيقنت انني وقعت في مصيدة اسمها الموضوعات العلمية التي لم أكن افقه منها شيئا .ومن حسن حظي إنني خضت امتحانات مادة المثلثات والرياضيات التي أجراها أستاذنا الراحل جعفر يسر الصيوان في وقت مبكر لتجيء النتيجة صادمة لتكملها مادة الفيزياء والرياضيات لأجد نفسي بين الصفر والعشر من الدرجات في المواد المذكورة أعلاه .تلك الوهدة لم يخرجني منها الا مدرس مادة الكيمياء الاستاذ المرح الراحل فؤاد الخفاجي فقد كنت أحضر إحدى المحاضرات التي وجدتها باعثة على السأم لعدم فهمي لها ، حيث اعلن بصوته المميز :
ــ من يرغب في الانتقال الى القسم الأدبي فليتبعني ..
كانت تلك فرصتي الذهبية التي كدت اضيعها ،اذ كان الاستاذ المعلن على وشك مغادرة الصف حين رفعت يدي بعد طول تردد ، وما ان غادرت الصف بمعيته بخطى وجلة حتى نلت منه دفعة باليد تلتها رفسة بارعة بالقدم وهو يتضاحك :
ــ أأنت اخرس يا محمد ؟ !
فيما بعد عرفت سبب ( ميانته ) وسر ركلته فقد عادت بي الذاكرة الى أيام صباي حيث كنت احيا في بيت ابن عم لوالدي انشأ ذات مرة معملا للألبان ليكون الاستاذ فؤاد مديرا لحساباته . لكنني مع الايام نسيت اين عرفت ذلك المدرس حتى برقت ذاكرتي بمكتب ذلك المعمل اذ اعتاد عمي ان يوصيني بالذهاب الى ( عموفؤاد ) من اجل تسلم يوميتي التي لم تكن تتجاوز العشرة فلوس . وهكذا صرت واحدا من طلاب القسم الادبي ليقوم هو ــ رحمه الله ــ بتدريسنا مادة الكيمياء باسلوبه المحبب المبسط المطعم ببعض المفردات العامية .
الصف الرابع الادبي
كان صفنا الرابع الأدبي يقع ضمن الجناح الموازي لشارع الاعدادية الخلفي المؤدي لمدرسة الجمهورية النموذجية . تلقيت كنوز الادب والعلم على يد كوكبة من المدرسين اذكر منهم مدرس مادة اللغة الانكليزية خالد محمد صابر شقيق مدير الاعدادية المرهوب الجانب عبد عبد الجبار محمد صابر والذي اعتاد طلبة الاعدادية ان يسمونه ( فرانكنشتاين ) ، مع أنني لم اجده مخيفا بتلك الصورة التي رسمتها مخيلة مجموعة من فتيان كانوا في سن المراهقة ! كان الاستاذ خالد هادئ الطبع ذا سلوك عالي التهذيب ،
كما درسنا استاذ مادة العلوم الاستاذ شاكر حمودي بصوته الرخيم الآسر وكاريزما شكله الجميل وهي مواصفات كانت تجعل من مادته العلمية محببة وسهلة الهضم
ولكنه في عام 1977 ــ وقتها لم اكن في القطر ــ تعرض مع مجموعة منزهة من مدرسي الاعدادية الى الاستجواب اثر حدوث فضيحة تسرب الاسئلة . وكان آخر لقاء لي مع الاستاذ شاكر في العبدلي ايام الثمانينات اثناء توجهه للعمل في الامارات ، ولكنني وقبل ايام فوجئت بصورة له في مدينة ما بخارج العراق فشعرت بسرور كبير لتلك المصادفة .
من بين مَن علموني استاذ الاجتماعيات عبد الامير دكسن ، وابراهيم الشرقاوي القادم من مصر ، وعبد اللطيف الدليشي لمادة التربية الاسلامية والاستاذ قصي سالم علوان لمادة اللغة العربية وفؤاد الخفاجي لمادة الكيمياء كما اسلف ذكره ، اضافة الى الاستاذ عبد الله الخطيب والرائع الفنان التشكيلي محمد راضي عبد الله.
الخامس الادبي .. السنة الأخيرة
من بين المدرسين ممن حظيت بتدريسهم معلمي الكبير استاذ مادة اللغة العربية الذي سبق وأن التقيته في متوسطة التحرير وكان له الفضل الأكبر في اندفاعتي الادبية كاظم نعمة التميمي الذي استأنف عنايته الفائقة بي تلميذا وقلما ادبيا واعدا . اما مدرس مادة اللغة الانكليزية عبد الجبار الملاح فكان من خيرة التربويين من ذوي المقدرة في مجال التدريس .
واذكر ان درجاتي في مادة اللغة الانكليزية ارتفعت بشكل ملموس بفضل رعايته الابوية لي .ومن بين ما اذكره موقف غير قابل للنسيان للملاح ففي اليوم الاول لتعييني مدرسا لمادة اللغة الانكليزية باعدادية العشار ( المركزية ) استقبلني استقبالا حافلا وبالأحضان ما بدد مشاعر القلق والوجل التي رافقتني وانا اعبر بوابة مدرستي لا كطالب هذه المرة بل كمدرس ! ولم يكن ذلك الاهتمام الاول من قبله اذ اذكر انه خرج ذات يوم لشراء جريدة من محل الراحل عبد هزاع ليقوم باستدعائي لغرفة الادارة مشيدا بالتلميذ الصغير الذي تمكن من نشر قصيدة مترجمة عن الانكليزية نشرت في احدى صحفنا المحلية .
عديدة هي ذكريات الاعدادية المركزية ومعظمها خضراء كسعف البرحي .وما زلت اذكر وجوها من زملاءالسنتين اللتين قضيتهما في جناحي الاعدادية اذكر من بينها صديق الطفولة والدراسة المحامي سليم عناد والراحل عامر جدوع الذي سيصبح فيما بعد مديرا لتجنيد البصرة ، ودارا نور الدين بهاءالدين الذي التحق بالاعدادية بحكم عمل ابيه الكردي الجذور وكان مهذبا كثير المزاح انما باحتشام ، اضافة الى اسماء اخرى مثل الشاعر والمربي الصديق عبد العزيز عسير والقاضي موفق عبد الزهرة الديوان والمربي الفاضل ابن محلتي عبد الرزاق الاسدي وكوكبة اخرى من الاحياء والراحلين .
ختاما اروي هذه الطرفة التي جادت بها قريحة استاذ الكيمياء فؤاد الخفاجي ومفادها ان احد طلبة القسم الادبي وبعد تخرجه اضطرللعمل بصفة اسد في سيرك المدينة ، وفي يوم من الايام وبعد ان ارتدى جلد الاسد ودخل القفص فوجيء بأسد حقيقي داخل القفص فارتعدت فرائصه رعبا غيران ذلك الاسد تقدم نحوه وهمس في اذنه :
ــ لا تخف .. انا مثلك متخرج من القسم الادبي !
الحلقة الثانية
مستلات
* طول تقليبي لدقائق الامور قادني الى بضع حقائق أليمة تتلخص في ان تعييني في هذه المدرسة كان شكلا من اشكال العقوبة *
* في تلك الفترة المتفجرة سياسيا عملت كمدرس في اعدادية كان الفارق بيني وبين طلابها لا يتجاوز عاما او بضعة أعوام*
• في الحلقة الاولى من هذا الاستذكار تحدثت عن الفترة الزاهرة التي قضيتها في الستينات كطالب من طلبة الاعدادية المركزية مستعيدا وجوه من تعلمت على ايديهم مواقف ودروسا معرفية. وفي هذه الحلقة سأتطرق الى فصل آخر من فصول هذا الصرح التعليمي العريق بصفتي مدرسا لمادة اللغة الانكليزية في اعدادية العشار في الفترة مابين عامي 1976 ــ 1976.
مبنى لإعداديتين
في الحادي والثلاثين من شهر كانون الثاني 1970دخلت مبنى الاعدادية المركزية لا كطالب بل كمدرس في اعدادية العشار بقسمها الادبي الذي يتقاسم المبنى مع الاعدادية الاصل. ما اذكره انني لقيت مجموعة من المدرسين كان بعضهم مدرسا لي قبل اربع سنوات قضيتها في جامعة البصرة مثل المرحوم عبد الله الخطيب استاذ مادة التاريخ وقصي سالم علوان استاذي في الاعدادية والكلية ومصطفى النجار استاذ مادة الجغرافية ممن رحبوا بي بل انني وجدت استاذ اللغة الانكليزية عبد الجبار الملاح الذي رحب بي ترحيبا غير اعتيادي مقدما اياي لكادر مدرسي المدرسة ما منحني جرعة من الثبات والتآلف مع الجو التدريسي الجديد. غير ان الميدان الحقيقي الذي سيكون محكا ومعيارا لترسيخ اسمي مادة وشخصية كان الصف المدرسي. وربما سبق لي التدريس في متوسطة المتنبي بصفة محاضر ولفترة قصيرة لكن ان افتتح مسيرتي التدريسية في كبرى اعداديات المدينة بشذرات من روحية طلابية بقيت عالقة في اهابي كان بمثابة امتحان عسير لم اكن مهيأَ َله.
مكافأة أم عقوبة ؟
كان العام الدراسي الاول او بالأحرى النصف الثاني منه الفترة الاشد ايلاما بالنسبة لي. كان يفترض ان انسب كمعيد في كلية التربية تمهيدا لإكمال دراساتي العليا وهو التقليد المتبع مع من احرزوا معدلات متقدمة في نتيجة العامين الاخيرين بكلية التربية. لقد كنت الاول على دفعتي بمعدل 86 للسنة الاخيرة و81 لمعدل مرحتي الثالث والرابع. قد يكون تعييني كمدرس في كبرى مدارس المدينة لأي من خريجي تلك السنة ممن عينوا في بلدات بعيدة عن مركز المدينة كالفاو ونواحي العمارة وسوق الشيوخ. لقد بدا ان ذلك التعيين في مركز المدينة كان مكافأة لي على نجاحي المتميز، غير ان طول تقليبي لدقائق الامور قادني الى بضع حقائق اليمة تتلخص في ان تعييني ذاك كان شكلا من اشكال العقوبة . لقد كنت ضحية لصراع سياسي محلي لم يكن لي فيه ناقة ولا جمل.وما اذكره انني وقبيل تخرجي بأسابيع عرض علي الانتماء للحزب الذي ستكون له ادارة دفة البلد في قادم الأيام غير انني اعتذرت لإدراكي التام بأنني لا افقه في السياسة الا عمومياتها، بينما فسر الطرف الذي عرض علي فكرة الانتماء بأنه تخندق لصالح جهة دون اخرى!
ومما فهمته فيما بعد ان ذلك الطرف ابدى امتعاضا من مسألة اعتذاري ما قاده الى حرماني من اية امتيازات مطروحة اضافة الى تعييني في اعدادية العشار التي عرف عن عدد كبير من مدرسيها ميلهم الى الفكر اليساري .أما في حالتي فيبدو انني قرئت على نحو مغلوط وانني ادرجت ضمن قائمة (المغضوب عليهم) وزج بي في منطقة لم تكن من صميم اهتماماتي المتمثلة في الترجمة وكتابة القصص. وهكذا جرى اتهامي على الشبهة من لدن اوساط لا تميز ما بين الفكر الوجودي والفكر الماركسي بطروحاته المعروفة!
أجيال من ذهب
في تلك الفترة الملتهبة سياسيا عملت كمدرس في اعدادية كان الفارق في العمر بيني وبين طلابها لا يتجاوز عاما او ثلاثة اعوام ــ واحيانا كان من طلابي من هم في سني ـ ما اتاح لي فرصة معايشة احتياجات الطلبة، فمنذ الدرس الاول وجدت امامي مجاميع طلابية ساخطة على (قسوة) هذا المدرس او ذاك لاسيما في عملية التقييم بالدرجات. كان الاستاذ حميد عباوي مدرس مادة اللغة الانكليزية قاسيا شحيحا في الدرجات ما ادى الى رسوب العديد من الطلاب. ربما لم اكن مكتنزا على الصعيد المهني بحكم حداثة عهدي بالتدريس،غير انني وظفت وبنجاح العامل النفسي كمحصلة للمواد السايكولوجية التي درسناها وبشكل مكثف في الكلية. المهم انني في غضون فترة قصيرة من الزمن انهيت عقدة الرسوب لدى معظم الطلبة، ما اكسبني قبولا لديهم سيتعمق الى واحدة من امتن واجمل العلاقات بين طالب ومدرس،على مرأى ومسمع من زميلي المتميز غيظا الاستاذ القدير والمتصلب حميد عباوي! ومع الايام ولغاية اليوم ستتعزز صلة الطالب بالمدرس متجلية في السنوات الست القادمة التي سبقت رحيلي للكويت .وما زلت على اتصال بالعديد من تلك النماذج الطيبة داخل وخارج العراق مستذكرا بأسى عميق ممن افقدتهم مطحنة الحروب ارواحهم الغضة ، ممن يستحقون وبامتياز تسمية الاجيال الذهبية.
كادر تدريسي متميز
اما ملاك اعدادية العشار المركزية فلم يقل تميزا عن طلابها. اذكر من بينهم المرحوم حميد الجرص استاذ اللغة العربية ولورنس ججو للغة الانكليزية والشاعر الراحل عبدالخالق محمود للغة العربية وغازي عبد الباقي لمادة اللغة الانكليزية وعبد الله محمد للفيزياء وعبد الصاحب عبود للرياضيات وياسين المويل والمرحوم هشام الشاوي للكيمياء وخالد البسام وعادل عمران لمادة الاحياء وعبد الباقي الجاسم لمادة الاقتصاد وناظم نعيم لمادة التاريخ والمرحوم عبد الله السلمان لمادة الجغرافيا وجورج شعيا شيخ مدرسي الرياضيات والمرحوم وفيق الحمداني للغة العربية وخالد اندريه للكيمياء ويعقوب عبد الرزاق للتربية البدنية وفهد محسن فرحان الاكاديمي بكلية الاداب للغة العربية اضافة الى الكوادر الادارية متمثلة في غازي الديراوي وعبد الكريم المزيدي والاستاذ فتحي ممن تعاقبوا على ادارة الاعدادية. وكذلك المرحوم الاستاذ ناصر الزبيدي وخالد البسام كمعاونين وآخرون لا تسعفني ذاكرتي في امر استذكارهم
وجوه تربوية قد لا تتكرر على ذلك النحو التراكمي . امد الله في اعمار الباقين واسبغ رحمته على الميتين .
اشارتان
* ثمة لقاءات وأوجه تعاون كانت تتم بين ملاكي الاعدادية المركزية الاصل للصفوف العلمية وملاك الاعدادية الضيف، اعداديتنا، مثل اللقاءات التي كانت تجمعني بالرائدين الراحلين محمود عبد الوهاب ومحمود البريكان وغيرهما.
** انفصلت اعدادية العشار عن الاعدادية المركزية اواخر السبعينات، في تقديري حيث احتلت المبنى المقابل لسجن الليث الابيض السئ الصيت.
*** من بين مهازل واقعنا الراحل قيام بعض الافراد بالمطالبة بالأرض المقامة عليها الاعدادية بمبناها وساحتها. والكرة الآن في ملعب الجهات المعنية لحسم هذا الموضوع لصالح الحق التاريخي لأبناء المدينة بهذا الصرح التلليمي العريق.
813 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع