القرية العائمة في الريف الأنجليزي
بقلم الدكتور سعد العبيدي / لندن
التأم شمل العائلة كاملة لأول مره بعد سنوات انقطاع فرضها تبعثر المكان، وزيّدت الجائحة طول المسافة الزمنية بين لقاء ولقاء،
وكان ذلك على طاولة غداء تغطي وسطها صينية دولمة بغدادية، وتتزاحم على أطرافها أسياخ الكباب مع أصناف أخرى.
رجعنا في الحديث على أعتابها الى الماضي البعيد، الى خزين ذكريات، عن الريف والقرية الجمجمة والمدينة الحلة، وبساتين نخيل كانت تزيّن شواطئ نهرها الجاري ماءً زلالاً، لمسافة تبدأ من الحامية العسكرية، حتى حدود بابل الأثرية، وتمتد أبعد من ذلك بكثير في الجانب المقابل، واحة خضراء تشعر الناظر اليها من على التل القائم فوقه مرقد الامام عمران متعة نظر الى لوحة، وكأنها رسمت من فنان يعلو شأنه شأن بيكاسو في الرسم، أو سجادة حيكت من خيوط حرير أخضر. التهمت العثة البشرية تلك السجادة الجميلة، لم تبقِ منها الا بعض خيوط متهرئة غيّرَ الإهمال لون القليل المتبقي الى ترابي أصفر، واقتلع التجاوز الملعون نخيل بساتينها العامرة لمئات السنين، فبان النهر وسطها مخلوق عار، تساقط شعر رأسه، ونُزعت عن جسده الأوصال، وبانت القرية عجوزاً، يفتك القيظ بحالها والكهرباء.
قالت الابنة في كلام صريح، خال من اللف والدوران، أنتم الآباء تتمسكون بالماضي، تعيشونه وكأنه الحاضر، تعودون من خلاله الى ريف لم يعد في الواقع ريف، تمسككم هذا في الأصل خطأ بنيوي ناجم عن تقادم الزمن الحتمي، وهجر المكان، وهميٌ إذاً قد يصيبكم بالدوار الزمني، وقد يتسبب لمزاجكم قدراً من الاكتئاب، وبدلاً عن البقاء في طياته، واجترار الأفكار، ونبش الخيالات وصور تشوهت،
سأريكم هذه المرة بعض من الريف الإنجليزي، وقرية مائية أعيش وسطها، ويعش مثلي آخرون كثر في هذه البلاد، عوائل أخذت من قوارب مختلفة الأحجام بيوتاً لها، رست بهدوء وسط البحيرة، كفرشام (Caversham) وعلى أطرافها. توقفت عن الكلام لحظة وأضافت: لقد وجدت في العيش بين سكانها القادمين من أقاصي الأرض، ومختلف الأقوام والأديان، إلفةً، ووقع حياة، وتكافل، تفوق قيمها ما موجود عند البعض من أهل اليابسة، وهم يشكون العزلة، وتمادي الذهاب في دروب الخصوصية حد الافتراق، وفي نهاية الحديث تحدد اليوم والساعة، وسبيل الوصول سيارة تقل بعضاً،
وبعضاً يأخذ القطار، من محطة بادنگتن وسط لندن، وبعضاً آخراً يأخذ النازل الى لندن من مدينة مارلو، يصلان معاً في توقيت مقارب الى المحطة الرئيسية لمدينة ردينگ (ٍReading) تلك المدينة القائمة في الغرب، ومنها الى القرية الراقدة فوق الماء.
محطة القطار اللندنية بادنگتن مزدحمة قبل الظهر، جماعة تمشي باتجاه رصيف قطار متجه صوب الشمال، وأخرى تغادر قطاراً قادماً من جهة الغرب، وثالثة تجري سريعاً باتجاه القطار الذاهب الى المطار، ومثلهم واقفون على الشاشات لمتابعة قطاراتهم حسب التوقيت ورقم الرصيف، وبعض متفرقة يلملمون حاجياتهم، يُقبِلونَ بعضهم بعضاً مودعين، أو مستقبلين، وآخرين يفترشون ركناً من الأرض مكسي بالمرمر، يأخذون قسطاً من الراحة قبل الاتكال.
حان وقت المغادرة، التقت عقارب الساعة عند الحادية عشرة، تحرك القطار، سار بطيئاً في بداية المشوار، اعتذر سائقه عن تأخير يحصل لوجود إشارات حمراء تجبره على البطء والوقوف في بعض الأحيان،
لكنه وحال الخروج من مدينة لندن عاد سريعاً في عبوره حقول ومناطق تغطيها أشجار، وجسور على أنهر وسواقٍ، وصل في نهاية مطافها بعد خمس دقائق من الوقت المحدد، فعاود سائقه الاعتذار، بينما وصل قطار بامبري وفرع من العائلة يسكنها في الوقت المحدد، وكما هو مطلوب، ومنها محطة تحركت السيارة صوب القرية العائمة حسب الاتفاق، سارت وسط مدينة ردينگ غير المزدحمة، دقائق عبرت خلالها جسراً حديدياً، مرت جوار جامعة من اثنين يتنافسان على جودة التعليم، يعززان مركز هذه المدينة التجاري المعروف منذ القرون الوسطى، أخذت من بعدها طريقاً ريفياً، وسط حقول قمح أقترب منها الحصاد، وحقول أبقار، وغابة. خرجت من ذاك الطريق لتأخذ آخراً فرعياً يوصل الى البحيرة، وسياج حديدي مشبك وسطه باب تفتح بأرقام، تفضي الى طريق خشبي فوق الماء، ومرساً طويلاً بفروع متعددة على الجانبين.
………
لامستْ أطراف أناملها السمراء أربعة أرقام من لوحة المفاتيح الجانبية، انفتحت إثرها الباب الحديدي، باباً هي الوحيدة لهذه القرية العائمة، تقدمتنا واثقة الى ممر خشبي فيه انحدار تدريجي من اليابسة الى آخر يطفو على الماء، يغطي النظر منه غالب البحيرة وأجزاء من أطرافها الثلاثة.
تم التوقف الزاماً للتمعن بتلك القوارب الراسية متعددة الأشكال، وبالطبيعة المحيطة بها، وما تخفيه من أسرار، عجز الانسان عن كشف بعض خباياها، وعجز كذلك في صياغات التعبير عن بعض معالم جمالها. جمالُ هذه البحيرة في عذوبة مياهها، وتناسق الألوان، وفي نسمات هواء تمر منعشة طوال الصيف، أما أسرارها فتكمن حسب الرأي السائد بين سكانها في استحالة تعب العين وان أطالت النظر الى مياهها داكنة الخضرة، وفي إصرار الأوز مشاركة السكان عيشهم وسط الماء، وفي تململ قواربها طوال الليل اهتزازاً غريباً يشعر النائم من حيث لا يعلم، وكأنه باق في أمان الرحم المقدس لأمه الحنون.
سار الركب على الممر الخشبي الطافي خطوات أخر، ومن بعدها مائة أخر، بان القارب المقصود (Emma)، راسٍ بين قوارب تحيط به، وتقابله أخرى مرصوفة على الشاكلة ذاتها، تقاربه في الشبه، أو تصغره في الحجم، قليلة جداً تلك التي تكبره، فطوله، أو النزال بلغة الدلالين البغداديين ثمانية عشر متراً والجبهة ثلاثة أمتار ونصف جعلاه قارباً قياسياً لعائلة صغيرة، أغلب العوائل هنا صغيرة، قوامها طفل واحد أو بلا أطفال، كأن من يعيش وسط الماء، له فلسفة خاصة لما يتعلق بالأطفال.
قالت عند بلوغ القارب، عليكم توخي الحذر في الدخول، فتصميم الباب يقتضي الانحناء قليلاً، ثلاثة سلالم، تكفي الوصول الى قاع تؤشر على الشمال مطبخاً أنيقاً، تجاوره صالة جلوس، ومنها الى ممر يفضي الى غرفتي نوم وحمام، ومقدمة له صممت لمن يهوى الجلوس في الهواء الطلق، على يساره قارب بالحجم ذاته يسكنه عازب، إنجليزي يتجاوز الثمانين، وعلى اليمين سيدة اسبانية خمسينية أصرت على البقاء في قاربها بعد وفاة زوجها البرتغالي من أشهر مضت.
انتهت فترة الدهشة والتعرف على القارب البيت في خمس دقائق، بدأ بعد انتهائها السعي الحثيث لإشباع الشباب حاجتهم للاكتشاف، توزعوا بين أمكنته المتعددة، وقف ألوند على السطح، متأملاً ذاك الشريان الذي يغذي البحيرة بالماء، وقطيع أوز حط على سطحها تواً، وتوجه ألمير الى المقدمة، وقف على حافتها كمن يتخيل حاله قبطاناً في أعالي البحار، هو هكذا بطبعه يعيش نصف الوقت المتاح خيالات يكتب قسماً منها على ورق يصحبه في الترحال، بينما جلس الباقون حول طاولة مستطيلة وضعت عليها مقبلات تصبيرة حتى حلول الغداء، كانت المشكلة الأساسية في الغداء عدد الملاعق والشوك، إذ لا يكفي المتيسر منها عشر أنفار، فكان الحل توافقياً اكتفاء الواحد بملعقة أو شوكة، وحال اكتمال المائدة رز ومشويات بأنواع تحرك الجين العراقي، إذ تناولت صحناً ملأته من كل الأصناف، ناولته جورج جارها الثمانيني، بعد تيقنها دخول روائح مطبخها قاربه الملاصق دونما استئذان، وعلى المائدة أيضاً اقترحت القيام بجولة نهرية نزولاً عند رغبة شباب الفرع الألماني من العائلة.
تحرك القارب بهدوء بعد فك الاشتباك مع حبال تربطه بمقابض المرسى، اتجه الى الامام دون الحاجة الى مناورة في الخروج، انساب على الماء بسرعة تحسب قليلة، هكذا هي السرع محددة بالنسبة الى القوارب المصممة للسكن، دار نصف دورة وسط البحيرة، اتجه بعدها الى نهر التَمِزْ (Thames)، ذلك النهر الذي يعده السكان خالداً يغذي البحيرة ومثيلاتها مياهً عذبة طوال الصيف والشتاء، يكبرون فيه الامتداد ثلاثمائة وست وأربعون كيلومتراً، ومروراً في مدينتي ردينگ ولندن ومصب على بحر الشمال، دخل اليه القارب واثقاً من قدرته، أبطئ السرعة فبانت على اليمين أشجار تشبه الصفصاف تتدلى أغصانها في الماء كما كانت مثيلاتها تتدلى على مياه شط الحلة أيام زمان، وبيوت متفرقة هي الأجمل في الاطلالة والتصميم، وعلى الشمال متنزهات وسوح لعب للشباب، وممر لهواة الجري، ومحل للتسوق أعد خصيصاً لأهل القوارب والبيوت المتشاطئة، ومراسٍ لقوارب أخرى فضل أصحابها أراض لهم على النهر يمتلكونها مراسٍ تخصهم، بينما يدفع ساكني البحيرة أجرة رسو مع الخدمات تصل الى ما يقارب تسعمائة دولار في الشهر.
بلغ القارب ساعته الأولى ابحاراً، وصل سداً قائماً على المجرى، فأدار وجهته عائداً، وفي طريق العودة قدمت ايجازاً عن النهر في هذه المنطقة بالذات، قالت:
تجري في مياهه أنشطة رياضية، وسباقات للقوارب والتجديف، واحتفالات، عرف بها منذ مئات السنين، جعلته نهراً خالداً بحق، وجعلت المبحرين وسطه لا يملون الإبحار، وحال اكتمال الايجاز، وصل القارب مرساه، بمناورة رجوع تطلبت مهارة وشد انتباه، قالت نختمها حفلاً بسيطاً للشاي، بدأت بعد ختامه تحضيرات العودة فريقين، وقفا خارج الباب، رفع الجميع أياديهم في دعاوى اللقاء بموعد تمنوا أن لا يكون بعيداً.
.........
318 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع