خزين ذاكرتي وطريف الحكايات /دوه البرغوث صيني
بقلم لواء الشرطة الحقوقي
محي الدين محمد يونس
في ستينيات القرن الماضي وعندما كنت في مرحلة الفتوة والشباب كانت تستهويني ممارسة هواية التعارف وجمع الطوابع البريدية ومن أجل ممارسة الهوايتين المذكورتين كنت أنشر اسمي في المجلات المتداولة في تلك الفترة منها العراقية مثل مجلتي (الفكاهة) و (المتفرج) واللبنانية (الموعد) و (العروسة) و (الشبكة) حيث كانت تخصص الصفحات الأخيرة لنشر أسماء هواة التعارف والهوايات الأخرى التي كانوا يمارسونها وبما أن كتاباتي تتصف بالصراحة وعدم اغفال الحقائق حتى لو شكلت مؤشراً سلبياً على تصرفي من ذلك قيامي وأنا في تلك المرحلة من عمري بنشر اسم وهمي لفتاة في احدى المجلات اللبنانية
هواياتها نفس هواياتي ولا يمكن أن أنسى ذلك الاسم (فوزية محمد خضر) على ان يتم مراسلتها عن طريقي بواسطة عنواني حيث لم تمض إلا أيام معدودة وانهالت علي مئات الرسائل من مختلف الدول العربية ومن المحافظات العراقية وفيها مختلف العروض والطلبات للتعارف وتبادل الطوابع وبعضها يتضمن عروض بطلب الزواج من الآنسة (فوزية) المهم استطعت الحصول على عدد لا بأس به من الطوابع البريدية الملصقة على أغلفة الرسائل المرسلة إلى (فوزية) عن طريقي ولمختلف الدول العربية ولا زلت احتفظ بمجموعة كبيرة من الطوابع تمثل مختلف دول العالم ولفترات تاريخية وأنظمة حكم مختلفة, والشيء الجدير بالذكر هو انحسار أعداد المهتمين في هواية جمع وتبادل الطوابع تزامناً مع ظهور وسائل اتصالات عديدة واكثر تطوراً من حيث السرعة والأمان والكلفة من وسيلة البريد القديمة واستخداماته.
طوابع بريدية
ممارستي لهذه الهواية جعلتني كثير التردد على دائرة البريد في المنطقة التي كنا نسكنها وهي مدينة الثورة والتي أسسها رئيس الوزراء العراقي (اللواء عبد الكريم قاسم) في عام 1961 وهي تجمع سكني كبير استحدث من خلال توزيع الأراضي على ساكني مناطق الشاكرية وخلف السدة في بيوت الطين والقصب وسعف النخيل, وتجدر الإشارة إلى انه بعد انقلاب 8 شباط 1963 تم تغيير اسم المدينة المذكورة إلى حي الرافدين وفي فترة لاحقة جرى إعادة تسميتها (مدينة الثورة) ولحين استلام الرئيس العراقي (صدام حسين) لزمام رئاسة العراق في عام 1979 حيث تم تسميتها باسمه لغاية دخول القوات الأمريكية والقوات المتحالفة معها إلى العراق في عام 2003 حيث جرى تسميتها (مدينة الصدر) ولا زالت.
كنت اتبادل الرسائل مع الكثيرين من الشباب الذين يماثلونني في عمري وهواياتي وكان من نتيجة ترددي على دائرة البريد نشوء علاقة صداقة بيني وبين مديرها (محسن الحلبي) وباقي موظفي تلك الدائرة المعدودين ومن ضمنهم موزع البريد (حمودي) والذي كان شخصاً تنقصه الصراحة والجدية في عمله وكثيراً ما كان يوبخه مديره عندما كان يقصر في أداء عمله، كثرت الشكاوى ضده وراجع العديد من المواطنين مدير الدائرة المذكورة وهم يشكون عدم استلامهم لرسائلهم التي أرسلت اليهم من قبل أقربائهم وأصدقائهم حيث كانت الرسائل في ذلك الزمن هي الوسيلة الرئيسية إن لم نقل الوحيدة للتواصل بين الناس في داخل العراق وخارجه وكان الغالبية من هؤلاء من منتسبي الجيش العراقي وعوائلهم من سكنة المدينة المذكورة وكانت الحرب مستعرة في شمال العراق بين الجيش العراقي والحركة الكوردية وكانت الرسائل البريدية أداة التواصل بين الطرفين.
مدينة الثورة أو مدينة الصدر
خوفاً من المسؤولية اضطر مدير الدائرة إلى اخبار ومراجعة دائرة الشرطة في المنطقة للتحقيق مع المذكور والذي اعترف نتيجة التحقيق معه على الطريقة العراقية وأفاد بأنه كان يتعاجز في الكثير من الأحيان في توزيع الرسائل إلى مرسليها لكثرتها, وعندما كان يمر فوق أحد جسور قناة الجيش بدراجته الهوائية المخصصة له من قبل الدائرة لغرض توزيع البريد وأضاف بأنه كان يقف فوق الجسر ويلقي بقسم من محتويات البريد الذي يحمله في مياه القناة , وكانت في ذلك الوقت أكثر جرياناً والمشروع في مجمله غاية في التنظيم والجمال وليس كما هو الحال في الوقت الحاضر حيث تنتشر الأوساخ والقاذورات في مجراه وعلى جوانبه من مصدر القناة على نهر دجلة في شمال بغداد ولغاية المصب في جنوب بغداد في نهر ديالى بالرغم من تخصيص ميزانية خيالية بدعوى إعماره وتطويره واستقرار هذه التخصيصات المالية في جيوب الفاسدين.
ساعي بريد في بغداد يوزع الرسائل
كانت العوائل البغدادية تجتمع في حدائق قناة الجيش الواسعة لقضاء ألطف وأطيب الأوقات وكنت من المواظبين في التواجد فيها من أجل الدراسة والترفيه عن نفسي مع زملائي أبناء منطقتي...
بعد فترة طلب مني زميلي (محسن الحلبي) مرافقته لزيارة (حمودي) في مركز الشرطة الموقوف فيه لكونه مديره وكوني على علاقة معرفة به من خلال عمله وترددي على دائرة البريد، زرناه ونحن نحمل له بعض الطعام والسكائر وبعد السلام والسؤال عن الأحوال ونتائج التحقيق عاتبناه على تصرفاته التي أوصلته إلى هذه الحال والمكان وبقاء عائلته المكونة من زوجته وأطفاله الخمسة بدون معيل.
صورة كاتب المقال في حدائق قناة الجيش مع صديقين عام ١٩٦٦
أبدى أسفه وندمه على تصرفاته ومصيره وعاهدنا على اصلاح سلوكه وترك السلوك غير السوي الذي اعتاد عليه من خلال الاختلاط برفاق السوء والسهر والادمان على شرب المسكرات وتركه لعائلته دون رعاية واهتمام وبأنه سيصبح إنساناً آخر عندما يحالفه الحظ والنجاة من هذه الورطة التي أوقع نفسه فيها بأقل الخسائر, ثم تحدث لنا عن بعض تصرفاته التي تنطوي على سلوك الغش والخديعة ومنها هذه الحكاية الطريفة قائلاً:
في صباح أحد الأيام وكنت نائماً في داري وإذا بزوجتي توقظني وهي تصرخ وتردد : ((گوم ما بيك خير الساعة عشرة الصبح وأنت نايم واليوم عرفات وباچر عيد وجهالك بدون مصرف وعيدية وملابس ما تستحي على نفسك)).
أضاف أثرت كلمات زوجتي في مشاعري وجعلتني أشعر بالخجل من وضعي وإهمالي لواجباتي العائلية تجاه زوجتي وأطفالي وعلامات البؤس والعوز بادية عليهم, نهضت على الفور وارتديت ملابسي وانا أفكر وأخطط في كيفية الحصول على مبلغ من المال لتدارك هذه النواقص وعلى الفور تفتق ذهني على فكرة جهنمية بدأت على الفور في تنفيذها والشروع في تحضير مستلزماتها والكلام لا يزال لـ (حمودي) حيث يذكر ... خرجت من داري وتوجهت الى احدى الأزقة القريبة ووقفت عند إحدى الدور قيد الإنشاء وأمامه كمية من المواد الإنشائية اخترت منها عدداً من قطع الطابوق من النوع الذي يسمى الجمهوري كما اشتريت كمية لا بأس بها من قناني البنسلين الصغيرة الفارغة المستعملة من امام مستشفى المجيدية وموقعها بجانب مدينة الطب الحالية ومبردين وعدت إلى داري وشكلت فريق عمل من أفراد عائلتي حيث طلبت من البعض غسل وتنظيف قناني البنسلين واثنين من أولادي وأنا معهم في برد الطابوق واستخراج ترابها الناعم الأصفر واملاء القناني بها وزوجتي تلاحظ ما نقوم به وهي مندهشة وتسألني : (( ولك حمودي شنو اشد تسوي ... وصخت البيت ... تعبت الجهال))
أجبتها: ((خلينا نشتغل يا مرة... مكان ما تجين تساعدينا))
بعد عمل متواصل لمدة ساعتين حصلت على أكثر من خمسمائة قنينة مملوءة بالتراب الناعم الناتج عن برد الطابوق وضعتها كلها في كارتون وخرجت مسرعاً ومعي ولدي الكبير إلى أن وصلت أمام مستشفى المجيدية الحكومي عارضاً بضاعتي على المواطنين المارين أمامي وكان الكثير منهم من مناطق الأرياف من حزام بغداد وكنت أنادي بأعلى صوتي: ((يا ناس الحگو هذا دوه البرغوث صيني ماكو منه فعال ... الشيشه بعشر فلوس ... الحكَو قبل ما يخلص))
تهافت على شرائه الكثير من المواطنين وكان البعض منهم يشتري أكثر من قنينة واحدة ولم تمض سوى ساعة واحدة حيث فرغ الكارتون من جميع محتوياته وعدت لداري وأنا أحمل في جيبي مبلغاً لا بأس به في حسابات ذلك الزمان، سلمته لزوجتي وطلبت منها الذهاب إلى السوق وشراء ما تحتاجه لها وللأولاد، اندهشت زوجتي وهي تقول: ((مگموع ... منين جبت هاي الفلوس؟)) وعندما أخبرتها بأن المال الذي حصلت عليه مصدره نتاج عملنا المشترك هذا اليوم في برد الطابوق واستخراج ترابه وبيعه على أنه دواء لمكافحة البرغوث.
يضيف حمودي- صاحت زوجتي: ((يبو ولك أنت ما تجوز من سوالفك توكلنا وتلبسنا الحرام))
أجبتها: ((يا حرام آني صنعت دوه للبرغوث مثل باقي الشركات اللي تصنع الأدوية وما ندري من أي شي تصنعها))
صندوق بريد
نهضنا وتركناه مودعين إياه بعد أن جدد تعهده بإصلاح حاله وترك السلوك غير السوي في حياته وأن يصبح مواطناً صالحاً, حكم على (حمودي) بالحبس لمدة سنة واحدة... وانقطعت أخباره عني وبالمناسبة أود أن أشير إلى أنه في أحد الأيام وعند دخولي دائرة بريد الثورة استقبلني مديرها (محسن الحلبي) ضاحكاً وطالباً مني مرافقته إلى خارج الدائرة وعند بابها الخارجي حيث يوجد الصندوق الحديدي الأحمر الذي يتم وضع الرسائل فيه بعد لصق الطابع البريدي على ظروفها ... أشار بيده على الصندوق وكانت المفاجئة قيام بعض الناس إلصاق الطوابع عليها بدلاً من ظروف الرسائل وأنه يقوم بتكليف أحد العمال بتنظيف الصندوق بين الحين والحين من هذه الطوابع اللاصقة بها ...
وفي الختام اعتذر عن الإطالة وأملي أن يكون الحديث قد راق لكم ونال إعجابكم وأترككم في رعاية الله العلي القدير وحفظه.
1280 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع