ولاية الموصل والحقوق الكوردية بعد الحرب العالمية الأولى / ح1

                                           


ولاية الموصل والحقوق الكردية بعد الحرب العالمية الأولى

    

                  

     
 
الإهـــــــــــداء
من خارج أسوار معتقلات التاريخ للفكر الإنساني، وعبر محاولات كسر قيود أضطهاد العواطف الساذجة  في موضوع ولاية الموصل:

أهدي هذا الجهد المتواضع لكل من يتعامل مع حقائق التاريخ والجغرافية بموضوعية من اجل واقع أفضل ولبناء مستقبل أنساني مفعم بالمحبة والتعاون ليس للكرد وحدهم بل لكل من عاش وسيعيش في هذا المحيط الجغرافي لتعزيز المعايير الانسانية والاخلاقية لما يتناسب والمعايير الحضارية السامية التي يستحقها الأنسان.

المؤلف
الدكتور عبد العزيز المفتي

  
 
كلمة الباحث

1.لسنا اليوم في صدد نبش قبور الجغرافية والديمغرافية العراقية ،ولسنا اليوم نعمل لنعيد رسم خرائط جديدة وفق مصالح ونزعات قومية متطرفة للكرد على حساب الاقوام الشقيقة الأخرى، وليس من الحكمة أن يعمل العقلاء لقلب المعادلات لتحويل المظلوم إلى ظالم والظالم إلى مظلوم، لكنا اليوم نسترشد بالحقائق المنطقية والتاريخية والانسانية من أجل أعادة تقييم الواقع بما يضمن توفير بيئة جغرافية أنسانية تضمن الحياة الكريمة لكل من تتوفر له فرصة العمل ضمن القواعد الجمعية لضمان مستقبل أمثل يتناسب هذا العصر الانساني الذي تتفاعل فيه القيم السامية لتعطي للكائن العراقي منزلته المبتغاة  مع باقي الامم المتحضرة .
2.وخلال تواجدي في الأردن لهذه السنوات كنت أسأل دائماً من قبل العراقيين المتواجدين هنا وهم من جميع الفئات الاجتماعية والاتجاهات المختلفة وكذلك من إخواني الأردنيين عن الأكراد ومناطقهم وخاصة في ولاية الموصل، من هم وماذا يريدون (مطالبهم) ... الخ من الأسئلة.. (مما جعلني أن أعود إلى الذاكرة والبحث عن المصادر والوثائق وما كتبهُ المؤرخين والباحثين عن ولاية الموصل والقضية الكردية فيها، مع بعض الإضافات حسب تطور الموقف خلال هذه الأعوام ... لإمكان إيصال شيء بسيط عن قوميتي الكردية في ولاية الموصل إلى إخواني العرب، فالقليل منهم كانت له معلومات جيدة ومتعاطف مع هذا الشعب المضطهد في ولاية الموصل ذات الأكثرية الكردية خلال تلك الفترة الطويلة من الزمن حيث لم ينصفه القريبين أو البعيدين من هذا العالم بغربه وعربه ... وعليه أقدم هذا الجهد المتواضع لكل أولئك الذين يبحثون عن الحقائق عن الكرد في ولاية الموصل والكرد المتواجدين فيها منذ القدم والذين يريدون الخير للعراقيين جميعاً ...

ومن الله التوفيق
الباحث الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
عمان/ أيلول 2014
 
المقدمة
1-لسنا هنا بصدد الخوض في موضوع شائك مثل البحث عن أصل الأكراد بشكل موسع كالذي اختلف فيه الباحثون, وجرى نعت الأصل بالفرع, وصاغوا أحواله نظريات وروايات تشبه بعضها الأساطير( ), غير أننا نؤكد هنا بأن أكراد كردستان العراق المتواجدين منذ القدم ضمن ولاية الموصل هم سكان هذه الأرض الطاهرة منذ آلاف السنين, وهذا شرح مبسط عن الكرد في ولاية الموصل (كردستان الجنوبية)، والأطماع الاستعمارية بكردستان الجنوبية وولاية الموصل.
2-يعيش الأكراد ليس في ولاية الموصل (كردستان الجنوبية) فقط بل  على الأرض في جميع أصقاع سلاسل جبال أرمينيا وتنتهي حدودهم الشمالية في تركيا بمحاذاة أرضروم. وفي الجنوب يسكن الأكراد على مناطق واسعة إلى نهاية سهول ما بين النهرين وفي الغرب حدودهم نهر الفرات أو بصورة أدق نهر قرة سو.
وأنهم لم يقفوا عند هذا الحد بل إن وجودهم هو في أعماق آسيا الصغرى وإنهم لا يشغلون المناطق الجنوبية – الشرقية فمن سيواس فقط بل هناك جماعات متفرقة منهم حتى حوالي مدينة في كليكلية. وبهذه الصورة يصلون إلى البحر الأبيض المتوسط, يسكن الأكراد في روسيا في مقاطعة أريفان في الأقسام التي تصل بـ آرارات ومناطق أخرى من نواحي أردها وقاقزمان في منطقة فارس وكذلك في مقاطعة اليزابث بول.
3-يسكن الأكراد في الأقسام العليا في نهر الفرات ومناطق وآن (أرمينيا القديمة) (ف.ف. مينورسكي – الأكراد)(1) هي مهبط الأرض القديم التي ظهر فيها الأكراد. وان الأقسام الجنوبية من طوروس وسواحل دجلة اليسرى (بوتان – خربوط – الزاب الأعلى) هي الوطن الأم للشعب الكردي في الأزمنة التاريخية القديمة. وعلى ذلك فإن وطن الأكراد في فجر التاريخ هي الأقسام الشرقية الجنوبية للمناطق الثلاثة (السلاسل الجبلية العليا في أرمينيا كردستان تركيا – وجبال فارس الغربية) هو موطن الأكراد.
سلاسل جبال زاغروس وطوروس (جبال زاغروس وجنوب غرب إيران, تمتد من فارس وشيراز جنوباً وحتى كرمنشاه وهمدان شمالاً, وجبال طوروس جنوب تركيا, تمتد من قيصرية ونهري سيحان وجيحان شرقاً وجبال انطالية غرباً وبين زاغروس شرقا وطوروس غرباً تقع سلسلة جبال كردستان شمال غرب إيران وكردستان العراق   (الباحث) ويعد مثل هذا الوصف المختصر لأرض كردستان ما يقربنا وكأنها عظام الظهر لهذا الوطن الذي يمتد على مرتفعات كبيرة فوق البلاد المحيطة به. لذلك تشمخ بعض قمم الجبال فوق المناطق المجاورة مثل جبل (آرارات) الكبير الذي ترتاح عليه سفينة نوح (عليه السلام) وهو يصل إلى ارتفاع 16.200 قدم (وجبل الجودي) له نفس المنزلة وارتفاعه يصل إلى 16.500 قدم (وجبل نمرود داغ) يرتفع إلى 10.400 قدم وجبل (سيبان) الذي يتغنى به الجميع يرتفع تقريبا إلى 11.330 قدم وكل هذه الجبال تغطيها الثلوج أكثر فصول السنة.
وهكذا نرى أن الأكراد يعيشون في الوقت الحاضر على ارض واسعة ضمن حدود تركيا وفارس (إيران ) والعراق من مدينة مندلي في العراق وحتى جبل آرارات حيث تتعدى أرضهم حدود روسيا فتدخل قفقاسنا وكما يلي:
أ‌-في بلاد فارس: يسكن الأكراد في جميع أقسام مقاطعات كرمنشاه وكردستان (سنندج) ومنطقة كاروس وقسم من أذربيجان في جميع مناطق ساوجبلاغ (مهاباد) حاليا من جنوب بحيرة اورمية وغرب نهر تاتاو إلى حدود تركيا وهم من السكان القدماء في الأقسام الجنوبية.
أما في الأقسام الشرقي من بلاد فارس فقد كانت تسمى اسم سلماس تشكل مقاطعة مستقلة وكان الأرمن يطلقون عليها اسم (كورتجيا) بمعنى (كردستان).
وهناك مناطق كردية أخرى مستقلة وهي متناثرة في خرسان (شاويلي) وفي قزوين (أمبرلو) وحوالي شيراز (كالون عبدو) حيث هجرهم الملك الفارسي نادر شاه من مدنهم وقراهم قسرا بين عامي (1736- 1778) م.
ب‌-في بلاد تركيا: يسكن الأكراد وبصورة أساسية في ولاية الموصل (العراق الحالي) وهي منطقة كردية خالصة عدا مدينة الموصل العربية, وإما في ولاية وآن وتبليس في ( تركيا الحالي ) فان للكرد أكثرية 60% وهذا يتعلق بالأراضي الواسعة حولي بحيرة وآن التي تتوفر فيها المياه.
إن سنجق حكاري الذي يمتد إلى الحدود الفارسية وكذلك أقسام كثيرة أخرى فالأكثرية الساحقة فيها هم من الأكراد. والأكراد أكثر عدداً في ولايتي ديار بكر وخربوط من جميع الأقوام الأخرى وأن مدينة الجزيرة تقع في ولاية ديار بكر وعلى نهر دجلة في منطقة بوتان وهي تعتبر مهداً للأمة الكردية. ومنها توزعوا وفيها ظهرت الحركة القومية الكردية. وأن سكان منطقة درسيم التي تقع بين النهرين الذين يشكلان الفرات فالأكراد فيها الأكثرية بثماني مرات بالنسبة إلى سكان غير الأكراد( ). وفي أودية أرضروم والأقسام الجنوبية الشرقية يشكل الأكراد الأكثرية الساحقة.
ج‌-في بلاد سوريا: يسكـن الأكراد في حلب أيضاً وهنـاك مستعمرات كردية متفرقة في سوريا حوالـي جبال دمشق وفيها محلات كرديـة ويشكلون نسبة 10-12% من سكان سوريا( ).

عرف الجغرافيين الإغريق في أوائل القرون الميلادية بصورة جيدة مناطق (الكوردوئين) وهي لا تزال قائمة على نهر دجلة ويسمونها (فينيك) وعليه يمكننا المقارنة بين كلمة (كوردوئين) وكلمة (كورجيا) بلاد الأكراد المذكورة من قبل الأرمن (الأزشاكيين) وكانت الأقسام الجنوبية الشرقية من كردستان المركزية كانت واقعة تحت حكم أسرة (هايكان) الأرمنية وكانت مستقلة ولا تدخل ضمن دولة (الأخمينين)، ثم خضعت للاسكندر الكبير والأرمن الازشاكيين وللاسكندر بن مارك انطوني وكليوباترا وللبارثيين وللرومان وللساسانيين (أردشير وشابور) والأباطرة والرومان من جالبيري إلى جوليات وللساسانيين مرة أخرى. وللإمبراطورية البيزنطية فيودوس وللعرب الذين غزوا الإمارات الأرمنية وأخيراً للأسرة الكردية الأولى المروانية المستقلة التي حكمت بين (990 – 1096م).
إذاً نلاحظ عدم استقرار المنطقة الكردية ومنها ولاية الموصل في العهد العثماني وحيث حدثت فيها غزوات كثيرة، ففي القرن الحادي عشر استولى السلجوقيين على المنطقة ثم اضطر الأكراد أن يناضلوا ضد المغوليين، وفي القرن الثالث عشر ظهر غزاة آخرون من الغرب (الأتراك العثمانيون)، وفي سنة 1514م بعد معركة جالديران كان مصير الأكراد وكردستان مرتبطاً بالعثمانيين. وأناط السلطان العثماني سليم الأول إدارة كردستان بعد احتلالها إلى القريب منه المؤرخ الحكيم إدريس وهو من أبناء تبليس.
وفي الشرفنامة( ) (شرف خان البدليسي - الشرفنامة) كانت الضفة اليسرى من نهر الفرات الغربية وجميع مناطق الضفة الشرقية من (مرادسو) تقريباً تحت حكم الإمارات الكردية وكانت (إمارة تبليس) أكبر الإمارات الكردية وأميرها هو مؤلف كتاب (الشرفنامة).
نلاحظ عدم تمكن السلاطين العثمانيين في السيطرة على الإمارات الكردية، ولكن هذه الحالة انتهت في القرن التاسع عشر عندما رفض المصلح التركي الكبير السلطان (محمود الثاني) قرار السلطان (سليم الأول) حول الأكراد أي أراد احتلال كردستان وقد تم ذلك سنة 1834م حيث قاد الحملة (محمد رشيد باشا) وأصبح الأكراد فيها من بعدها مواطني الدولة العثمانية بصورة مباشرة أو غير مباشرة. وعليه قام الأكراد بحركة قومية سنة 1843 – 1846م بقيادة بدر خان باشا على أثره أسر بدر خان ونفي إلى (جزيرة كريت) وفي أيام (حرب القرم) ضد روسيا قام (يزدان شير) من أقارب (ابن عم) بدر خان بالحرب في حكاري وبوتان سنة 1855م واحتل تبليس والموصل وانحدر جنوباً حيث استولى على جميع الأراضي التي تقع بين (وآن وبغداد) وبالخدعة العثمانية المعروفة تم أسرهُ من قبل العثمانيين.
4-وعندما نقترب من اهتمام الساسة البريطانيين في ولايات الدولة العثمانية, واثر الضباط العراقيون – (خريجي المدارس العسكرية العثمانية) على أبناء العشائر الكردية والعربية للثورة ضد المحتل الأجنبي , نجد أن وزير المستعمرات البريطاني (ونستون تشرشل) والوفد المرافق له, قد عزموا السفر إلى القاهرة للالتقاء بوفد آخر قادم من العراق برئاسة المندوب السامي البريطاني في العراق (برسي كوكس, وسكرتيرته مس بيل)، ومعهم الفريق جعفر العسكري (وزير الدفاع) وساسون حسقيل (وزير المالية) في  آذار عام 1921م. وفهم المطلوب من (مؤتمر القاهرة) إنشاء جيش عراقي يكون واجبه محدد لأغراض الأمن الداخلي, وحراسة خطوط مواصلات القوات البريطانية, بغية تقليل النفقات المالية, وبقدر ما كان الكرد على موعد لمناقشة قضيتهم في (مؤتمر القاهرة)، سمع الحاضرون تصفيق داخل أروقة فندق (سميراميس) مكان عقد مؤتمر القاهرة وكان مشفوعاً, عندما ذكر ونستن تشرشل وزير المستعمرات أن الأمير فيصل بن الشريف حسين هو الأنسب لحكم العراق ولم يقل أن الكرد أمة بحاجة إلى حكومة كما هو شأن العرب. ذلك هو ما كتبتهُ  في كتاب مؤتمر القاهرة والقضية الكردية عام 1921. وكان أحد أهداف مؤتمر القاهرة تشكيل الدولة الكردية ضمن ولاية الموصل ذات الأكثرية الكردية فيها وكذلك تشكيل دولة عراقية وتأسيس الجيش العراقي وإنقاص القطعات البريطانية في العراق، والاعتقاد بيقين أن سكان (ولاية الموصل) المكونة من محافظات (أطراف الموصل - السليمانية – اربيل – كركوك – ودهوك لاحقاً – وأجزاء من ديالى) هم من الكرد. وفَرَحْ الأكراد لا يوصف, خصوصاً والجنرال البريطاني (مود) قد نبّه أهل بغداد عام 1917م انه أتى (محرراً للشعوب وليس محتلاً). كما روج الرئيس الأمريكي (ويلسون) لمبادئه الأربعة عشر الداعية لحرية الشعوب وحق تقرير مصيرها قبل وصول الدول المنتصرة بالحرب إلى مدينة فرساي الفرنسية عام 1919م لمناقشة حاجات الشعوب ومنهم الكرد.
لقد باعت لندن حليفها في الحرب الأمير فيصل بن الشريف حسين بثمن نفط ولاية الموصل ذات الأغلبية الكردية  مقابل إطلاق يدّ حليفتها فرنسا على سورية, وباعت كفاح ونضال الشعب الكردي لثلاث قرون في الزمن، وضيعت ذاتهم على جغرافية لا تحتاج إلى علامات هي (كردستان الجنوبي) لان رغبة لندن في الاستحواذ على نفط ولاية الموصل أهم من حرية الشعوب وخاصة الشعب الكردي, وهم في كل ذلك يقولون أن الشيخ محمود الحفيد الذي يقود ثورة كردية ويألب العشائر الكردية ضد المحتل البريطاني انه (متمرد) ولا يؤمن بالديمقراطية التي تؤمن بها بريطانيا.
وبات الكرد يسألون وماذا يقصد الحكام السياسيون البريطانيون بالديمقراطية بعد معاهدة (سيفر عام 1920م) قيل, أن المطلوب هو تأسيس أحزاب وجمعيات سياسية كردية ينتخبها الشعب لحكم الشعب. ودانت الرقاب لحرية الرأي, والرأي الآخر, وبعض الأحزاب الكردية كانت موجودة قبل وبعضها بعد الحرب العالمية الأولى وأخرى تيقنت لأن تكون ممثلة في البرلمان العراقي بعد الحرب العالمية الثانية, ذلك ما شملهُ فصل مستقل حول ذلك.
إن إشكاليات القضية الكردية وخاصة في ولاية الموصل في ظل الاحتلال البريطاني للعراق قد أخذت البعد التضليلي تارة والغموض تارة أخرى، لهدف أن لا يرى الكرد نوراً على طريق الحكم الذاتي رغم أن مشاهير الكرد من الأدباء والكتاب ورجال الدين وقادة الجيش قد برهنوا على لياقتهم في الإدارة وكان ذلك مجزيا لان يقولوا أن قضية الكرد (الشعب الكردي) هي قضيتهم وهم أدرى بمتطلبات شعبهم بعد كفاح مرير مع السلطات التركية والإيرانية والعربية, نلاحظ قد برهنت بريطانيا الاستعمارية على تهميش القضية الكردية، واتجهت لبناء جدار أمني ضد الشيوعية في (معاهدة سعد آباد عام 1937م) وحلف آخر هو (حلف بغداد عام 1955م)، فهم منه وروّجت له الشيوعية (المدعومة من السوفيت) باتت على أبواب العراق أن بريطانيا وتركيا وإيران والباكستان. وعليهم حراسة المصالح الأميركية والبريطانية في منطقة الشرق الأوسط, وخاصة نفط الخليج بعد الحرب العالمية الأولى.
ومن الله التوفيق
الفريق الركن الدكةور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي
     عمان /أيلول 2014
 
ولاية الموصل والمسألة الكردية

ورثت بريطانيا المحتلة أرض العراق خلال الحرب العالمية الأولى بما فيها أرض كردستان الكبرى (عدا الجزء الإيراني). فهي من الناحية العملية تمارس سياسة نشيطة مع العائلة القاجارية الحاكمة في إيران. وتركيا ليس لها صوت مسموع في السياسة والجغرافية وجيوش الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وإيطاليا) على أراضيها (1919-1920) يخططون لخلق دولة أرمنية وأخرى كردية على التراب التركي. وفي العراق المحتل بقوات بريطانية، فقد وجدت لندن أن الضرورة باتت ملحة لتنصيب الملك فيصل الأول على عرش العراق 23 آب عام 1921، ولكنه مكبل اليدين لكل ما يمت بالقضية الكردية وحقوق الكرد في إنشاء دولة خاصة بهم أو حكم ذاتي قابل للتطور.
إن ساسة الدول الاستعمارية الأوروبية الطامعة بولايات الإمبراطورية العثمانية المسلمة كثيراً ما عملوا على إضعافها للفوز بالثروات. وتبدو بريطانيا صاحبة الصوت السياسي والعسكري في أوروبا، أنها كانت على صلة بتطورات الوضع في بلاد ما بين النهرين، ومناطق كردستان الجنوبي (ولاية الموصل) وكردستان الشمالي (ولاية ديار بكر)، لاستمالة الأقليات غير التركية. ومع الإنجاز العسكري الذي حققتهُ بريطانيا خلال الحرب العالمية، صار الحديث عن إنشاء دولة كردية في المناطق التي فيها أغلبية كردية، كما هو عرب العراق. وكان رد ساسة بريطانيا، ولماذا لم يمنحكم المسلمون العثمانيون والإيرانيون ذلك الحق وأنتم تدينون بدين الإسلام. وهل الصحيح في شيء أن تقوض إمبراطورية إسلامية لخلق دولة كردية إسلامية بجوارها. إن ما توافقت عليه بريطانيا وفرنسا، هو استثمار النفط في العراق وليس لإعطاء ولاية الموصل الغنية بالنفط للكرد، أو أن نسمح لروسيا البلشفية التغلغل في إيران والعراق وكردستان. ولأجل أن تتجنب بريطانيا المشاكل الناجمة عن الثورات الكردية ومنها ثورة الشيخ محمود الحفيد في السليمانية عام 1919، لقد لبست بريطانيا وجهاً مقنعاً في سياستها تجاه الكرد، ومنها معاهدة سيفر عام 1920، وفي عقلها ضرب عصفورين بحجر واحد كما يقول المثل.

 * بقيت قضية ولاية الموصل دون تسوية
فقد كان الكماليون الأتراك غير راغبين في المساومة على الميثاق الوطني التركي الذي طالب بكل تركيا العثمانية ما عدا الأراضي العربية منها، فقد كانوا يخشون من أن المشاعر الكردية في الولاية (الموصل) سوف تقوض مساعيهم في "التترييك" في شمالي الحدود( ).
في ذات الوقت لم يكن البريطانيون راغبين في التنازل عن ولاية الموصل. فقد أصبح النفط مسألة ذات أهمية أكبر عندما فهمت مسألة إحتياطي النفط على نحو أفضل في ولاية الموصل (كركوك). ومع ذلك لم يكن هو العامل الحاسم. إنّ بريطانيا كانت مستعدة للتخلي عن نصف شركة النفط البريطانية – الفارسية 70% من الأسهم في ولاية الموصل لشركة (ستاندارد أويل) لكي تحصل على دعم الولايات المتحدة الأمريكية لها للاحتفاظ بولاية الموصل في عام 1923. بل كان (كيرزون) وزير خارجية بريطانيا راغباً في تسليم ولاية الموصل من أجل التمسك بأحكام (مؤتمر لوزان) في عام 1923 ولكن تم إسكاته على يد هؤلاء الذين كانت لهم مصالح في الدفاع عن بلاد الرافدين، أعني الوزارات البريطانية التالية: (وزارة المستعمرات)، و(وزارة الهند)، (وزارة القوى الجوية) و(وزارة الحرب). لقد حاولت كل من تركيا وبريطانيا إغراء بعضهما بعضاً للتنازل عن مطلبهما بإعطاء نسبة كبيرة من النفط. لكن أيا ًمن الطرفين لم يكن راغبا ًفي ذلك التنازل، ولذلك لم يشهد حقل نفط كركوك المتدفق لأول مرة أية تسوية حتى عام 1927.     
لم تكن بلاد الرافدين، أو العراق كما تسمى الآن، قادرة على الاستمرار سياسيا وعسكريا واقتصاديا بدون كردستان الجنوبية (كردستان العراق). وهنا تكمن المسألة، لأنه عندما صادقت كل من بريطانيا والعراق على معاهدة التحالف بين بريطانيا والعراق في عام 1924 تضمنت ملحقا مع المعاهدة ينص على أن الاتفاقية تعتبر لاغية إذا ما فشلت بريطانيا في حماية حقوق العراق في كامل ولاية الموصل.
في مؤتمر لوزان 1923 طالبت تركيا باستفتاء شعبي، و لكنه لم يلق التصديق من بريطانيا( ). وفضلت بريطانيا، بدلا من ذلك، التحكيم من جانب عصبة الأمم؛ وهو خيار لم تكن تركيا تحبّذه لأنها اعتبرت عصبة الأمم في يد القوى الكبرى. لقد ظلت تركيا ملتزمة بالاستفتاء وراغبة في مهلة غير محددة من الوقت اعتقادا ًمنها بأن ذلك سوف يقدم لها فرصة جيدة للاستيلاء على ولاية الموصل. ذلك هو ما ترك سكان المنطقة (ولاية الموصل) في ورطة. لقد كان أحد أسباب الصعوبات وتزايد الخطر يكمن في حقيقة غياب حدود واضحة لشمالي ولاية الموصل. ولم تكن المهمة تقتصر على رسم الخريطة، بل تعمد العثمانيون ترسيم الحدود لتقسيم بعض الاتحادات الكردية والمناطق الكردية الصعبة المراس/ ومن ثم تغييرها وفق ما تقتضيه الظروف السياسية المحلية؛ فمن بين كل حدود ولاية الموصل كانت تلك الواقعة بين ولاية الموصل ووآن هي الأكثر غموضا ً،لأنه، في الحقيقة، لم تكن هناك خريطة رسمية( ).
لم يكن مستغرباً، بالتالي، نشوب بعض الصدامات الثانوية والتي وصلت إلى أوجها حينما أسرت القرى الآثورية في المنطقة الحدودية الحاكم التركي المحلي. رداً على ذلك زحفت قوة تركية عبر المنطقة التي تسيطر عليها العراق لمهاجمة تلك القرى الآشورية (الآثورية) في أيلول/سبتمبر عام 1923 طاردة سكانها الذين يربو عددهم عن 8.000 نسمة بمنتهى القسوة. في هذه الأثناء أحالت بريطانيا مشكلة ولاية الموصل رسمياً إلى عصبة الأمم في 6 آب/ أوت 1924 ورغم الاحتجاجات التركية في 29 أيلول/ سبتمر و5 تشرين الأول/أكتوبر عام 1924 رفضت تركيا الانسحاب من المنطقة التي تطالب بها بريطانيا .وقد تم تجنب الحرب فقط عندما رسمت عصبة الأمم ما أطلق عليه "خط بروسلز" (بروكسل) لرسم حدود مؤقتة من شأنها ألا تلحق الضرر في النتيجة النهائية، وذلك في انتظار لجنة تقصي الحقائق من عصبة الأمم.
وصلت لجنة تقصي الحقائق إلى ولاية الموصل في شهر كانون الثاني/جانفي 1925 بعد زيارات إلى لندن، وأنقرة وبغداد، ولم تكن مهمتها سهلة. فقد كانت أغلبية سكان ولاية الموصل من الأكراد وبشكل لا يمكن إنكاره، لأن ولاية الموصل كانت تمثل المحافظات الحالية (موصل، أربيل، كركوك، سليمانية، دهوك، ديالى) في حين كانت مدينة الموصل نفسها من العرب بشكل رئيسي بينما كانت البلدات والقرى الواقعة على الطريق العام المؤي إلى بغداد من التركمان الناطقين باللغة التركية والأكراد. ولكن، وكما لاحظت اللجنة، فإن الأكراد يسيطرون على الأراضي القابلة للزراعة و"يكردون" بعض البلدات وخاصة التركمانية منها على الطريق العام( ). عند محاولة رسم خط بين العرب والأكراد، وهو الخط القومي الوحيد الذي يمكن رسمه، لم يتحقق بسبب التكامل الاقتصادي بين الموصل والمنطقة الكردية أية أهمية، من ناحية أخرى، قالت اللجنة:
"إذا ما أخذت المسألة العرقية وحدها بعين الاعتبار، فإن هذا الاستنتاج الضروري هو رأي اللجنة الأممية الذي ينبغي التوصل إليه هو أنه يجب إقامة دولة كردية بإعتبار أن الأكراد يشكلون خمسة أثمان من نسبة السكان لولاية الموصل"( ).
علماً لم يشمل هذا الرقم الأكراد اليزيديين. وإذا ما تم إضافة هؤلاء اليزيديين الأكراد لأصبحت النسبة أكثر من ثلاثة أرباع تقريباً. ومع ذلك اعتقد المجلس (عصبة الأمم) أن الأكراد ككل لم يحركهم التضامن القومي. أما إذا أخذت المسألة الاقتصادية، فيمكن أن تكون ولاية الموصل ضمن حدود الدولة العراقية.
"لقد وجدنا بين الأكراد وعياً قومياً متنامياً، وهو بلا ريب قومي كردي وليس عربياً، وهو شعور متزايد بقوه كلما اتجهنا جنوباً ويتناقص شمالاً ويتلاشى في سهل ولاية الموصل وجبال (عقرة / آكري)".

وكان ثمة تقسيم آخر:
"إن الأكراد الذين يسكنون الإقليم المتنازع عليه (ولاية الموصل)، وخاصة أولئك الذين يعشون شمالي الزاب الكبير، فيما يتعلق في اللغة والصلات الاثنية والعلاقات الشخصية والاقتصادية، مرتبطون أكثر بأكراد ولاية هكاري وماردين في تركية، في حين يميل أولئك الذين يسكنون جنوبي الزاب الصغير إلى أكراد إيران. إن من الصعوبة بمكان رسم الحدود بين هذين النهرين"( )
علاوة على ذلك كانت هناك، في كل منطقة كردية، انقسامات بين البدو والفلاحين الأكراد وبين القبائل المتجاورة، أو حتى بين فئات من داخل القبائل نفسها، وقد لاحظت اللجنة (لجنة تقصي الحقائق) بأن الشعور القومي الكردي تجلى في المعارضة لأي تدخل سياسي خارجي أو لنشاطات أشخاص من أصول كردية في أماكن مثل استانبول والذين قطعوا على نطاق واسع صلاتهم مع أقربائهم الأكراد. لقد كان هناك استثناء وحيد لهذا الرأي العام في مقاطعة السليمانية حيث:
"وجدنا الشعور القومي الكردي، رغم كونه فتياً، معقولاً بما فيه من الكفاية فقد ذكر الشعب الكردي في السليمانية بأنه رغم أن طموحهم الأسمى هو الاستقلال التام لكردستان إلا أنهم اعترفوا بفوائد وصاية تنويرية وذكية".

ولكن بشكل عام:
"هناك انقسام في الرأي الكردي، فمجموعة أكراد السليمانية والمقاطعات المجاورة لها والتي تطالب بالحكم الذاتي ضمن الدولة العراقية تشكل النصف من مجموع السكان الأكراد تقريباً". وقد ترك ذلك ما يقارب عن النصف أقل قناعة. كما كانت هناك مناقشات أخرى ضد محاولة قيام دولة كردية على أسس عرقية في ولاية الموصل: "إذاً فلا الحدود السياسية للإقليم المتنازع عليه (ولاية الموصل) مع إيران وسورية، ولا الحدود القائمة ولا كذلك الحدود التي تطالب بها كل من تركيا والعراق حدود عرقية( ).
وجادلت لجنة تقصي الحقائق، علاوة على ذلك، أن أكراد الولاية (ولاية الموصل) بالنسبة إلى كردستان الكبرى يشكلون نسبة ضئيلة جداً (في الحقيقة حوالي 25%) من إجمالي الشعب الكردي (مجتمعاً). وهكذا تخلت لجنة تقصي الحقائق في عصبة الأمم من الاعتبارات القومية لصالح الاعتبارات السياسية الاقتصادية ناهيك عن خيارات السكان في ولاية الموصل. وهنا بالطبع لم تجد اللجنة سوى التحفظ عن الكلام عن الخوف من الأعمال الانتقامية ووجهات النظر المتناقضة:
"إن غياب أي شعور وطني عراقي يفسر العدد الكبير من الخيارات المشروطة. إن غلاة الوطنيين العراقيين يقولون بأنهم يفضلون تركيا على عراق تحت السيطرة الأجنبية. من ناحية أخرى، يقول عدد كبير من الزعماء المسيحيين بأنهم سوف يشعرون بارتياب أقل تجاه حكومة تركية من حكومة عراقية بدون سيطرة أوروبية [أي فضلوا الشيطان الذي عرفوه]. ويمكن إيجاد الآراء نفسها بين الأكراد اليزيديين. إن أكراد السليمانية يطالبون بدرجة أكبر من الحكم الذاتي المحلي بمساعدة من المستشارين البريطانيين. على العموم يمكن القول إن الآراء التي تم التعبير عنها مشتركة أكثر من أن تكون حبا ًمشتركاً للوطن( ). كذلك وجدت اللجنة أن الإدعاء التركي بأن السكان (ولاية الموصل) يريدون العودة إلى الحكم التركي غيــر صحيح.
ولكن في هذا الوقت وقعت حادثتان في تركيا قوضتا، وعل نحو خطير، المعسكر الموالي للأتراك في ولاية الموصل. ففي آذار/مارس 1924 ألغت أنقرة الخلافة العثمانية (الإسلامية) متنكرة لآخر حلقة مهمة بين المواطنين المسلمين السابقين للإمبراطورية العثمانية وتركيا. وفي كردستان أكثر من أي مكان أخر كان النقشبنديون والقادريون يؤكدون على أهمية الخلافة الإسلامية. فقد كان هناك الآن تعبير أقوى من علمانيتها الجديدة وثقافتها التركية. وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه اللجنة تقوم بتحرياتها تم قمع انتفاضة كردية بقيادة الشيخ سعيد بيران وهو شيخ كردي، حيث قام الأتراك بتهجير قرى كردية بأكملها عنوة من مناطقها الأصلية الكردية.
قررت لجنة عصبة الأمم في حكمها النهائي منح المنطقة الواقعة جنوبي خط بروسلز (بروكسل) إلى العراق وهو يخضع لشرطين هامين:
(1) يجب أن يبقـى الإقليم تحت الانتـداب الفعلـي لعصبة الأمم لفتـرة تقدر بخمسة وعشرين عاما.
(2) الأخذ بعين الاعتبار الرغبات التي عبر عنها الأكراد بأن يتم تعيين موظفين من أصول كردية لإدارة بلادهم ومناطقهم الكردية وإقامة العدالة والمساواة في المجتمع الكردي، والتدريس في المدارس على أن اللغة الكردية وتكون اللغة الرسمية لكل هذه المنطقة  الكردية"( ).
ولن ترتق هذه [المطالب] إلى الحكم الذاتي. وأشارت اللجنة إلى أنه ما لم يتم الالتزام بهذين الشرطين فإن السكان يفضلون السيادة التركية على العربية. وفي مداولاتها الأخيرة كانت العصبة (عصبة الأمم) راغبة في إرجاء النظر في الشرط الأول إذا ما اكتسبت العراق عضوية عصبة الأمم في غضون خمسة وعشرون عاما. ولكن عندما حصل العراق على استقلاله في 1932 لم يوضع أي شرط من أجل ضمان الحقوق السياسية أو الثقافية للأكراد، (وهذا كان نكث في العهود البريطانية للأكراد).
تحدت تركيا القرار (قرار عصبة الأمم) وأصرت على إقامة السيادة التركية القائمة فعليا على ولاية الموصل حيث قامت بمحاولة أخرى وأخيرة في آذار/مارس 1925 لإقناع بريطانيا للتخلي عن ولاية الموصل بمقابل حقوق استغلال حصرية في نفط ولاية الموصل، ولكن بريطانيا لم تكن مهتمة بذلك لأن أهمية المصالح الإستراتيجية لبريطانيا الاقتصادية والسياسية والعسكرية فاقت إلى حد بعيد أهمية المصالح النفطية. وعندما أجبرت على قبول مطلب اللجنة بخصوص الأماني الكردية، ذكر المتحدث باسمها أن "كافة الأكراد في تركيا لديهم ذات الحقوق التي يتمتع بها الأتراك بلا أية قيود"( ) وقد بقي هذا موقف تركيا خلال العقود التالية في إنكار الوجود الكردي والأكراد الذين وقعوا ضمن حدودها (تركيا الحديثة).
وفي الوقت الذي طلبت فيه عصبة الأمم رأي محكمة العدل الدولية الدائمة إن هناك شكاوى جديدة من قبل الطرفين تتعلق بانتهاكات خط بروسلز (بروكسل). في هذه الأثناء فرّ 3.000 مسيحي آثوري أو تم طردهم من المناطق التركية بينما قتل آخرون( ). وفي شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1925 أعطت المحكمة (محكمة العدل الدولية الدائمة) أخيراً رأيها بأن قرار العصبة ملزم للطرفين "وسوف تضع ترسيماً نهائياً للحدود بين تركيا والعراق( ). كذلك أكدت العصبة (عصبة الأمم) في كانون الأول/ ديسمبر 1925 بأن توصيات اللجنة ملزمة لتركيا وبريطانيا. وقد أبدت بريطانيا وتركيا موافقتهما على قرار عصبة الأمم في اتفاق ثنائي تم التوقيع عليه في 5 حزيران/ جون 1926.

* الأكراد و بريطانيا والعراق
إن محاولة السيطرة على كردستان وسكانها لم تكن بالأمر السهل على الإطلاق بالنسبة إلى الدخلاء والمحتلين. لقد كان لدى بريطانيا بخبرتها في الحدود الشمالية الغربية للهند، فكرة أفضل من الجميع بما يلزم حتى وإن بدأت نسبياً بنوايا طيبة. غير أنه لم يتم تحقيق وعود الأسابيع الأولى. لأن مقتضيات سياسة بلاد الرافدين دفعت بريطانيا إلى التراجع عن وعودها للأكراد خطوة خطوة. كذلك فإنه ومن المشكوك فيه أن تكون الإدارات العربية المتعاقبة قد نوت تحقيق التزاماتها أبداً (للشعب الكردي في حقوقهم القومية المشروعة).
لم يكن الأكراد بارعين سياسياً في استجابتهم لموقف ما بعد الحرب العالمية الأولى. فقلة الاتصالات من جهة وانقسام المجتمع الكردي من جهة أخرى وجغرافية المنطقة. إضافة إلى طبيعة العلاقات العدائية بين القبائل الكردية جعل تقديم موقف سياسي موحد ضرباً من المستحيل لدى الأكراد. على العموم، كان الآغوات والشيوخ الأكراد سعداء بالوقوع ضمن الخطط الإنكليزية على اعتبار أن هذه الخطط كانت تقضي بالإدارة من خلال نظام الرعاية التقليدية، ولكن الخضوع للحكم العربي بقي شوكة في حلوقهم. لقد فرض الحكم العربي المباشر على الأكراد حال بروز طبقة جديدة بينهم تتمثل بالمشتغلين والعاملين بالثقافة والوظائف من غير القبليين في مدن كردستان. ومن سوء حظهم أنه في الوقت الذي باتوا فيها جاهزين لتحريك الأكراد كشعب وليس كقبائل، كانت بريطانيا قد تخلت عن عرضها في تقرير المصير. في هذه الأثناء كانت بريطانيا والعرب في بغداد قد أكدوا على طبقة الآغوات الأكراد كوسطاء لضمان الخضوع الكردي لسياستهم.

* فرض النظام في ولاية الموصل
هناك عدة عوامل زادت من حالة عدم الاستقرار السياسي قبل تسوية مشكلة ولاية الموصل. فقد بدأت المحاولات التركية الرامية لزعزعة ولاية الموصل في وقت مبكر من 1919. ومع ذلك فإنه كان على بريطانيا أن تلوم نفسها وحدها على جو الحيرة والتردد. وكما لوحظ ، فإن بريطانيا لم تقرر بشكل حاسم ضم ولاية الموصل إلى بلاد الرافدين إلا في نيسان/أبريل من عام 1920، فقط حينما لم تستطع أن تؤجل قرارها أكثر من ذلك؛وحتى في ذلك الوقت أيضاً لم تكن متأكدة من أن ولاية الموصل ستبقى في منطقة النفوذ البريطانية إلا في نهاية عام 1925. علاوة على ذلك، أكدت بريطانيا للأكراد من أن فكرة حق تقرير المصير للشعب الكردي سوف تكون الدليل في طريقة فهمها [للقضية الكردية]، ومع ذلك لم تعط أية فكرة عن كيفية تطبيق هذا المبدأ (حق تقرير المصير للشعب الكردي).
لقد كانت النقطة الجوهرية الأولى تكمن في إعادة النظام والازدهار إلى منطقة مدمرة. وهذا ما كانت تهدف إليه زيارة (الميجور نوئيل) البريطاني إلى المنطقة الكردية الواقعة بين الزاب الصغير وديالى في تشرين الثاني / نوفمبر 1918، وقد كانت التوجيهات المعطاة له تتلخص في عدم إعطاء ترتيب نهائي وكما يلي:
أ‌-"يجب أن يكون هدفك هو التنسيق مع الزعماء الأكراد المحليين لإعادة النظام والحفاظ عليه في المناطق الكردية الواقعة خارج حدود سيطرتنا العسكرية ... (البريطانية)
ب‌-ويجب التوضيح للزعماء الكرد بأن أية ترتيبات قد تتخذ الآن لكردستان إنما هي مؤقتة بحكم الضرورة وبالتالي هي خاضعة لإعادة النظر في أي وقت نحو الأفضل.
ج‌-إنك مخوّل بتعيين الشيخ محمود الحفيد كممثل لنا في السليمانية، إذا ما رأيت ذلك مناسباً.
د‌-ولك حريـة التصـرف فـي تعيينات أخرى في السليمانية وفي جمجمال وحلبجة، الخ...
هـ- ينبغي التوضيح للزعماء القبليين الأكراد الذين ستقيم العلاقات معهم بأنه ليست هناك أية نية في فرض إدارة عليهم تكون غريبة عن عاداتهم وتقاليدهم الاجتماعية والدينية ورغباتهم القومية.
و- وينبغي تشجيع الزعماء القبليين الكرد على تشكيل اتحاد كردي لتسوية المشاكل العامة تحت وصاية الموظفين السياسيين البريطانيين" ( ).
باشر (الميجور نوئيل) العمل بقوة ووقام بإجراء الترتيبات مع الشيخ محمود الحفيد في السليمانية وآخرين. وهو الذي كان ينادي ويناشد بريطانيا من قبل بألا تقصي كردستان من قائمة الشعوب المحررة من العثمانيين.( )  في الأول من كانون الأول / ديسمبر عام 1918م زار (أرنولد ويلسون) بصفته المندوب المدني الفعلي لكردستان، وقابل الشيخ محمود الحفيد وحوالي 60 زعيماً كردياً من جنوبي كردستان بما فيهم زعماء رئيسيون في الجانب الآخر من الحدود الإيرانية. لقد كان (أرنولد ويلسون) قادراً على شرح بعض الصعوبات في الموقف وأخذ فكرة عن المطالب هؤلاء الزعماء الأكراد، بحيث بدا واضحاً أنه ثمة إجماع على ضرورة عدم رجوع الأتراك للمنطقة، واعتراف عام بالحاجة إلى الحماية البريطانية. ولكن العديد من الزعماء الأكراد لم يكونوا واثقين من قدرة بريطانيا في إدارة كردستان. في حين أصر آخرون على فصل كردستان عن العراق وإدارتها مباشرة من لندن وليس من بغداد على أمل العودة إلى الحرية والمساواة والعدل التي تمتعوا بها عندما كانوا يحكمون من استنبول. واكتشف (آرنولد ويلسون) أيضاً بأن الشيخ محمود، الذي عزمت بريطانيا على تنصيبه كحاكم أعلى في المنطقة الكردية، ليس محل احترام الجميع (رؤساء الأكراد) بأي شكل من الأشكال. فقد ذكر زعماء أكراد كفري وكركوك بأنهم وسكان مدنهم غير راغبين في الوقوع تحت سيطرته وقد سمح لهم بإجراء ترتيبات خاصة .

* وقع (آرنولد ويلسون) اتفاقية مع الزعماء الأكراد تؤكد على أن :
"الحكومة البريطانية قد أعلنت رسمياً أن هدفها من الحرب العالمية الأولى هو تحرير الشعوب الشرقية من الاضطهاد التركي ومنحهم المساعدة اللازمة للإنجاز استقلالها. إن زعماء كردستان وممثلو شعبها الكردي قد طلبوا من الحكومة البريطانية قبولهم في الانضواء تحت الحماية البريطانية وإلحاقهم بالعراق حتى لا يتم حرمانهم من فوائد الاتحاد وطلبوا من المندوب السامي البريطاني المدني للعراق أن يرسل لهم ممثلاً مخولاً بالمساعدة اللازمة لتمكين الشعب الكردي من التقدم سلمياً وفق أسس حضارية وتحت الرعاية البريطانية. وإذا ما بسطت الحكومة البريطانية مساعدتها و حمايتها عليهم، فإنهم يتعهدون بالانصياع لأوامرها و مشورتها "( ).
إن هذا يكاد يشير إلى شكل الحكومة التي كانت في مخيلة الحكومة البريطانية. بل على العكس من ذلك ربما خلقت مقدمة الوثيقة انطباعاً في مخيلة الأكراد للعودة إلى استقلال الإمارات القديمة و بمساعدة ودية من الدولة المتسلطة في لندن المعترف بها. فإذا كان الأمر كذلك فإنهم ضيعوا العبارة المشؤومة الأخيرة من الاتفاقية.
في هذا الوقت بدا واضحاً لرجال الإدارة البريطانيين بأن فكرة كردستان جنوبية مستقلة غير عملية حالياً وذلك" بسبب حالة التخلف للبلد والافتقار إلى المواصلات والطبيعة الجغرافية الجبلية للمنطقة وانقسام القبائل الكردية عن بعضها البعض"( ). وقد تم الاعتراف أيضاً بأن جنوبي كردستان تعتمد استراتيجياً واقتصادياً على سهل العراق، وانتقل التفكير البريطاني إلى إقامة شبكة من الولايات أو المناطق الإدارية الكردية التي تعكس الانقسام القبلي ومناطق التجمع الاقتصادي في انتظار الاندماج في كيان كردي واحد في وقت لاحق.
ولكن الثقة الكردية في ثبات هذه الترتيبات الأولية اهتزت عند إبداء بريطانيا موقفاً ضعيفاً للتمسك بالمنطقة الكردية، ولأنها أظهرت من قبل بأنها غير جديرة بالثقة . فقد تعاون بعض الزعماء الكرد مع تقدم القوات البريطانية في أيار /ماي 1918 وكانت النتيجة تركهم وحيدين ليواجهوا الأعمال الانتقامية عند انسحاب تلك القوات البريطانية بشكل مفاجئ. وكما كتب (أرنولد ويلسون) نفسه فيما بعد:
"إن الأكراد الذين لم يتخذوا بأي شكل من الأشكال موقفاً عدائياً تجاهنا (بريطانيا) قد أصبحوا مرة أخرى ضحايا الشك والريبة من بريطانيا. فقد بدا واضحاً أن التطمينات بالدعم التي أعطاها مجاناً موظفون غير مسؤولين ... كانت غير قابلة للاعتماد عليها ... ما الذي أغراهم في إظهار أوراقهم لأعدائهم الأتراك وقد تركناهم في موقف حرج. لم يستطع زعماء كرد الهماوند بشكل خاص مغفرة ذلك لنا (بريطانيا) وبقوا معادين لنا لعدة سنوات تلت." ( )
وبعد الاحتلال البريطاني للعراق أرسلت بريطانيا قواتها إلى الوطن. في آذار/مارس 1919:
"أخبر تجار وآخرون يعودون من بصرة إلى بغداد الجنود المغادرين يومياً على متن السفن أو بالقطار، أن في مخيلة الكثيرين اعتقاداً بأننا سوف نخلي كردستان مرة أخرى ونترك لسكانها حرية العمل أو نتركهم لمكائد المطالبين المنافسين للسلطة، وقد أصبح ذلك حقيقة." ( )
لقد كان هناك توتر من نوع آخر تماماً بحضور اللاجئين الآثوريين من هكاري وأورمية بحيث تم طرد هؤلاء من منطقة العمادية من قبل الأكراد المحليين من قبيلة برادوست أثناء الحرب العالمية الأولى. وفي 1919 تم استخدام كتيبتين من القوات المجندة الآثورية (الليفي) بغية "تطهير بعض المناطق الكردية" بقصد إعادة توطين اللاجئين الآثوريين. كذلك زادت المخاوف الكردية نتيجة تحمس الحلفاء الواضح لمنح المسيحيين الآثوريين حق تقرير المصير والحديث عن إنزال العقاب بالمتورطين في جرائم الحرب ضدهم. في نهاية شهر أيار/مايو من عام 1919 أعلنت بريطانيا، كونها تواجه ثورة كردية خطيرة، وبكل وضوح أنها سوف لن تحاكم الأكراد المذنبين في تلك الجرائم. ولكن ذلك لم يزل كافة العداوات. فعندما أخفق الآثوريون في محاولة العودة إلى منازلهم في تشرين الثاني/أكتوبر من عام 1920، فإنهم دمروا وسووا قرية بارزان الكردية بالأرض.
إنّ هذه الخلافات كانت نتيجة لخلافات أخرى طويلة الأمد. أما أكثر هذه الخلافات وضوحاً فتتمثل في حرية التصرف المتقلبة للعديد من الزعماء القبليين الكرد تجاه كل من الحكومة والمنافسين لهم وعدم رغبتهم في قبول زعيم واحد. وكما تبين حالاً فإن العديد من مالكي الأراضي الأكراد، وخاصة في المناطق الجبلية، لم يكونوا يريدون أسئلة وتصرفات خرقاء عن ملكية الأراضي، حيث لم يكن لدى الكثيرين منهم سندات التمليك لأراضيهم بل يحتفظون بها بالتملك القسري. وبالنتيجة تقرر بأنه من اللباقة ولمصالح الإقطاعيين والملاكيين أن تترك سجلات الأراضي في السليمانية بدلا من جلبها إلى بغداد للتدقيق. وكانت هناك أيضاً الحقيقة التي تم إدراكها مؤخراً بأنه مهما كان الذي يدور في ذهن البريطانيين عندما بدأوا الحديث عن الإدارة للمنطقة الكردية من بغداد، فإن الأكراد لا يرغبون في الخضوع لحكم العرب، لأنه العرب لا يكنون لهم الاحترام.
قد يبدو أن البريطانيين كانوا يتخبطون في المجتمع الكردي النامي ولكن أولئك الذين انخرطوا فيه بشكل مباشر كانوا قد عملوا مسبقاً في كردستان الإيرانية قبل أو أثناء الحرب العالمية الأولى واعتمد فهمهم على تجربتهم هناك كردستان إيران وفي الهند.( ) إن النجاح البريطاني في بلوجستان يعزى إلى عاملين: السلطة المعترف بها لبعض الزعماء والسيطرة العسكرية الأولية على الريف، في إشارة إلى أن هؤلاء الذين استخدموا السلطة إنما فعلوا ذلك لمصلحة الدولة المتسلطة.
ولكن حيثما لم يتمتع الزعماء بالسلطة المطلقة وحيثما لم تخضع القوات البريطانية القبائل فقد أخفقت السياسة وبشكل خاص بين قبيلة المحصود في الحدود الشمالية الغربية للإقليم. غير إن التحريض الخارجي من أفغانستان وتحريض رجال الدين البارزين أديا بالنظام إلى السقوط. في هذه النواحي سادت ظروف مشابهة بين الأكراد وقبيلة المحصود. فلم يشهد الأكراد احتلالاً عسكرياً بريطانياً لجنوبي كردستان ومثل المحصود، كانت كل طائفة قبلية في كردستان راغبة في التصرف بشكل مستقل عن بقية القبيلة، ناهيك عن الجماعات القبلية المجاورة. ومثل المحصود أيضاً كان الكثير من رجال القبائل الأكراد عرضة لنداء الزعماء الدينيين من أمثال الشيخ محمود الحفيد في السليمانية.
لقد حاولت بريطانيا السيطرة على المنطقة من خلال أسلوب متسم باللين ولكنه فعال وذلك باللجوء إلى شبكة من الموظفين السياسيين للحفاظ على العلاقة مع الزعماء الأكراد والتوسط في النزاعات وضمان جمع الدخل الحكومي من الضرائب إضافة إلى تجنيد الجنود للجندرمة والقوات المجندة والتي أملت بريطانيا من خلالها إدارة المنطقة الكردية. كل هذه القضايا كانت حساسة وسببت النزاع في الماضي بين الزعماء الأكراد من جهة والسلطات العثمانية من جهة أخرى.
إن ما لم تفض الظروف الجديدة للموقف إلى اندلاع أعمال العنف لكان في الأمر معجزة، غير أن اندلاع النزاعات العنيفة لم يستغرق وقتاً طويلاً. ففي نيسان/أبريل من عام 1919 أثار عبد الرحمن الشرنخي، الذي تأثر بالدعاية الإسلامية التركية، أكراد كويان لمهاجمة الآثوريين في المنطقة الحدودية والتي وصلت إلى أوجها بمقتل الموظف السياسي البريطاني في (زاخو) الذي جاء من أجل التفاوض معهم. لم يتم تشجيع الأعمال الانتقامية من قبل القوات البرية لأنها بذلك سوف تخترق خط وقف إطلاق النار. وقد تم التقليل من أهمية المساعدة التركية في نصرة القضية جزئياً بسبب الاعتقاد بأن تركيا هي مثيرة للنزاعات، وأيضاً بسبب فقدانها للاحترام المطلوب. ولذلك لجأت بريطانيا إلى القصف الجوي، وهو تكتيك بدأت باستعماله كتكتيك قياسي للاقتصاد في نشر القوات، إضافة إلى التأثير المباشر على الأهداف والاقتصاد في التكلفة. وبصرف النظر عن عدم تجنب الإصابات بين المدنيين، كان الجانب السلبي فيها يتجسد في خلق هوة بين الحكومة والمحكومين الأكراد.
لقد كان هناك اضطراب في (العمادية) في شهر حزيران/جون عام 1919م إثر اغتيال موظف سياسي مساعد بريطاني وزملائه. وكان المتورطون في ذلك (أعيان العمادية)، وأيضا العديد من الآغاوات الأكراد المحليين، ولاسيما من قبيلة (برواري). في هذه الأثناء برزت عدة عوامل: هو انسحاب كتيبة مجاورة من القوات، وبذلك أعطت الانطباع بأن أمراء الحرب أحرار بما يودون القيام به والمخاوف من إعادة الآثوريين إلى الوطن، وجباية الضرائب بشكل فعال وقوي إضافة إلى الإجراءات التي قوضت سلطة قوة الأعيان والزعماء المحليين. وقد تضمن العامل الأخير ظهور الجندرمة والذي يعني ضمنا زوال هؤلاء الرجال من السلطة القبلية والشرط المباشر في الدفع وتأمين البذور لإحياء الزراعة وتقويض الرعاية الزراعية التي يسيطر عليها الزعماء. فقط خلال شهر آب/ جولاي – أيلول/سبتمبر استطاعت قوة بريطاني من إعادة السيطرة البريطانية عليها.
بعـد ذلك اندلـع إضـراب ثالث أكثـر خطورة في الزاب الكبير، في منطقة (بارازان – زيبار)، وامتد ليشمل إقليم (عقرة/آكري). لقد كانت المنطقة مشهورة بعنادها، ويعود ذلك في جزء كبير منه إلى العداوة المزمنة بين زعماء زيبار وشيوخ بارزان، لأن النزاع كان إقليميا إلى حد ما باعتبار أن شيوخ بارزان قد قاموا في الضفة اليمنى لنهر الزاب في أواسط القرن التاسع عشر مقابل قبيلة زيبار تقريبا. ولكن قادة بارزان هددوا الزيباريين بشكل مباشر لأنهم جذبوا الكثير من الفلاحين من قبيلة زيبار والقبائل المجاورة الأخرى وبذلك أصبحوا قوة سياسية جديدة وقوية في المنطقة.
لقد كانت كل من (بارزان وزيبار) تقعان ضمن المنطقة الإدارية (لعقرة/آكري). ومن أجل الحفاظ على حلقة الوصل بين زيبار وبارزان منع (فارس آغا) من قبيلة زيبار بعبور الزاب إلى إقليم بارزان. من ناحية أخرى كان الشيخ (أحمد البارزاني) يريد أن تنتقل بارزان إداريا إلى (رواندوز) بعيدا عن (عقرة/آكري) التي تسيطر عليها قبيلة زيبار.
في أعقاب فرض غرامة من قبل الموظف السياسي المحلي تقدم زعيمان من زيبار، وعلى نحو غير متوقع، للشيخ أحمد البارزاني من أجل المساعدة وذلك في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 1919. ولقد نصبت القبيلتان معا كمينا للموظف السياسي البريطاني وقتلتاه مع معظم حاشيته. بعد ذلك تقدما من أجل نهب (عقرة) وانضمت إليهما قبيلة (سورجي). يبدو أن القضية برمتها عبارة عن ثورة من الغضب أكثر من أن تكون إنتفاضة مخططا لها من قبل. تقدمت قوة كردية بقيادة بريطانية نحو المنطقة وأحرقت بيوت زعماء قبيلتي زيبار وبارزان، الذين كانوا قد فروا إلى الجبال. بعد ذلك عرض الزعماء المحليون المساعدة للتعامل مع المنتفضين (الثائرين)، وهو دليل على طبيعة تعاون بين الأكراد في السياسة الداخلية القبلية أكثر مما يدل على ولائهم للأوامر الخارجية عليهم.

* النكث بالوعود من قبل بريطانيا
ولكن خلف هذه الأحداث يكمن سبب باعث على الحزن ألا وهو تخلي بريطانيا عن العهود التي قطعتها للأكراد، وهو تخلي يمكن شرح أسبابه ولكن لا يمكن بأي شكل من الأشكال إعطاء تبرير له. ينبغي أن نعيد إلى الأذهان بأن كلاً من بريطانيا و فرنسا قد صرحتا معاً في السابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1918 بأن هدفهما هو:
"التحرير الكامل والنهائي للشعوب التي عانت من اضطهاد الأتراك لفترة طويلة وإقامة إدارات وحكومات قومية والتي سوف تستمد سلطتها من الممارسة الحرة لروح المبادرة والاختيار لسكانها الأصليين "( ).
وكان (آرنولد ويلسون) يشير إلى هذا البيان عند اتفاقه مع زعماء الأكراد في الأول من كانون الأول/ديسمبر 1918 في تلك المرحلة كان "الضم إلى العراق" يعني تماماً الانضمام إلى بريطانيا، وليس إلى الإدارة العربية وهي حقيقة فهمها جيداً كل من (ويلسون) وزملائه. بيد أنه كان يوجد نوع من الخلاف بين واضعي السياسة البريطانية والملتزمين، ولكن على مضض، بمبادئ (حق تقرير المصير) والممارسين لها وعلى رأسهم (ويلسون). فبالنسبة لواضعي السياسة كان الإغراء الرئيسي لحق تقرير المصير هو إمكانية إدارة شبه -مستعمرة بدون أية نفقات، في حين كان (ويلسون) الذي تعلم في (الهند)، أمن في إدارة العراق بشكل فعال وفق "أفضل المبادئ" التي تم استنباطها من خبرة بريطانيا الإستعمارية. لقد كانت المفاهيم الخيالية مثل حق تقرير المصير مناسبة جداً لتصريحات غامضة عن النوايا، ولكن الإدارة في العراق ينبغي أن تبقى في أيدي أفضل الأشخاص المؤهلين من الموجودين، أي (فريق قوة الحملة الهندية) من الموظفين السياسيين.
    أن تعليقات (الميجور هيي)، ضابط سياسي بريطاني في (أربيل)، هي أفضل شرح لطبيعة تفكير هؤلاء الموظفين:
"إن لدى الكردي عقلا ً أشبه ما يكون لعقل التلميذ، ولكن دون أن يفتقر إلى القسوة المتأصلة في التلميذ، إنه يحتاج إلى الضرب في يوم وإلى الحلوى في اليوم التالي.
إن القسوة أو الدلال الزائدين يجعلانه صعب القياد. ومثل التلميذ أيضاً فإنه يكذب في كل مرة لكي يخلص نفسه.... ( )
وكما أخبر (ميجر هيي) رؤساءه، فإن الزعماء الأكراد مثل الزعماء المحليين في أي مكان آخر، يُقسمون إلى فئات واضحة المعالم:
"يمكن تقسيم الأكراد إلى آغوات جيدين وآغوات سيئين إضافة إلى عامة الشعب. لكل منطقة آغاها السيئ .... وهؤلاء هم أولئك الذين يتسببون في كل المشاكل والذين من الضروري أن تقمعهم بشدة وبكافة السبل المتاحة. والذي يدفعهم إلى ذلك هو الجشع والطموح الشخصي المحض... إن هؤلاء الآغاوات السيئون، دون غيرهم، هم الذين لديهم أي شيء يُقال ضد الحكومة وإننا بقمعهم إنما نحمي أنفسنا ونقدم الخدمة لعموم كردستان.
ولحسن الحظ فإن الآغاوات الجيدين، أولئك الذين يرغبون العيش بسلام، ورؤية المستأجرين لأراضيهم في حالة إزدهار ليسوا نادرين وحيثما يمكن العثور عليهم، أعتقد أنه ينبغي علينا أن لا ندخر أية وسيلة في ضمهم إلى حكمنا [أي الانتهازيين وذوي المصالح الشخصية]".
ومثلما تجاهلت هذه العقيدة الساذجة مضامين حق تقرير المصير، فإنها تجاهلت أيضاً وبكل سهولة النزاعات الطويلة الأمد بين القبائل المتنافسة المتجاورة بين الآغوات في القبيلة نفسها. إنّ اختيار أحد الآغوات دون غيره غالباً ما استخدمه الموظفون السياسيون كي يفرضوا على منافسه تبني موقف مناوئ للحكومة، مثلما فعل الموظفون العثمانيون في زمنهم. وقد أطلق (ميجر هيي) لنفسه العنان للامتعاض من الحكومة وضمن عائلة (ميران)، التي يمكن تتبع أصلها حتى اليوم، حينما أطاح بخيار حاكم أعلى لآغوات خوشناد ولمصلحته الشخصية.
وليس مستغرباً وبالتالي أن نجد بأنه حيثما كانت السياسة واضحة كان منفذوها "يكلفون بمهمة تأسيس كردستان جنوبية مستقلة تحت الرعاية البريطانية"( ). وقد دلت الأحداث في الواقع إن هناك تصميماً عملياً على إخضاع الأكراد لفوائد "النظام البريطاني"، سواء أحبوا ذلك أم لا، ولهذا السبب انفجر الغضب في مناطق العمادية وبارزان وزيبار وقامت انتفاضة الشيخ محمود الحفيد الأولى في السليمانية عام 1919.
ولكن عند التحقق فعلياً بما يطالب به الأكراد في جنوبي كردستان، فإن الإدارة البريطانية كانت تجد نفسها في حالة تخبط. في أوائل 1919 خضعت لاستشارة عامة وُصفت فيما بعد بأنها سخيفة في استفتاء شعبي. فقد تم في الواقع البحث عن آراء الأعيان البارزين، الشيوخ، ولآغوات الذين لم تكن آرائهم الشخصية أو الوطنية القومية ولا حتى السرية (بل شخصية انتهازية مصلحية).
وربما أن البريطانيين هم في موقع السيطرة بشكل فعلي ويوفرون النجدة بشكل عاجل في فترة ما بعد الحرب فإن أحداً لم يكن ليعارض وجودهم. إن الفوائد المادية في الانتماء إلى دولة "مركزية" تحت الوصاية البريطانية قد فاقت أهمية الحقائق غير المؤكدة من مجاعة وحرمان لأولئك الذين يعيشون خلف الخطوط البريطانية. وكانت الفوائد الاقتصادية ضمنياً من بين الترتيبات في عدم الانفصال لكردستان عن الأسواق العراقية. ولكن هذا لا يعني أنه لم تكن لدى الأكراد رغبة في حكم ذاتي، وهذا ما كان يعرفه البريطانيون تماماً.
قبل الهدنة (موندرس) كان رجال الإدارة البريطانيون يدركون بأنه إذا كان لابد من فكرة كردستان جنوبية مستقلة فلابد من التفكير في وحدة أكبر من القبيلة لأن التضامن الكردي، كما أشار ميجر نوئيل، لا يزال "عشائرياً "أكثر منه" قومي"( ). غير أن ذلك كان مستحيل التحقق تقريباً، حيث سرت شائعات تقول بأن الشيخ محمود قد يكون مرشحاً لأن يصبح والياً أو ملكاً على جنوب كردستان أكثر من آخرين أعلنوا معارضتهم كأعيان كركوك على سبيل المثال الذين "كانوا يشعرون بأن طريق التقدم يمر عبر بغداد وليس السليمانية. علاوة على ذلك ليس هناك أي أثر للشعور القومي الكردي في كركوك. إن السيطرة البريطانية موضع ترحيب قوي إضافة إلى انعدام أية حدود إدارية بين الأكراد والعرب"( ). وللسبب نفسه كانت كركوك تطلب وبإصرار الحماية البريطانية وليس العربية( ).   
وهكذا في أيار/ماي 1919، ولدى أول تراجع لها عن دولة قائمة بذاتها في جنوبي كردستان، بدأ التركيز ينصب على فكرة إقامة ولاية عربية في الموصل، تحيط بها دولة كردية ذات حكم ذاتي تحت قيادة زعماء أكراد و مستشارين بريطانيين.
حتى ذلك الحين لم يكن ثمة نية في التراجع عن نية الإنفصال السياسي بين الأكراد والعرب. فالغيرة التي سادت حقاً بالترافق مع الاقتناع بأن "التربية هي أفضل من تعلم" كان هناك اعتراف لهم في بغداد بـ "إننا لم نحررهم بعد [الفلاحين الأكراد] من طغيان مالكي الأراضي في ولاية الموصل الذين يشكلون الطرف الموالي للعرب والطبقة الوحيدة التي تؤيد الحكومة العربية"( ).
بعد ذلك جاءت الانتفاضات الكردية عام 1919 التي أقنعت البريطانيين الموجودين في العراق بالحاجة إلى قبضة أكثر إحكاماً في القضايا المحلية، ولكنها أقنعت واضعي السياسة في لندن بضرورة التخلي عن منطقة جبلية كانت السيطرة عليها غالية الثمن. ففي الوقت الذي إنتصر فيه الطرف الأول فإن الحديث عن كردستان المستقلة أو حتى دول ذات حكم ذاتي . قد خضع للتعديل حيث بعث (ويلسون) برقية إلى رؤسائه في لندن أعقاب انتفاضة الشيخ محمود الحفيد جاء فيها :
"إن الأحداث الجديدة لم تغيّر من رأيي المتعلق بضرورة إعطاء فعالية للسياسة المصادق عليها من قبل حكومة جلالة الملكة في التاسع من أيار/ماي بخصوص دولة كردية ذات حكم ذاتي، ولكن درجة الإشراف يجب أن تعتمد على حاجة الدولة وإلى الاعتبارات الإستراتيجية"( ).
وهذا معناه حرية تصرف مع عدم التقيد بالوعود الجديدة. لقد كان (ويلسون) يفضل يومها الانتداب من جانب عصبة الأمم وفي ظله "لا يتم اشتراط أي نظام خاص على المناطق العربية "( ).
وفي تلك الأثناء بدا أنه من الحكمة التلاعب بالعواطف الكردية بطريقة ملتبسة( ). والتسامح مع الغيرة والحسد بين منطقة وأخرى أو بين قبيلة وأخرى.
في هذه المرحلة بالضبط وقعت كردستان الجنوبية ضحية مطالب القومية العربية، فقد وصل اليأس العربي من أسلوب (آرنولد ويلسون) إلى أوجه في أوائل الصيف والذي انفجر على شكل ثورة شاملة في 30 حزيران 1920. لقد قاوم (ويلسون) طويلا ً ضد نمو الشعور القومي في العراق وتزايد نفاذ الصبر في لندن والإخفاق في تنفيذ السيطرة غير المباشرة من خلال حاكم محلي مرن.
فــــي شهــر تشرين الثاني/نوفمبر 1920 حـل (بيرسـي كوكس)
Percy Cox  محل (آرنولد ويلسون) المندوب السامي البريطاني في العراق، وفي غضون أسبوعين أقنع نقيب بغداد الكبير السن (الكهل) عبد الرحمن النقيب في بغداد أن يترأس مجلس الدولة، وبذلك أعطى الإشارة عن نيته في إقامة حكومة عربية في العراق، وهذا بدوره فرض سؤال من سوف يترأس الدولة، وما هي بالضبط حدود تلك الدولة، وحينما عُدل القانون الانتخابي في كانون الأول/ديسمبر 1920 لم يحتوي على أي اعتراف بالضمانات الممنوحة للأكراد في اتفاقية سيفر عام 1920م، والتي تم التوقيع عليها فقط قبل أربعة أشهر من ذلك. إنه من الصعوبة بمكان تجنب الاستنتاج الذي مفاده أن بريطانيا لم تعد لديها النية في ضمان المصالح الكردية، بل أصبح خاضعة للاعتبارات الإستراتيجية والاقتصادية لبريطانيا و(العراق).
في نهاية تلك السنة 1920م صدر قرار بالمسؤولية تجاه العراق من (وزارة الهند إلى وزارة المستعمرات) بقيادة وزير المستعمرات الجديد (ونستون تشرتشلWinston Churchill ) الذي سارع مباشرة إلى عقد (مؤتمر في القاهرة) في آذار/مارس 1921 (التي سيتم مناقشتها تفصيلاً لاحقاً) الهدف الرئيسي منه هو "البقاء على السيطرة البريطانية بأقل كلفة ممكنة"( ).
في (مؤتمر القاهرة) تم التخلي نهائياً عن فكرة السماح بإقامة كردستان جنوبية منفصلة لصالح الحفاظ عليها كجزء من العراق. لقد كانت المناقشة المستفيضة إستراتيجية ولكن (تشرتشل) و(كوكس) اعترفا بالحاجة إلى إدارة "انكلو- كردية" ذات الحساسية للمشاعر الكردية، وأعتقد بأن أفضل سياسة هي "اعتبار الأكراد أقلية في العراق مع إعطائهم فرصة بعد ثلاث سنوات لإعادة النظر في قرارهم"( ). وهكذا أحيلت مسألة حكم ذاتي محلي، الذي تم التطرق إلى النقاط الهامة فيه، إلى مسودة الانتداب.
في السليمانية كان (ميجر سون) معادياً لضم اللواء (السليمانية) إلى العراق العربي كما الشيخ محمود الحفيد. لقد رأى نذير الشؤم في تأسيس (برسي كوكس) لمجلس الدولة برئاسة الشيخ عبد الرحمن النقيب. وفي نهاية تلك السنة أوضح أن رأيه، هو أن إخضاع السليمانية لحكومة عربية يمكن أن يكون مؤقتاً فقط في انتظار إقامة دولة في جنوب كردستان.
ولذلك طرد (ميجر سون) بعد (مؤتمر القاهرة) مباشرة. وعمل (ميجر سون)، مثل بقية زملائه، انطلاقا من القناعة الأبوة بأنه يعرف ما هو الأفضل لأبناء البلد ولكن لا أحد يستطيع أن يشك بالتزامه بخير السليمانية وصالحها( ).
الفريق الركن الدكتور
عبد العزيز عبد الرحمن المفتي

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

2699 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع