إبراهيم الزبيدي
يتخيل كثيرون من القوميين العرب المتعصبين قوميا، أو من التقدميين العلمانيين العرب المفتونين بخطابهم التنويري المتحضر، أن بالإمكان استرجاع الكثرة الكاثرة من الشيعة العرب من الأحضان الإيرانية، أو على الأقل تخفيف سخونة التصاقهم بالجسد الإيراني، ليس فكريا وعقائديا فقط، بل سياسيا وعسكريا ووجوديا كذلك.
فالعرب القوميون يظنون أن الشيعة العرب لابد أن تتحرك فيهم الحمية القومية العربية، فترجعهم إلى أصولهم، وتعيد صياغة انتمائهم السياسي والفكري، داخل الخيمة العربية الواحدة.
أما العرب الآخرون التقدميون العلمانيون فيظنون أن الظروف السياسية في المنطقة، حتى قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، وبخصة في خضم الحرب الدامية بين صدام والخميني، فرضت على السنة العرب، سواء كانوا من القوميين المتعصبين لقوميتهم، أو من الليبراليين الديمقراطيين، أن يصطفوا ضد الهجمة الإيرانية التوسعية، ويمنعوا تدفقها داخل العراق ومنه إلى الدول المجاورة، وفرض فهمها للدين، وقراءتها للتاريخ، وأسلوبها في الحكم، على شعوب لا يناسبها ذلك، ولا يتفق مع تطلعاتها، ولا مع طبيعة العصر الحديث وثقافته الديمقراطية العلمانية الحديثة. وفي هذا الاصطفاف وجدوا أنفسهم مضطرين لأن يعادوا، أو لا يأمنوا الشيعة العرب، خوفا من تحولهم إلى طوابير خامسة تعمل ضد مصالح شعوبهم ودولهم الوطنية التي ينتمون إليها.
ومعروف حجم الظلم والتمييز والقمع والتضييق والتهميش الذي مارسه نظام صدام حسين، وكثير من الأنظمة العربية الأخرى، ضد الشيعة العرب، وضد مواطنين ذوي أصول إيرانية، حتى وإن كانوا قد اكتسبوا الجنسيات العربية من عشرات السنين، وذلك تحسبا لاحتمال غلبة الطائفية لديهم على (العروبية) أو (الوطنية).
وهذا، وبشكل خاص، ما لم يترك أمام هؤلاء المهدَّدين أو المضطهَدين، من سبيل لحماية أنفسهم وضمان مسقبل أجيالهم القادمة، أو للانتقام من ظالميهم ومضطهِديهم ومهمِشيهم، سوى الذراع الإيراني الناهض المتحفز الجديد، حتى وإن كانوا رافضين، بالمطلق، لفكرة ولاية الفقيه، أو متجاوزين، بعمق، ثقافة الطائفة وفكر العصور الخالية وعداواتها وثاراتها السقيمة.
نعم، ليس من العدل ولا من الموضوعية تعميم الحكم على جميع الشيعة العرب، وعلى جميع المواطنين المتجنسين عربيا من أصول فارسية. ولكن الذي فعلته الأيام التي تلت الحرب العراقية الإيرانية، وما أحدثه الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق، جعل نبض العِرق الطائفي أقوى من نبض العصب القومي العربي لدى كثيرين من العرب الشيعة، وأكثر سخونة من الفكر التقدمي والعلماني الحداثي.
ومن ثلاثين عاما تقريبا وحتى اليوم ظل الشيعة العرب يتقاطرون إلى الحضن الإيراني، ويستظلون بمظلته الطائفية، سواء باقتناع، أو بحكم الضرورة. بعمنى آخر. إن الذي كان في العشرينيات من عمره، أيام حرب الثماني سنوات، عندما تم ترحيله إلى إيران من العراق، أو عند منعه من ممارسة شعائره الطائفية في دول عربية أخرى، بسبب التابعية المزعومة، هو اليوم في الخمسينيات. فمن يستطيع اليوم أن يقتلع من عقله وقلبه وروحه أكواما من الأفكار والعواطف التي إن لم تكن عدائية وشديدة العداء لكل ما هو عربي، فهي ناقمة، أو متوثبة، وغير مطمئنة لعدالة عربية محتملة في معاملته، بعد اليوم، سواء في العراق، أو سوريا أو لبنان أو البحرين أو السعودية أو اليمن، خصوصا في ظل الحروب المذهبية المشتعلة التي أكلت وتأكل الأخضر واليابس معا، ولا تفرق بين متطرف ومعتدل من المواطنين الشيعة في هذه الدول.
فمن يحلم بعودة عمار الحكيم أو حسن نصر الله أو عبد الملك الحوثي أو مقتدى الصدر أو نوري المالكي، مثلا، إلى وطنيتهم، أو قوميتهم العربية، ومغادرة الحضن الإيراني، إما ساذج أو مكابر. فليس لهؤلاء كلهم، أي شيء من المجد الذي هم فيه اليوم، بدون عطف النظام الإيراني ودعمه وحمايته وماله ونفوذه. فمن سيجعل عمار الحكيم والمالكي ومقتدى والعبادي وإبراهيم الجعفري، وباقر صولاغ وهادي العامري وقيس الخزعلي وبهاء الأعرجي وموفق الربيعي أو عادل عبد المهدي أو حسن نصر الله أو الحوثي قادة وزعماء يقررون مصير دول وشعوب، ومن أصحاب المليارات بدل الملايين ؟
هذا عن القادة الكبار من شيعة السفارات الإيرانية في الدول العربية، خصوصا تلك التي ألحقت إيران عواصمها بامبراطوريتها الجديدة. ولكن ماذا عن آلاف الأسر التي تأسست مداخيلها على المال الإيراني، أو على العمل مع الأحزاب والمليشيات التي تعلن إيران نفسها، بأكثر من وسيلة، عن كونها أذرعا مسلحة تملكها وتديرها إيران؟
وحتى لو كانت لدى بعض المضطرين للاستظلال بالخيمة الإيرانية رغبةٌ أو أملٌ في التحرر منها، ومن التبعية لها، فلن يستطيعوا ولن يريدوا الفكاك، إما بسبب المواقف المبدأية العدوانية المتطرفة للغالبية من العرب، سياسيين ومثقفين ومواطنين عاديين، ضد كل ما هو شيعي، أو بسبب العصا الإيرانية الواقفة بشمم وعناد وضراوة في انتظار من يجرؤ على الارتداد عن حبها، أو التململ من سطوتها. وما الشتائم التي أطلقها حسن نصر الله على معارضيه اللبنانيين الشيعة العرب، وتسميتهم بشيعة السفارة إلا تلويح بتلك العصا التي لن ترحم.
والعلة في كل ما تقدم أن كل حزب بما لديهم فرحون. فالشيعي العربي الموالي لإيران، والمنخرط حتى في نشاطاتها العسكرية التي يراها كثيرون من العرب والأجانب عدوانية توسعية وطائفية محضة، لا يرى نفسه خائنا ولا عميلا ولا ناكرا لجميل بلده العربي عليه، بل يرى أنه يقوم بواجب الدفاع عن الحق، ودفع الظلم، ومحاربة الإرهاب العربي المسلم الوافد إليه من الشيشان وتركيا وباكستان ومن مصر ولبنان وليبيا وتونس والجزائر والصومال ونايجيريا وغيرها لقتله أو لتهجيره إلى إيران من جديد.
وما الدعوة التي وجهها ممثل المرجعية الشيخ عبدالمهدي الكربلائي إلى الدول التي تتدفق منها عناصر لداعش إلى "اتخاذ إجراءات حاسمة تحد من التحاق عناصر جديدة بهذا العصابات الإرهابية" إلا برهانٌ على أن الجمل لا يرى سنامه.
وبالمقابل يدعو الإعلام العربي، كله تقريبا، وأغلبه مسير من الأنظمة الحاكمة، إلى وقف تدخل إيران في الشؤون الداخلية للدول العربية، والكف عن تمويل المقاتلين الإيرانيين والأفغان واليمنيين وتسليحهم وتدريبهم وإرسالهم إلى سوريا والعراق واليمن لمقتلة شعوب كانت آمنة ومستقرة، ويُحمل إيران مسؤولية الحروب المذهبية المشتعلة في أكثر من دولة عربية لم تكن هي البادية في العدوان على إيران.
وكا الأحرى بممثل المرجعية أن يدعو جميع الأنظمة والأحزاب والمنظمات المتورطة في تمويل الإرهاب، أي إرهاب، سواء بالمال أو بالرجال أو بالسلاح، لتكون دعوته منزهة من الغرض ومبرءة من الحَوَل، وليثبت أنه ليس كما هو الفريق المقابل، يرى الحقيقة المرة بعين واحدة وليس بعينين مفتوحتين لا تغمضان.
923 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع