إبراهيم الزبيدي
لم يكن التدخل الأجنبي في حياة الشعوب، في كل تواريخ البشرية، وبأي شكل من أشكاله، مقبولا، بل كان وما زال وسيبقى مرفوضا بكل الشرائع والقيم السماوية والدنيوية كافة، ومقاومتُه بكل الوسائل حقٌ مشروع لا ريب فيه.
فأعزُ شيئين لدى الأمم التي تحترم نفسها وتاريخها وقدسية أرضها وكرامة أبنائها، متقدمة ً كانت أو بدائية، وأكثرُهما استحقاقا للتضحية من أجلهما بالروح والمال والبنين، هما "الكرامة" و"السيادة".
ومن أول التاريخ الآدمي وإلى اليوم ظلت الناس تمجد أبطالها الذين قاتلوا في معارك الدفاع عن استقلالها، وماتوا وهم يصدون الغزاة الأجانب عن حدودها، وتفاخر ببطولاتهم مئات السنين.
إلا في حالاتنا العجيبة هذه، وفي وطننا الغريب هذا، وفي زماننا الرديء هذا. فقد تغير المزاج الوطني والقومي والديني تغيرا دراماتيكيا عجيبا غيرَ طبيعي، وغير اعتيادي، من النقيض إلى النقيض.
فبعد أن كانت الملايين تهتف ضد الذين استعمروها، أو حاولوا استعمارها، وتبالغ في كراهتهم، وتتظاهر ضدهم، وتحرق أعلامهم، وتدوس على صور قادتهم وزعمائهم، صارت تتوسل بهم كي يعودوا ويتدخلوا في شؤونها الداخلية، كما يشاؤون، وبإلحاح منقطع النظير. بل تَعتبر تأخرَّهم في هذا التدخل خيانةً إنسانية وأخلاقية لا تغتفر.
أليست هذه مسألة بحاجة إلى تأمل ودراسة وتفسير؟ وألا تكون الدنيا قد انقلبت على أعقابها، ودار الفـَلـَك إلى الوراء دورة لم تخطر لأحد على بال، حين نرى جماهيرنا العربية العريضة، بالآلاف والملايين، تصفق اليوم لدول كانت، إلى الأمس القريب، (إمبريالية) و(صهيونية)، وتصفها بأنها (صديقة) و(حليفة)، وتريدها أن تقاتل من أجلها، وتنصرها على (عدوها) الوطني الشقيق، حتى لو أدى هذا التدخل إلى هدم مؤسسات الوطن، ومعسكرات جيشه، ومدارس أطفاله، وجسوره، ومطاراته، ومستشفياته، وحتى لو قتلت صواريخُها وطائراتها العشراتٍ أو المئات؟.
ألا ترون كيف أصبح العراق، اليوم، مضافة كل رائحٍ وغادٍ من الأجانب الحلفاء، فيخرج محتل، ويدخل آخر؟. نصفٌ من العراقيين يريد أمريكا، ونصف يريد الروس. والشيء نفسه يحدث في ليبيا واليمن وفلسطين.
ولكن أبشع أنواع هذا الانحراف الوطني والقومي والإنساني نراه في سوريا، هذه الأيام. فأحد أضلاع مثلث الممانعة والمقاومة يوجه دعوة رسمية علنية لبوتين كي يتكرم ويتعطف ويتلطف فيأتي إلى بلاده بطائراته وصواريخه وجنوده، ليعينه على شعبه، بعد أن عجز حلفاؤه الإيرانيون واللبنانيون والعراقيون والأفغان والباكستانيون عن حماية قصره الجمهوري.
وحين تصبح سوريا وطن الموت واليتم والثكل، وساحة عمليات تجرب عليها جيوش الغرب والشرق أسلحتها وطائراتها ودباباتها وصواريخها، وتدرب ضباطها وجنودها، يعلن الرئيس الروسي بوتين «أن سورية دولة ذات سيادة، وأن الأسد رئيس منتخب».
والحجة محاربة داعش ومكامن الإرهاب. ولكن جميع الأجانب كانوا هناك قبل داعش بسنين. وتشهد التقارير الدولية المحايدة بأن تسعين في المئة من ضربات الطيران الروسي تتركز على الشعب السوري في المناطق التي يحاول النظام أن يستعيدها.
والأغرب من الغرابة هو هذا التلاحم الرفاقي بين الأجانب العلمانيين الاستكباريين الكفرة، وبين حُماة مرقد السيدة زينب، والمستظلين برايات سيد الشهداء، أبطال المقاومة والممانعة والجهاد المقدس من أجل محو إسرائيل من الوجود، حتى وإن تباهى وزير خارجية الحليف الروسي، علنا، بتنسيقه اليومي مع حكومة (الصديق الحميم) نتياهو.
فلماذا اجتمع كل هؤلاء (المجاهدين)، العرب والعجم والروس، لقهر شعب يريد حاكما آخر يمنحه العدل والخبز والكرامة؟ أليست مسألة فيها نظر؟؟
ففي كل شارع وكل حارة، في كل قرية وكل مدينة جموع تنتفض. شيوخ وشباب. نساء ورجال. كبار وصغار. تقدميون ورجعيون. علمانيون ودينيون. أميٌون وعلماء. وعاضٌ وأكاديميون. أغنياء وفقراء. عرب وكورد. مسلمون ومسيحيون، سنة وعلويون. عاطلون عن العمل وموظفون. وفيهم وزراء وسفراء وقادة عسكريون ومدنيون كانوا أعمدة في نظام الأسرة الحاكمة ذاته، إلى الأمس القريب، وبرعم كل ما أطلقه الرئيس وأعوانُه وحلفاؤه المحليون والأجانب عليهم، من صفات الإرهاب والعمالة، يظلون أصحاب وطن، وسوف ينتصرون، خصوصا حين لم يعد التساهل في المحرمات من المحرمات.
3280 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع