ياسين الحديدي
منذ القديم والعرب يتغنون بكلمة "يا ليل يا عين"، مستهلين غناءهم بها، أو على حد التعبير التقليدي يستخدمونها من اجل "السلطنة" قبل الغناء، فهي تحتاج إلى مقدرة في الصوت والتفريد بين المقامات، وطبقات القرار والجواب، وصولاً لإقناع المتلقي بكلمة "آه"، والاستهلال التطريبي يعود وجوده إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، ومعروف بأنه مبتداه "يا ليل يا عين"، هل هو منسوب إلى عصور غابرة؟ أم مشتق من اسم ما؟.
حول "يا ليل يا عين" بينت رئيسة قسم الغناء الشرقي في المعهد العالي للموسيقا الفنانة الأوبرالية "لبانة القنطار" لموقع eSuweda قائلة: «يذكر الكاتب والأديب "حنا عبود" في كتابه "ليليت والحركة النسوية الحديثة" أن حقيقة اسم "ليليت" المولودة في الألف الثالث قبل الميلاد، في "الباثنيون السومري"، والتي تعني "الهواء أو الريح أو النفس أو الروح" وسميت بالليل لأنها تعمل في المساء، بعدما جعلوا منها جنية ليلية، وليست معالم "ليليت" سوى معالم ليلية لأن شعرها أسود منسدل تلعب به يد الطفل، وعيناها واسعتان سوداوان وبشرتها سمراء، وعنقها طويل وقامتها هيفاء، وخصرها نحيل، ونظرتها ساجية وأهدابها طويلة وأنفها صغير، إنها شحرورة بلاد الرافدين، و"ليليت" أطلقت على الليل أو الوظيفة التي في الليل، وكانت مسؤولة ليست فقط على أغنية المهد، بل عن الأحلام التي تربي الأطفال وتجعلهم أنقياء، والمرأة السومرية تضرع "لليليت" حتى تكون عيناً على الطفل ومع التطور أصبح النسوة يرددن أغنية المهد "يا ليل يا عين" وأغنية "ليليت" كانت بلا نهاية فما تزال تتردد على أسماعنا كل يوم منذ الفلكور السومري الذي ابتكر أغنيتها».
وعن "غناء يا ليل يا عين" بينت الفنانة "لبانة القنطار" بالقول: «إن العوامل التي سببت انتشار الغناء بلفظ "يا ليل" سهولة نطقه واستساغة وقعه في الذهن والنفس، كما أن مفهومه الضمني يرمز إلى أكثر من مدلوله الحقيقي، وكأن الغاية منه معنوية خيالية، لأن الغناء هو مناجاة لعالم الأحلام ولتداعي الخواطر وما يوحيه الظلام لصاحب التأمل، والغناء بـ"يا ليل" نداء عاطفي عام بلحن ارتجالي شجي، يراعى فيه حسن التصرف بالمقامات أو الأنغام والتطريب المباشر، والانتقالات اللحنية المؤثرة والمثيرة التي تطرد الملل وتجعل التشوق لدى السامع وتدفعه لطلب المزيد».
لكن الباحث والناقد الموسيقي "صميم الشريف" كان له رأي آخر في الغناء بكلمة "يا ليل" بقوله: «الغناء بكلمة "يا ليل" فن من فنون الغناء العربي، ولا علاقة لهذا النوع من الغناء بالأسطورة التي ربطها الغلاة بمقتل "آل البرمكي" وهو يعود كما يقول بعض الباحثين إلى العصور السابقة لميلاد السيد المسيح، والتي يتوجه فيها الناس في المعابد إلى الإله البابلي "إيل" فينادونه "يا ايل" مستنجدين به من خلال ترنيمات خاصة بتلك العصور، لتتطور مع الزمن، مع تجدد العبادات والانصراف عن الأوثان إلى الأديان السماوية، لتصبح "يا ليل" بعد قلب "فاء الاسم" في "ايل" إلى لام "ليل"، ومهما قيل في منشأ "يا ليل" فإنها بعد استقرار الشعب العربي في هذه المنطقة من حوض البحر الأبيض المتوسط، أصبحت نوعاً من فن الغناء الوجداني الذي يستثير الأشجان والأحزان».
وحول الجانب التاريخي أوضح الملحن والموسيقي "زياد حرب" بقوله: «ذكر الموسيقار الراحل "محمود عجان" في كتابه "الليل والعين في التراث الموسيقي والشعري" أن التعليلات الواردة عن أصل الغناء بكلمة "يا ليل يا عين"، هو أن نداء الليل والعين شكوى السهاد وقلة النوم، وقد ورد ذكر ذلك كثيراً في الأغاني العربية، القديم منها أو الحديث، إن كان نظمها باللغة الفصحى او بالعامية، ومن شكا السهاد فليس من العجيب أن يناجي الليل وأن يأسى على عينه ويأسف لحرمانها من النوم، وإن الترنم بهاتين الكلمتين معناه أيضاً مناجاة لليل، وعون على السهاد، وهناك مصدر يذكر أن "يا ليل يا عين" لا علاقة لها بالعربية ولا بالمعنى الليل والعين والنوم، والسهاد، بل إنهما معاً يشكلان كلمة فرعونية واحدة وردت في الأغاني
المصرية القديمة، وكان معناهما عندهما: "أيها الطريق الطويل"، أيها الطريق البعيد.. لأنها كانت تتردد على أفواه العمال في عملهم توطيناً لأنفسهم على المشقة وبعد الشق، ثم تناقلتها أجيال العمال مع الزمن حتى دخلها هذا التصحيف بعد دخول العرب إلى القطر المصري، وألف الناس أن يبدؤوا بها كالغناء كما ألفوا ابتداء الغناء بها على أفواه جموع العمال، وألفوا ابتداء الأغاني الشعبية على العموم... ومما ورد في الفكاهة عن أصل "يا ليل يا عين" هذه الرواية وهي: "أن "قينة" ضربها صاحبها فأصاب عينها وكان اسمه "ليل" وكانت تحبه وتستعطفه، فجعلت تغني وتناديه "يا عيني يا ليل"، "يا ليل يا عيني" ثم صارت بعد ذلك في الغناء.. لقد جرت العادة أن الغناء بـ"يا ليل" يتبعه دائماً لفظ "يا عين" فهل يعزُ الإنسان ليله فيجعله بمقام عينه؟؟ أم إن أول من أردفهما كان أعور؟..
إن الغناء بلفظ "يا عين" يكون تابعاً للفظ "يا ليل" ويتساوى النداءان من حيث الاصطلاح الموسيقي، أي إن ما يسري على اللفظ "يا عين" يسري على "يا ليل"».
لدى العودة إلى كتاب "ليليت والحركة النسوية الحديثة" للأديب "حنا عبود" تبين أنه يؤكد أن أغنية المهد الهادئة البطيئة في اللحن تغيرت كلماتها في أعقاب التغيرات العميقة التي أصابت المجتمعات المتوسطية وغير المتوسطية، ويصدح المغنون بها، وهم يرددون المواويل التي تقوم على اللحن الهادئ لأغنية المهد، فلا يوجد موال عنيف اللحن سريع الإيقاع، كما في الأغاني المختلفة مستخدمين في معظم الأحيان أغنية "ليليت" لتحميل أغانيهم بأداء "يا ليل يا عين" والتي يعود لحنها إلى آلاف السنين.
وكذلك إلى كتاب الموسيقار الراحل "محمود عجان" لنجد أنه ورد قولاً عن
"بطرس بن يونس البستاني" في قاموسه محيط المحيط، إن الليل في العبرانية "ليل" وفي السريانية "لليا" وفي الآشوري "اللو" والآرامي "لليا"، وأصلها هي من "إيل" اسم الله في اللغة العبرية ومنها أسماء الملائكة المنتهية أسماؤهم بكلمة "إيل" مثل: "جبرائيل وميكائيل وإسرافيل"، لكنه يستنتج أن كلمتي "يا ليل يا عين" كانتا في عهد المماليك ومن كان قبلهم.
والموسوعة العربية في صحيفتها ذات الرقم 1598 تعزي مرجعية الكلمتين إلى أصل فرعوني أو مصري قديم بمعنى "استيقظي يا عيني".
وتبقى "يا ليل يا عين" تنشدها الأصوات الجميلة ونترنم على آهاتها ولو بعد حين...
943 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع