الدكتور مهند العزاوي*
يعد التحليل السياسي بمثابة بحث منهجي يعتمد الاطر الاكاديمية والعلمية في انتاجه , ويعتمد المحلل السياسي على خطة بحث دقيقة متقنة يعدها وفقا لمراحلها , ويضع اطرها الزمنية ,
ويحدد المشكلة ويضع فرضياتها ليتمكن من الوصول لافضل المخرجات , ويمكننا وصف التحليل السياسي بانه مزيج من الاداء البشري الفكري والتطبيقي , حيث يقوم المحلل بالجانب الفكري بتفسير محترف للجانب التطبيقي الذي يجسد افكار وأراء وتوجهات ومسالك الاخرين , سواء كانت سياسية او فلسفية او عقائدية او عسكرية او امنية واقتصادية , ويتم ذلك بتحليل عناصر التأثير البشري في مفاصل مختلفة تحددها الحقائق والمعطيات والوقائع , التي نطلق عليه عناصر مسرح التحليل , حيث يتم على اثرها تتبع الحدث ومعرفة مفردات العمق المخفية فيه وكشفها وتحديد عناصر القوة والضعف بغية انتاج مخرجات الوقاية الاستراتيجية منها , ويتم ذلك عبر حزمة المخرجات الفاعلة التي تحقق وقاية محددة الاتجاهات بضمنها علاج محدد للضرر والآثار المترتبة على تداعيات الحدث موضوع التحليل , ولا يمكننا وصف المتفوه الحزبي او المتحدث العادي عبر الاعلام بالمحلل , لكون الاول يجسد عقيدته السياسية ويتخطى الحقيقة ويسوًق لعقيدته ويطرح التبريرات للسلوكيات والافعال ضمن ما يطلق عليه حالة الانكار السياسي التي لا ترتبط بالحقائق والوقائع , اما الثاني فهو متحدث عادي يشغل الفراغ الاعلامي وفقا لمنهجية الوسيلة الاعلامية , ولذا ينفرد التحليل السياسي بالمنهجية العلمية والحيادية وهو الحقيقة الناصعة التي يتطلب حيارزتها مهارات متعددة وخبرة وحيادية وتجرد عن القطبية الفكرية .
المصفوفة الفكرية للمحلل السياسي
يعمل المحلل السياسي على جمع الاحداث وتحليلها وتصنيفها , وبيان ماهو مترابط وماهو متباعد [1], ولعل هناك عامل ثابت واخر متحرك وعندما يقوم المحلل بجمع الاحداث المترابطه والتي تجسد العامل المتحرك فانه سيصل بلا شك الى العامل الثابت , ويتم ذلك من خلال وضع الاحداث ضمن مصفوفة الاحداث ويرتبها حسب الحدث والموقع الجغرافي والتوقيت والادوات الفاعلة وحجم التاثير الذي احدثته تلك الاحداث, وبدون شك ستبرز العوامل الثانوية او المتغيرة والتي يمكن وضعها على شكل مصفوفة يمكن من خلالها تتبع المراحل المقبلة والتنبوء بها , وعلى سبيل المثال يمكن ان ناخذ الملف النووي الايراني والمحادثات المتعلقة به والمد والجزر الذي يتمخض عنه بين توافق واختلاف , ويعد هذا عامل ثابت ام العوامل الثانوية او المتحركة والمرتبطه بالعامل الرئيس على سبيل المثال المناروات العسكرية المتعددة في مضيق هرمز وهي رسائل سياسيه بادوات عسكرية وعصا ضغط على المجتمع الدولي كون المضيق ممر دولي للشريان النفطي والاقتصادي للدول العربية المحاذية للخيج العربي والتي ترتبط بعلاقات وتحالفات مع الدول الفاعله في المجتمع الدولي وبنفس الوقت يمكن النظر الى التصعيد الدرماتيكي في العراق على انه عامل ثانوي مرتبط بالعامل الرئيسي او تحريك مليشياتها في لبنان لفعل ازمة ما على الحدود الاسرائيلية او في الداخل اللبناني وهكذا ويتم وضع هذه الاحداث ضمن مصفوفة متناسقة يتوصل من خلالها المحلل الى الهدف الرئيس او العامل الثابت كما ذكرنا .
اسئلة وأجوبة
تختلف المدارس الفكرية وسياقات التحليل من شخص لاخر ومن مؤسسة لاخرى وبدون شك هناك توجيه محدد للمؤسسات واتجاهات وتحديدات تلتزم بها و اما الافراد والاشخاص المهتمين بالتحليل كاحتراف او ذوي مؤهلات العلوم السياسية ينتهجون اطر غير محددة حسب الاهتمام , ولذلك ينعش المحلل السياسي فكره وذاكرته من خلال وضع حزمة اسئلة عن موضوع التحليل ويلزم نفسه بالاجابة المتقنة والمسندة عليها وهي :[2]
هل استطيع؟ من ابرز الاسئلة التي يسألها المحلل هي فحص القدرات الذاتية والمقدرة على سبر التحليل بشكل منطقي موضوعي وربط الاحداث والمعلومات المتيسرة بحيادية وتجرد , حيث ان لابد للمحلل السياسي المحترف ان يتجرد عن افكاره الشخصية وعقائده الدينية وينظر للاحداث من وجهة نظر حيادية , وكذلك يتجنب الجزم في التوقعات والتنبوء السريع الغير مسند والمعني بالتحليل , لان المتغيرات تخضع لاعتبارات الارض والمسرح التفاعلي وقد تختلف عن المسرح الفكري والافتراضي في هامش يمكن ان يحدث تغيير .
ماذا؟ : تفسير منطقي لما يحدث مع بحث اولي عن الافرازات والعناصر العوامل الثابتة والمتغيرة ليخرج بحصيلة تفكير منظم اولية على سبيل المثال نشوب نزاع مسلح بين دولتين او ظهور ازمة علاقات بين دولتين ..الخ
ماهي المعلومات؟ : المحلل ليس رسول او نبي يوحى اليه بل هو باحث يرتقي للمفكر يربط الاحداث باستخدام المعلومات المتيسرة والمتاحة له والبحث عن امكانية جمع معلومات خاصة او مستحصلة موضوع التحليل , وعلى سبيل المثال الاخبار المنشورة عبر وسائل الاعلام المقروءة والمرئية والمسموعة تعتبر مواد خبرية ذات تصنيف رابع في دقة المعلومات كون الخبر ياخذ طابع اعلاميا يرتبط باستراتيجية الوسيلة الاعلامية والراعي المالي , ويخضع لصناعة القصة الخبرية التي يندرج فيها التضخيم والتبسيط والتضليل مما يجعل هذه المعلومات تختلف عن اطار المعلومة الخام , ويفترض بالمحلل الاعتماد على التقارير الموثوقة والبيانات والمؤشرات ذات العلاقة المصنفة بدقتها وكذلك يمكنه استخدام الجهد الشخصي ومصادره الخاصة المتواجدة في ارض الحدث ليحقق تماس بالمعلومات كامل ليستطيع توظيفها في التحليل
متى؟ : يضع المحلل الوقت والتوقيتات في اجندة خاصة تتعلق بالتحليل ويعطيها اهتمام بالغ لان التوقيت له دلالة في غاية الاهمية كونه مرتبط بتاريخ احداث متحرك قد يكون احيانا سيال[3] , وعندما يغفل المحلل توقيت الحدوث الاولي والتسلسلي والوشيك اللاحق فانه يفقد قيمة التحليل , لان كل استنتاج او تنبيه يصل متاخرا بعد حدوث اي موقف لاقيمة له .
لماذا؟ : هذا العنصر بمثابة العمود الفقري الذي يسند التحليل خصوصا عندما يسبر المحلل غور الاحداث بشكل دقيق, ويبحث عن المسببات والدوافع فانه يضع يده على مرتكزات الحدث وعناصره ويجعله مبحرا بهدوء في عاصفة الاحداث وبثقة تامة , على سبيل المثال ظهور تظاهرات واعتصامات في اوكرانيا في منتصف عام 2014 يعود السبب بشكل افتراضي سهل انه لاغراض الاصلاح السياسي او ممارسه ديمقراطية وبشكل اعمق يكون السبب تغيير النظام السياسي القائم .
أين؟ : تعتبر الدلالة المكانية امرا في غاية الاهمية فان صانع الاحداث يختار الموقع ليصل رسالته الاستراتيجية والتكتيكية للمستقبل , وعندما يضع المحلل فلسفة المكان والمكان الصعب وتشبيكه بالوقت والاسباب فانه يصل الى مرفئ العقل الناضج في الوصول الى تحليل منطقي , على سبيل المثال استخدام المناورات العسكرية في مضيق هرمز حيث تعطي هذه الرساله السياسية بادوات حربية في موقع جغرافي محدد ذو اهتمام عالمي يتسق بالمصالح المالية والاقتصادية والتجارة النفطية يعطي انطباعا ماهو الغرض والتوقيت المطلوب ايصال الرساله منه وحساسية الموقع الجغرافي .
من؟ : لكل حدث فاعل ولكل فاعل مغذي وداعم وهنا لابد ان يميز ويصنف القائم بالتحليل من؟ وبشقيها من الفاعل ومن المستهدف وفي من الفاعل يجري بحث الادوات الفاعلة والممولة من محطات انطلاقها وتدريبها , ويعتمد على قاعدة البيانات المحدثة او المستحصلة عنها اضافة الى معرفة مرجعية الادوات الفاعلة المحلية , ومن خلالها سيتم التعرف على الفاعل الثانوي والرئيسي , وقد يكون هناك ضمن شبكة الفاعلين فاعل مركزي محوري , وفاعل وكيل , وفاعل محلي كادوات التنفيذ , وبعد مزاوجة الفعل والاستهداف يستطيع المحلل الوصول الى استنتاجات موضوعية منطقية ترتبط بالاحداث , على سبيل المثال هناك فاعل رئيس جيوقاري دولة كبرى يقوم بتحرك الاحداث عبر فاعل وسيط اقليمي دولة فاعلة ومن خلال ادوات مختلفة مليشيات او تنظيمات ارهابية او خلايا نائمة او جريمة منظمة لاحداث تاثير دارماتيكي في دول ما , بغيو الحصول على اداة الاخضاع السياسي لتلك الدول , وعلى المحلل البحث عن المستفيد الاخير لوضع ادواته تحت المتابعة والتنبوء القريب بالاحداث اللاحقة.
كيف؟: سبق اسلفنا ان النمط والسولك احد عناصر التتبع وعندما يقراء القائم بالتحليل الكيفية المتعلقة بالاحداث ويسبر غورها بقابلية التصور المنطقي فانه يستطيع ربط كافة خيوط الاحداث ويشبكها , وبذلك يؤمن تحليل منطقي واعي مرتبط بالحدث وتداعيته وتطوره المحتمل وافرازاته , ويرتبط سؤال كيف تمكنت تلك الدولة او الدول من احداث تاثير معين في موقع جغرافي ما موضوع التحليل , وبالغالب يتم تقسيم ادوات الصراع وفقا الى لوحة الشطرنج حيث تكون ادوات الحدث المختلفة بمثابة اللوحة العليا , والرسائل السياسية وادوات السياسة الناعمة هي اللوحة الوسطى , ومنظومات صناعة الاحداث وصناعة واتخاذ القرار وتوجيه الموارد هي اللوحة السفلى التي ينطلق منهاحجر الشطرنج , وعندما تربط كيف تم صناعة وفعل الاحداث تصل بشكل مباشر للمستفيد وداعم الاحداث .
ثم ماذا؟ : هنا المحلل يستخدم قابلية التنبوء والخبرة لكي يصل الى اعمال متوقعة واحداث وشيكة قد تحصل ليجري الوقاية منها ومعالجة الحاصل , وهذا يعتمد على رصانة التحليل وربط الخيوط والاستنتاجات الذكية الواقعية ومخرجاتها المتفاعلة , وهنا يستنتج المحلل المرحلة القادمة ومخرجاتها , وعلى سبيل المثال عندما يتم محاصرة دولة ما اقتصاديا فان مخرجاتها الصلبة شن الحرب عليها ومخرجاتها الناعمة هي اخضاعها سياسيا للارداة الفاعلة من خلال اذعان تلك الدولة , كما ان مخرجاتها المزدوجة استخدام الاثار النمطية وتوظيفها لاحداث تغيير يكون جزء من فلسفة الاخضاع السياسي , والمحلل الناجح يستطيع ان يتوقع وفقا للتنبوء القريب ما هي المرحلة القادمة .
يستطيع المحلل السياسي ان يستخدم اي شكل من اشكل التحليل السياسي وقد اطلقنا عليها مسميات متعددة , قد لاتختزنها ذاكرة المعرفة ولكنها وصف الواقعية التحليلية وفق حالات مختلفة , كما ويمكن مزج الانواع مع تصنيف تناولها بشكل يتسق بالتسلسل المنطقي في استعراض الاحداث مع مراعاة الجانب التاريخي من التحليل مع التحليل الوصفي ,ولايمكن التلاعب بالتسلسل المنطقي لعناصر التحليل السياسي , ولايمكن البدء بالتحليل وطرح الرؤى الشخصية للمحلل دون الاستعراض التاريخي ثم التحليل الوصفي الذي يصف الواقع السياسي او الظاهرة او الازمة وبذلك يفقد قيمة التحليل , لان من الضروري ان يستند المحلل السياسي على حقائق ووقائع ومعلومات وابعاد تاريخية ترتبط بالحدث او مشابه له قد حصلت , وبذلك يستطيع ان يثق بتحليله المسند والمسوؤل والذي يشكل دعامة فكرية منتجة بعقلية الباحث الذكي
مقتطفات من كتاب مهارات وفن التحليل السياسي... الاول عالميا
*المؤلف الدكتور مهند العزاوي
[1] . خبرة المؤلف في التحليل السياسي واحد اساليبه في التحليل
[2] . نظام هذه الاسئلة يستخدم في تقدير الموقف العسكري ويعد من اهم وابرز المواد في كلية الاركان العراقية لمنح شهادة الماجستير في العلوم العسكرية .
[3] . تعني تداخل الاحداث وسيولتها وتعدد التاثيرات التي تجعل المشهد مرتبك ومشوش .. المؤلف
1742 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع