إبراهيم الزبيدي
وأخيرا (تحررت) الفلوجة لتصبح خرابة، وليتحول أهلها إلى شذر مذر. قتلى، بالمئات من شبابها وشيوخها، وحتى من نسائها وأطفالها، إما على أيدي الدواعش، أو بقصف الحكومة (الوطنية) و(مجاهدي) الحشد الشعبي، ومفقودون بلا عدد، ومشردون في العراء يُعَدون، وفق أصدق التقديرات، بعشرات الألوف.
أما القتلى والجرحى والمشوهون والمفقودون من جيش الحكومة ومليشياتها، و(ثوار العشائر)، من أول حروب الرمادي والفلوجة، فلا يَعرف أعدادَهم سوى الله ورسوله والغارقون في المحاصصة. ورغم أن أحدا لم يعطِ أرقاما صحيحة لأعدادهم، إلا أن جنائز التشييع التي لم تنجُ منها محافظة جنوبية ولا غربية تفضح المستور. وهنا نعود إلى أول هذا الفيلم المرعب المخيف.
إن دولةً يقودها قاصرٌ، سياسيا وعقليا وإنسانيا، كنوري المالكي و(إخوته) في الجهاد (الحسيني) المقدس لا يُنتظر منها أن تكون عادلة مع أحفاد يزيد.
ولأن (أبطال) المقاومة الإسلامية والعشائرية السنية المنتفخة بالتطرف الطائفي، و(شجعان) مخيمات الاعتصام وخُطبهم النارية، وتهديداتهم بغزو العاصمة وإسقاط الحكومة (الكافرة) أوْهمَ البعضَ من شباب الرمادي والفلوجة الذين دأبت الفضائيات السنية على تسميتهم بـ (ثوار العشائر) بأن الاستعانة بـ (المجاهدين)، سواء كانوا دواعش أو قاعديين أو متشردين أو (قبائليين) متكسبين، حلالٌ وجهادٌ واجب على كل فلوجي شريف.
لقد أوهمهم قادتهم، شركاءُ المالكي في المحاصصة، و(تجارُ الشنطة) الساكنون على أبوب العواصم السنية العربية الغنية، أصحابُ القصور المحصنة والسيارات والحفلات الباذخة في عمان ودبي ولندن، بأن وراءهم قوىً لا تقهر، وأن حرب التحرير المقدسة السنية الشيعية قد حان أوانها، والله أكبر، والعزة للمجاهدين.
الأمر الذي جعل إيران وطوابيرها العراقية تتوهم، هي الأخرى، بأن العالم السني يعلن النفير العام من أجل طردها من العراق، فتُوجه (وكيلها العام) نوري المالكي وإخوته في الائتلاف الوطني ومليشيات بدر والعصائب وجند الإمام الحسين باستخدام الدولة، بقوانينها ومؤسساتها وأموالها، لتركيع المعتصمين، وتمزيق شملهم، لإحراج القادة السياسيين السنة المشاركين في نظام المحاصصة أمام ناخبيهم، من ناحية، وللانتقام من كل عراقي هتف يوما بسقوط الظلم الحكومي، أو طالب بالعدل والمساوة بين العراقيين، من ناحية أخرى، دون أن يفرزوا بين مطالب عادلة ومشروعة وغير مسيسة، وبين شعارات استهلاكية انتهازية مغرضة.
فكانت الاعتقالاتُ دون تهمة، بقانون 4 إرهاب، والملفاتُ الملفقة، والاغتيالات، والإشاعات الخبيثة غير النزيهة المراد منها تشويه سمعة خصومه السياسيين، سلاحَ المالكي الفاعل الذي حقق له النصر الكبير على خيم الاعتصام، وكان النائب أحمد العلواني أول ضحاياها الذي حَكم عليه المالكي بالإعدام، وفق أحكام القانون العادل المستقل، بتهمة القتل والتعدي على رجال الأمن، وعاش العدل. ولكن دمَه ليس في رقبة نوري المالكي وحده، بل في رقاب رفاقه المهرجين الكبار.
ثم انتصرت الحكومة المالكية، ولكن نصرها كان زرعا لهزيمة قادمة مؤكدة أسقطته في النهاية، وجاءت بخليفته حيدر العبادي، لتبدأ فصول المهزلة الأكبر التي لم يدفع ثمنها المالكي، ولا رافع العيساوي، ولا الأخَوان نجيفي، ولا حاتم علي سليمان الذي كان، يومها، نجم الفضائيات السنية وهو يعلن قرب الزحف المقدس على وكر الدولة الكافرة في بغداد، بل دفع ثمنها الباهض، دما ودمارا، أهل الفلوجة الذين سكتوا عن ولادة داعش بين ظهرانيهم، وعن نموها وتغولها وهيمنتها على مفاتيح الحل والربط ليس في الفلوجة وحدها، بل في محافظة الأنبار كلها، ونينوى وديالى وصلاح الدين.
هذا هو الفيلم الرديء من أوله إلى نهايته، باختصار شديد. والآن صار في إمكاننا أن نسأل، ماذا ربح أهل الفلوجة، سواء (الأبرياء) منهم، و(المستأجَرون)، و(المستَغفلون)، بعد هروب الدواعش منها، ودخول (مجاهدي) الحشد الشعبي هاتفين (لبيك يا حسين) لسحق أحفاد يزيد؟ ثم ماذا ربحت الطائفة السنية، ذاتها، والشعب العراقي، من مسلسل الذبح الحلال العراقي الطويل؟
وبرغم أن أحدا لا يستطيع تبرئة نوري المالكي من استدراج الفلوجة إلى فخ العنف الطائفي السني لمكاسرة العنف الطائفي السلطوي الإيراني الحاكم في العراق، إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أيضا أن الغلاة من محترفي العمل السياسي السني، بجناحيه، المتفاهم والمتعاون والمتقاسم مع المالكي، والرافعون الأشداء لألوية المعارضة والمقاومة، دون استثناء، يتحملون جريرة تهديم الفلوجة، وذبح المئات من أهلها على أيدي داعش أبي بكر البغدادي وداعش نوري المالكي وهادي العامري والبطاط، وتهجير من تبقى منهم ليصل بهم الحال إلى مناشدة (المُحسن) حيدر العبادي أن يمد لهم يد الرحمة والإنسانية والدين، ويتكرم عليهم ببعض الخيَم لستر عوائلهم المبعثرة في العراء.
والدائرة ذاتها سوف تدور، دون ريب، على الموصل، وعلى ما جاورها من مدن وقرى، ليصبح أهلها طعام المدافع والصواريخ وقنابل الطيران وسيوف (المجاهدين)، ولتفترش الألوف من نسائها وأطفالها وشيوخها الأرض وتلتحف بالسماء، من أجل أن تسلم رؤوس الشلة الراكبة على ظهر الطائفة السنية، والمتاجرة بمصير أبنائها وأمنهم وكراماتهم، والذاهبين بالوطن العراقي إلى الجحيم. وكلُ حرب عراقية مقدسة جديدة ونحن بألف خير، وعيدٌ مبارك على الجميع.
901 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع