خالد حسن الخطيب
في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر كان السفر من العراق الى مكة المكرمة يستغرق اشهر حيث كانت القوافل المسافرة بواسطة الجمال هي الوسيلة لسلك مجاهل الصحراء بعد ان جهزت نفسها بالماء الموضوع داخل القرب الجلدية ,
غير ان الكثير من الحجاج العراقيين كانوا يسلكون البحر للوصول الى مكة عبر الموانئ السورية حيث يروي لنا بعض المعمرين ان الحجاج الذين يموتون اثناء وجودهم على ظهر السفن تلقى جثثهم الى البحر بعد ربطها بواسطة اثقال ( وهو العرف المعمول به ) بعد تغسيل وتكفين وأداء الصلاة عليها لعدم وجود ثلاجات لحفظ الجثث في ذلك الوقت , فكانت اسراب اسماك القرش تسير خلف هذه السفن لانتظار القاء جثة احد المتوفين لالتقاطها واكلها على الفور . و في اربعينات القرن المنصرم تبدل الحال وأصبح السفر الى مكة بواسطة السيارات و الباصات الخشبية من نوع شوفرليت او دوج او انترناشنال حيث اشتهرت مدينة النجف الأشرف بوجود ابطال من ذو المهن قاموا بتحوير شاحنات النقل الى باصات تسمى ب ( دك النجف ) لتسع الى اربعون راكبا . وكان صاحب الباص او المتعهد ( الحملدار ) ينقل الحاج من محل اقامته الى مكة المكرمه بأجور لا تتجاوز عشرة دينار وهذه الاجور ظلت ثابتة لعام 1952 وهذا المبلغ للنقل فقط , اما اجور سمة الدخول للأراضي السعوديه من المنافذ المتعدد فكانت عشرة دنانير يدفعها الحاج من جيبه الخاص . وكانت هناك عدة طرق ومنافذ للوصول الى مكة لكن جميع هذه الطرق طويلة و تسلك الصحاري حيث كانت الرمال تغطي الطرق تماما فيقوم منتسبين الدوائر الفنية السعوديين برش بمادة النفط الاسود بغية عدم تطاير وزحف الرمال على الطرق المعبدة حديثا وبحدود خمسون مترا على جانبي الطريق . وكان الحجاج يأخذون طعامهم معهم المتكون من الخبز اليابس والبصل وقليل من الملح والدهن والتمر والدبس والشاي والسكر والبرغل وكانت كل جماعة تتألف من 4-5 افراد يقومون بصنع الطعام الخاص بهم وكان المتعهد يحمل معه الخيام للمبيت بها حيث لا يبقون الحجيج في مكة اكثر من خمسة ايام . وكانت المياه شحيحة بسبب عدم وجود التكنولوجيا لسحب الماء من بئر زمزم , اما السقاية فكانت تباع ب ريال واحد وهي عبارة عن ( قارورة خزفية ذات رقبة طويلة – * تنكه * – تحتوي على اربعه التار ماء فقط ) تسترجع فورا الى بائع الماء حيث كان الحجاج يتفاخرون في توزيع الماء للأجر ( السبيل ) علما ان الدينار العراقي كان يصرف ب 11 ريال سعودي من سنة 1964 لغاية 1990. وكانت مكة قديمة وبيوتها قديمة ايضا وغير نظيفة حتى ان الاوساخ والذباب والبعوض تملئها بسبب قلة النظافة و كانت هناك دارا بينها وبين الحرم المكي مسافة عشرة امتار يقال لها دار ابو لهب خصصت مرافق صحية غارقة بالقاذورات والأوساخ اما المرافق الصحية فكانت سيئة للغاية لذلك كانت الامراض تسري بين الحجاج بصورة سريعة علما ان دفتر الصحة المخصص لكل حاج كان يخرج من الدوائر الصحية المخصصة والمنتشرة في محافظات العراق واغلب هذه التلقيحات هي ضد الكوليرا والجدري والإمراض السارية لذلك لجاءت السلطات السعودية الى رش مادة ال DDT لمكافحة الحشرات كل يوم والتي تشبه الجص الابيض في شوارع مكة للحد من انتشار البعوض والذباب والحشرات وكانت عملية الرش بدائيه حتى ان شوارع مكة كانت بيضاء اللون بسبب كثرة رش هذه المادة السامه . اما محل نحر الذبائح ( المجزرة ) فهي في جانب مكة وتسمى ( منطقة المعصيم ) وكانت بناية بسيطة وفي احدى جوانبها انابيب الماء الذي يستعمل للغسل حيث تباع الحيوانات هناك بكاملها و تذبح وتترك على الارض وتداس بواسطة الاقدام والأرجل بسبب صغر المكان وتدافع الحجاج وكانت الروائح المنبعثة من هذه المجزرة تسبب القيء لكل من يدخل المكان بسبب تفسخ الحيوانات من شدة الحر . فتقوم السلطات السعودية في ذلك الوقت بدفن هذه الذبائح كل يوم وتجمعها بواسطة آلات الحفر ( الشفل) ثم يوارى هذه الذبائح التراب تخلصا منها وهذه العملية تستمر طيلة ايام الحج . اما بيت الله او الكعبة فكان الحرم في ذلك الوقت صغير و محاط بحوانيت ومحلات لبيع الطعام والحاجات المختلفة , وكما يعلم الجميع ان الكعبة تقع في وادي وتحيط بها الاراضي المرتفعة فكأنما عندما تأتي من الهضبة المحيطة بالحرم التي تحتوي على دور السكن والمحلات التجارية و الفنادق فعندما تنظر الى الكعبة تجدها في منخفض . وكان الطواف حول الكعبة على ارض مبلطه بالأجر الابيض وكان عرض منطقة الطواف بحدود من 10 – 12 مترا فقط ثم تحيط بها ارض منبسطة مغطاة بالحصى الناعم للجلوس علية وأداء الصلاة وبعرض 15 مترا ويحيط بهذا الحصى رواق مشيد من العهد العثماني على شكل قباب متعددة تحيط بالحرم والحصى . وكان الحمام يملئ جدران هذا الرواق والحجيج يرمون اليه الحبوب للتبرك ثم خلف هذا الرواق تأتي منطقة السعي بين الصفا و المروة وكانت مسقفة و بحدود 400 مترا . اما بئر زمزم فيقع في منخفض بالقرب من جبل الصفا وفيه منفذان للدخول ( درج بعرض 3 متر ) وفي الداخل توجد انابيب موضوعة على احواض بارتفاع متر حيث يأتي الماء من بئر زمزم بواسطة مضخات بدائية ويقوم الحجيج بغسل اجسامهم بهذا الماء حيث توجد اماكن لتصريف الماء الزائد وكان بعض الحجاج يغسل ملابسة للتبرك ومنهم من يملئ الاواني لجلب هذا الماء المبارك الى العراق . وكان اغلب الحجاج العراقيين يشترون الكفن من مكة وغسله بماء زمزم ونشره داخل الحرم المكي حتى تجف فكانت صورة هذه الاكفان المنشورة والمعلقة على جانبي الحرم تجذب النظر لكل من يمر من ذلك المكان وهذا هو احد اسرار ماء زمزم الذي يتبارك به كل المسلمون والعراقيين خصوصا . وكان عدد الحجاج في ذلك الوقت لا يتجاوز اكثر من 500 الف حاج بسبب صعوبة الوصول وعدم وجود الطائرات وغالبية الحجاج من كبار السن لكن والحق يقال ان اكثر الحجاج والقاصدين لبيت الله الحرام كانوا من العراقيين ثم بالدرجة الثانية يأتي الايرانيين بعدها الاتراك ثم المصريين . اما بقية الجنسيات فكانت قليله لعدة اسباب منها اقتصادية و امنية . وكان الحاج العراقي يشتري الهدايا من مكة ويهديها لأقاربه ومحبيه من ما غلا ثمنه وقل وزنة وأول هذه الهدايا هي الكحل او ما يسمى ( كحل مكة) وهي عبارة عن اكياس جلدية في داخلها مادة الكحل بحدود 5 غرام وهذه الاكياس مخاطه خياطة محكمه , وكذلك شراء المكحلات وهي عبارة عن انية معدنية مصنوعة من البرونز لحفظ الكحل وفيها ( ميل ) تقوم بواسطته بإدخال الكحل بالعين . و كان الحجاج العراقيين يشترون ماء زمزم الموضوع في اواني معدنية من الصفيح زنة ربع لتر حيث يجري غلق ولحيم هذه الاواني بصورة محكمة من قبل محترفين المهنه بحيث لا ينفذ الماء ابدا والسر من ذلك ان هذا الماء يرش على جسد و كفن المتوفي لأجل الشفاعة ولقاء الله بوجه حسن لذلك كانت اغلب دور العراقيين لا تخلو من هذا الماء المبارك في فترة الثلاثينات وهذه هي احد اسرار ماء زمزم ايام زمان , وكذلك لتحنيك الوليد الجديد بهذا الماء عند الولادة . وكان العقيق وغيره من انواع الخرز النادرة تستهوي الحجاج العراقيين حيث يقوم الافارقة واليمنيين باستخراجها من اعماق البحار ويجلبها الحجاج الى العراق لعمل المحابس والقلائد وغيرها , وكذلك جلب نوع اخر من الخرز المسماة خرز الحليب وهي خرزه بقدر ثمرة البلوط حيث تكون مثقوبة وتعلق برقبة المرأة التي تلد حديثا لمساعدتها في زيادة در الحليب اعتقادا من ان هذه الخرزة سوف تساعد على در الحليب بصورة سخية . ومن الهدايا التي يشتريها الحجاج باعتزاز في ذلك الوقت هي السبح فكانت من الخشب ذو الرائحة الزكية الذي يجلب من مناطق الهند و افريقيا وكذلك سبح اليسر التي تستخرج من اشجار في قيعان البحار اذ اصبح هذا النوع مفقودا تقريبا . وتزين سبح اليسر بإضافة خرزات ومسامير فضية وذلك لحفظها من التكسر وبنقشات مختلفة تسمى عين البزون . اما طين مكة وبعض الادوية النباتية فكان لا بد لكل حاج ان يشتري هذه الاشياء تبركا بهذه الارض المباركة التي حباها الله سبحانه وتعالى . اما السواك الذي هو عرق شجرة الاراك ويستعمل لتسويك وتنظيف الاسنان فكان من الضروريات القصوى لكل حاج او معتمر . وكانت هناك بعض الحيوانات البحرية التي تشبه ( الابوبريص - الزغل ) حيث تسمى هذه الحيوانات ب السقنقور وهي مجففة ويابسة وتستعمل كما يعتقد بعض الناس لتقوية الجنس والمساعدة على الانجاب حيث تدق وتسحن وتأكل مع العسل . ومن الجدير بالذكر ان شركة الطيران السعودية لم تكن عضوا في منظمة الطيران العالمية في ذلك الوقت ( اياتا ) حيث لم تكن مواعيد الطيران دقيقة وكانوا الحجاج يأتون الى مطار جدة و قد هيئت لهم سلطات المطار جملونات او قاعات كبيرة فيها عدد كبيرة من الاسرّة التي تعد بالمئات وكل سرير علية فراش وشرشف و وسادة وغطاء حيث ان المسافر يجلس على هذا السرير من اجل الراحة لحين انتهاء المعاملات الرسمية من كمارك و جوازات وتحديد المطّوّف حيث يقوم المطّوّف السعودي بتهيئة الباصات الخاصة لذلك وعند مغادرة الحجيج اسرتهم يهب عمال متخصصون بتبديل هذه الوسائد و الشراشف والأغطية من اجل تهيئتها الى مسافرين جدد .
وعند رجوع الحاج بعد اداء فريضة الحج الى بلده العراق يقوم بإقامة وليمة عشاء لأبناء منطقته ومحبيه بعد ان يقيمون احتفالا دينيا يشمل قراءة القران والتواشيح والمدائح النبوية بعدها يقدم لهم العشاء اذ يتقدم المهنئون بسلامة عودة الحاج بقولهم حج مبرور و سعي مشكور وتجارة لن تبور وان شاء الله العودة نحن وإياكم الى بيت الله الحرام .
2593 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع