هل كاد المعلم أن يكون رسولا؟!

                                                           

                                  صالح الطائي

طالما كان الإنسان متحيزا، يختار ما يوافق مصالحه، ويسكت عما سواه، ولا حدود لهذا التحيز الكبير مطلقا. ومن صور التحيز أننا ومنذ نعومة أظفارنا فرض علينا حفظ قصيدة أحمد شوقي "قم للمعلم" وهي من روائع هذا الشاعر الكبير، وتستحق عناء القراءة والحفظ، وقد جاء فيها:

قُـمْ للمعلّمِ وَفِّـهِ التبجيـلا
كـادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا
أعلمتَ أشرفَ أو أجلَّ من الذي
يبني وينشئُ أنفـساً وعقولا
سـبحانكَ اللهمَّ خـيرَ معـلّمٍ
علَّمتَ بالقلمِ القـرونَ الأولى
أخرجـتَ هذا العقلَ من ظلماتهِ
وهديتَهُ النـورَ المبينَ سـبيلا
وطبعتَـهُ بِيَدِ المعلّـمِ ، تـارةً
صديء الحديدِ ، وتارةً مصقولا
أرسلتَ بالتـوراةِ موسى مُرشد
وابنَ البتـولِ فعلَّمَ الإنجيـلا
وفجـرتَ ينبـوعَ البيانِ محمّد
فسقى الحديثَ وناولَ التنزيلا
علَّمْـتَ يوناناً ومصر فزالـتا
عن كلّ شـمسٍ ما تريد أفولا
واليوم أصبحنـا بحـالِ طفولـةٍ
في العِلْمِ تلتمسانه تطفيـلا
من مشرقِ الأرضِ الشموسُ تظاهرتْ
ما بالُ مغربها عليه أُدِيـلا
يا أرضُ مذ فقدَ المعلّـمُ نفسَه
بين الشموسِ وبين شرقك حِيلا
ذهبَ الذينَ حموا حقيقـةَ عِلمهم
واستعذبوا فيها العذاب وبيلا
في عالَـمٍ صحبَ الحيـاةَ مُقيّداً
بالفردِ ، مخزوماً بـه ، مغلولا
صرعتْهُ دنيـا المستبدّ كما هَوَتْ
من ضربةِ الشمس الرؤوس ذهولا
سقراط أعطى الكـأس وهي منيّةٌ
شفتي مُحِبٍّ يشتهي التقبيـلا

عرضوا الحيـاةَ عليه وهي غباوة
فأبى وآثَرَ أن يَمُوتَ نبيـلا
إنَّ الشجاعةَ في القلوبِ كثيرةٌ
ووجدتُ شجعانَ العقولِ قليلا
إنَّ الذي خلـقَ الحقيقـةَ علقماً
لم يُخـلِ من أهلِ الحقيقةِ جيلا
ولربّما قتلَ الغـرامُ رجالَـها
قُتِلَ الغرامُ ، كم استباحَ قتيلا
أوَ كلُّ من حامى عن الحقِّ اقتنى
عندَ السَّـوادِ ضغائناً وذخولا
لو كنتُ أعتقدُ الصليـبَ وخطبَهُ
لأقمتُ من صَلْبِ المسيحِ دليلا
أمعلّمي الوادي وساسـة نشئـهِ
والطابعين شبابَـه المأمـولا
والحامليـنَ إذا دُعـوا ليعلِّمـوا
عبءَ الأمانـةِ فادحـاً مسؤولا
وَنِيَتْ خُطـَى التعليمِ بعـد محمّدٍ
ومشى الهوينا بعد إسماعيـلا
كانت لنا قَدَمٌ إليـهِ خفيفـةٌ
ورَمَتْ بدنلوبٍ فكان الفيـلا
حتّى رأينـا مصـر تخطـو إصبعاً
في العِلْمِ إنْ مشت الممالكُ ميلا
تلك الكفـورُ وحشـوها أميّةٌ
من عهدِ خوفو لم تَرَ القنديـلا
تجدُ الذين بـنى المسلّـةَ جـدُّهم
لا يُحسـنونَ لإبرةٍ تشكيلا
ويُدَلّـلون َ إذا أُريـدَ قِيادُهـم
كالبُهْمِ تأنسُ إذ ترى التدليلا
يتلـو الرجـالُ عليهمُ شهواتـهم
فالناجحون أَلَذُّهـم ترتيـلا
الجهـلُ لا تحيـا عليـهِ جماعـةٌ
كيفَ الحياةُ على يديّ عزريلا
واللـهِ لـولا ألسـنٌ وقرائـحٌ
دارتْ على فطنِ الشبابِ شمـولا
وتعهّـدتْ من أربعيـن نفوسـهم
تغزو القنـوط وتغـرسُ التأميلا
عرفتْ مواضعَ جدبـهم فتتابعـتْ
كالعيـنِ فَيْضَـاً والغمامِ مسيلا
تُسدي الجميلَ إلى البلادِ وتستحي
من أن تُكافـأَ بالثنـاءِ جميـلا
ما كـانَ دنلـوبٌ ولا تعليمـُه
عند الشدائـدِ يُغنيـانِ فتيـلا
ربُّوا على الإنصافِ فتيانَ الحِمـى
تجدوهمُ كهفَ الحقوقِ كُهـولا
فهوَ الـذي يبني الطبـاعَ قـويمةً
وهوَ الذي يبني النفوسَ عُـدولا
ويقيم منطقَ كلّ أعـوج منطـقٍ
ويريه رأياً في الأمـورِ أصيـلا
وإذا المعلّمُ لم يكـنْ عدلاً مشى
روحُ العدالةِ في الشبابِ ضـئيلا
وإذا المعلّمُ سـاءَ لحـظَ بصيـرةٍ
جاءتْ على يدِهِ البصائرُ حُـولا
وإذا أتى الإرشادُ من سببِ الهوى
ومن الغرور ِ فسَمِّهِ التضـليلا
وإذا أصيـبَ القومُ في أخلاقِـهمْ
فأقـمْ عليهـم مأتماً وعـويلا
إنّي لأعذركم وأحسـب عبئـكم
من بين أعباءِ الرجـالِ ثقيـلا
وجدَ المساعـدَ غيرُكم وحُرِمتـمُ
في مصرَ عونَ الأمهاتِ جليـلا
وإذا النسـاءُ نشـأنَ في أُمّـيَّةٍ
رضـعَ الرجالُ جهالةً وخمولا
ليـسَ اليتيمُ من انتهى أبواهُ من
هـمِّ الحـياةِ ، وخلّفاهُ ذليـلا
فأصـابَ بالدنيـا الحكيمـة منهما
وبحُسْنِ تربيـةِ الزمـانِ بديـلا
إنَّ اليتيمَ هـوَ الذي تلقـى لَـهُ
أمّاً تخلّـتْ أو أبَاً مشغـولا
مصـرٌ إذا ما راجعـتْ أيّامـها
لم تلقَ للسبتِ العظيمِ مثيـلا
البرلـمانُ غـداً يـمدّ رواقَـهُ
ظلاً على الوادي السعيدِ ظليلا
نرجو إذا التعليم حرَّكَ شجـوَهُ
إلاّ يكون َ على البـلاد بخيـلا
قل للشبابِ اليومَ بُورِكَ غرسكم
دَنتِ القطوفُ وذُلّـِلَتْ تذليـلا
حَيّـوا من الشهداءِ كلَّ مُغَيّـبٍ
وضعوا على أحجـاره إكليـلا
ليكونَ حـظَّ الحيّ من شكرانكم
جمَّـاً وحظّ الميتِ منه جزيـلا
لا يلمس الدستورُ فيكم روحَـه
حتّى يـرى جُنْديَّـهُ المجهـولا
ناشدتكم تلك الدمـاءَ زكيّـةً
لا تبعثـوا للبرلمـانِ جهـولا
فليسألنَّ عن الأرائـكِ سائـلٌ
أحملنَ فضـلاً أم حملنَ فُضـولا
إنْ أنتَ أطلعتَ الممثّلَ ناقصـاً
لم تلقَ عند كمالـه التمثيـلا
فادعوا لها أهلَ الأمانـةِ واجعلوا
لأولي البصائر منهُـمُ التفضيلا
إنَّ المُقصِّرَ قد يحول ولن تـرى
لجهالـةِ الطبـعِ الغبيِّ محيـلا
فلرُبَّ قولٍ في الرجالِ سمعتُـمُ
ثم انقضى فكأنـه ما قيـلا
ولكَمْ نصرتم بالكرامـة والـهوى
من كان عندكم هو المخـذولا
كَـرَمٌ وصَفْحٌ في الشبـابِ وطالمـا
كَرُمَ الشبابُ شمائلاً وميـولا
قوموا اجمعوا شُعَبِ الأُبُوَّةِ وارفعوا
صوتَ الشبابِ مُحبَّبَاً مقبولا
أدّوا إلى العـرشِ التحيّةَ واجعلـوا
للخالقِ التكبيرَ والتهليـلا
ما أبعـدَ الغايـاتِ إلاّ أنّنـي
أجِدُ الثباتَ لكم بهنَّ كفيـلا
فكِلُوا إلى اللهِ النجـاحَ وثابـروا
فاللهُ خيرٌ كافلاً ووكيـلا
إن القصيدة بثوبها المزكش هذا، تصلح أن تكون نشيدا تربويا لكل الأجيال، فأنفاسها جاءت من قول: "من علمني حرفا ملكني دهرا" وهي خلاصة لكل الأحاديث والأقوال التي تدعو إلى طلب العلم وتبجيل المعلم.

الغريب في الأمر أن صورة المعلم البهية اهتزت أمام الأعين في حقب من تاريخنا، إلى درجة الترهل والإذلال والتسافل، فتحول المعلم إلى أنموذج للبلاهة وموضعا للسخرية، مما حدا ببعض الكتاب لأن يضعوا كتبا في حماقات المعلمين ومنها كتاب لأبي الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي أسماه "أخبار الحمقى والمغفلين"  خص الباب الثاني والعشرين منه لذكر المغفلين من المعلمين، ومما جاء فيه: "قول الجاحظ‏:‏ قلت لبعض المعلمين‏:‏ ما لي لا أرى لك عصا؟ قال‏:‏ لا أحتاج إليها إنما أقول لمن يرفع صوته أمه زانية، فيرفعون أصواتهم، وهذا أبلغ من العصا وأسلم‏.‏
ومثله كتاب المستطرف في كل فن مستظرف لبهاء الدين أبي الفتح الأبشيهي الذي جاء فيه قول الجاحظ: "مررت بمعلم صبيان، وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق، فقلت: ما هذه؟ فقال: عندي صغار أوباش، فأقول لأحدهم: اقرأ لوحك، فيصفر لي، فأضربه بالعصا القصيرة، فيتأخر، فأضربه بالعصا الطويلة، فيفر من بين يدي، فأضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجه، فتقوم إلي الصغار كلهم بالألواح، فأجعل الطبل في عنقي، والبوق في فمي، وأضرب الطبل، وأنفخ في البوق، فيسمع أهل الدرب ذلك، فيسارعون إلي ويخلصوني منهم".
هذه الرؤية القاصرة أنتجت فيما بعد حكما شرعيا يفيد بأنه لا يجوز للمعلم أن يشهد في قضية ولا تقبل شهادته لسبب لا أدري من أين استقوه، ولذا قالوا: "ولا تقبل شهادة معلم الصبيان، فإن عقْل ثمانين معلماً لا يساوي عقل امرأة واحدة"

لكن مع هذا وذاك كانت هناك رؤى أخرى تعطي المعلم صورة مختلفة أخرى مصدرها حالة البؤس والشقاء الذي يعاني المعلم منها، والتعب الذي يجنيه من عمله في التعليم ولاسيما مع الأطفال. هذه الصورة رسمها أحد فحول الشعراء الفلسطينيين وهو إبراهيم طوقان (1905ـ 1941) في رده على قصيدة أحمد شوقي، حيث قال:

شوقي يقول وما درى بمصيبتي
قم للمعلمِ وفــــه التبجيلا
اقعدْ فديتك هل يكون مبجـلا
من كانَ للنشء الصغار خليلا
ويكادُ يقلقني الأمـــــــيرُ بقوله
كادَ المعلم أن يكون رسولا
لو جربَ التدريس شوقي ساعة
لقضى الحياة شقاوة وخمــولا
حسبَ المعــــــلم غمة وكآبة
مرأى الدفاتر بكرة وأصــــيلا
مائة على مائة إذا هي صـلحت
وجد العمى نحو العيون سبيلا
ولو أن في التصليح نفعا يرتجى
وأبيك لم أكُ بالعيون بخـيلا
لكن أصَّلح غلطة نحـــــــــوية
مثلا، واتخذ الكتاب دلــــــيلا
مستشهدا بالغر مـــــن آياته
أو بالحديث مفصلا تفصــــيلا
وأغوص في الشعر القديم فانتقي
ما ليس ملتبسا ولا مبذولا
وأكاد ابعث سيبويه من البـلى
وذويه من أهل القرون الأولى
فأرى حمارا بعد ذلك كـــلـه
رفع المضاف إليه والمفعــولا
لا تعجبوا إن صحت يوما صيحة
ووقعـت ما بين البنوك قتيلا
يا من يريدُ الانتحـــــارَ؛ وجدتـــه
إن المعلمَ لا يعيشُ طـويلا

ومع هذا وذاك أيضا يبقى المعلم أنموذجا للعطاء المثمر، وإيقونة إشعاع في كل المجتمعات، فهو الواسطة التي تنتقل بواسطتها العلوم والمعارف من جيل إلى جيل ولا يمكن لأمة تهين وتمتهن المعلمين أن ترقى إلى مصاف الأمم الإنسانية، وقد يكون الحال المزري الذي نعيشه اليوم دليلا على ذلك لأنه لا توجد في الكون أمة استهانت بالمعلم مثل أمة العرب.

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

1772 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع