إبراهيم الزبيدي
ليس من وظيفة هذه المقالة أن تتطفل على الجدال المذهبي الشيعي السني الممل الذي لم يُنتج، في قرون، سوى إهدار للوقت والطاقة والمال، وسوى شَغل الأمة عن التقدم والتحضر، وعن مواكبة خلق الله في العلوم والفنون والحياة. ولكنها إعلانُ حزن شديد، وخوفٍ عميق من انتقال حروب إيران الفارسية ضد جيرانها من سياسية مدهونة بالدين إلى دينية مُغمسة بالسياسة.
مبدئيا لا يحق لأحد أن يعترض على حج (س) إلى مكة، وزيارة (ص) لكربلاء أو أية مدينة غيرها أو معبد أو مقام وضريح. فلكل امريء حريتُه الكاملة في عقيدته وقناعاته وحياته. ولكن الذي فعلته ولاية الفقيه، مؤخرا، بتجييش مليوني زائر لكربلاء، في حراسة الحرس الثوري والحشد الشعبي وحكومة حزب الدعوة، في يوم وقفة عرفات، والإفتاء بأن هذه الزيارة مقبولة شرعا، وتُغني عن الحج إلى مكة، لا يدخل في حرية العقيدة، ولا الرأي، ولا المذهب، بل هو شيء آخر مختلف تماما، هذه المرة.
فعلى امتداد جميع مراحل الخلاف المذهبي بين الشيعة والسنة، من أيام الإمام علي بن أبي طالب وحتى قبل أيام، ظل الشيعة، عموما، والفرس خصوصا، أكثرَ حرصا من غيرهم على الحج إلى الكعبة الوحيدة التي فرض الإسلام الحج إليها على من استطاع إليه سبيلا.
وقد ظلت هذه الفريضة على مدى تلك القرون كلِها بعيدة عن أي صراع مذهبي أو قومي من أي نوع، وخالية من أية شوائب سياسية كذلك. إلى أن ظهر الخميني في أوائل الثمانيات من القرن الماضي، وأطلق فكرة تصدير ثورته، بقوة السلاح، إلى دول الجوار. فقد أمر بعض حُجاجه من ضباط مخابراته وأجهزة أمنه الأخرى بالقيام بمشاغبات ومحاولات لاستغلال مواسم الحج للتبشير بدولة الولي الفقيه، والدعاية لها، ولكنها ظلت رغم كل شيء في حدودها المقدور على ضبطها والتحكم بمسارها.
والخميني نفسُه، وهو في قمة عدوانيته وشراسته في حربه المعروفة التي دامت ثماني سنوات، والتي فشلت في إسقاط نظام صدام حسين واحتلال الدولة العراقية، كما كان يريد ويتمنى، لم يأمر أشياعه بعدم الحج إلى مكة، ولم يأمر بما يمس قدسية الكعبة ومنزلتها في عقائد المسلمين.
من هنا يصبح ما فعله المرشد الأعلى علي خامنئي حدثا مفصليا عميقا في مسار الخلاف المذهبي بين الطائفتين، وتطوراته المقبلة.
فمها حاولنا تبسيطه وتبريره، فهو إعلانٌ عن (إسلام) شيعي فارسي كعبتُه في كربلاء، في مواجهة (إسلام) آخر سني، عربي وغير عربي، كعبته في مكة، لتبدأ حروب الاستنزاف الجديدة بين مسلمين ومسلمين لن يخرج منها أحدٌ إلا خاسرا، بكل حساب وكتاب.
فبعد فشل المرشد (الوريث) علي خامنئي في حروبه التي أنفق عليها الكثير من أموال الإيرانيين ودمائهم، وفي ضوء المآزق المتلاحقة التي تحاصره ويتعب في الخروج منها، والتي يتهم السعودية بتوريطه فيها وبقيادتها وتمويلها في سوريا واليمن والبحرين ولبنان والعراق، لم يجد سوى أن يهدم المعبد على رؤوس خصومه، وعلى أحبائه ووكلائه أيضا، وأن يجر الأمة إلى أبوابٍ جديدة لجهنمَ أخرى من نوع جديد لا سابق له في التاريخ.
فقد أقدم على سَوْق ما قُدر بمليونين من الإيرانيين المضَللين المُخدَرين بالترياق الطائفي، تقودهم فئة من ضباط الحرس الثوري الباسيج، لزيارة كربلاء، في يوم وقفة عرفات، حصريا، والإفتاء بجوازها شرعا وبأفضليتها على ما سواها.
والحقيقة أن زيارة كربلاء أو غيرها في يوم عرفات لا تضر مكة ولا تنفعها. ولو أمر الولي الفقيه بهذه الزيارة في أي يوم آخر غير يوم عرفات لما كان فيها ما يريب ويُحزن ويخيف.
ولكنها نقلة تاريخية دراماتيكية في الصراع الذي يخوضه النظام الإيراني ضد خصومه ومعارضيه من الطوائف والقوى والدول الأخرى في المنطقة. ولن يبقى الصراع، بعدها، في حدوده وأشكاله السياسية والعسكرية والاقتصادية التي عمد النظام إلى تغليفها بالطائفة وبالدين، بعد أن أصبح إعلان حرب دين ودين، لا حرب طائفة وأخرى، ولا حكومة وحكومة غيرها، كما لم يعد، بعدها أيضا، أيُ أمل في حوار محتمل بين طهران وأية عاصمة عربية أو إسلامية تخالفها في الرأي والسياسة وفهم الدين.
والغرض من هذه المقالة هو القول بأن العتب في هذا الإعلان الشرير الجديد عن هذه الحرب الجديدة لا يقع على المرشد الأعلى وحده. فهو مسوق إلى عمل الشيطان بقناعاته ومصالحه ومخططاته وأهدافه القريبة والبعيدة، دون ريب.
ولكن العتب كله على الحاكم العراقي الذي صادر إرادة الملايين من شعبه، وقامر بمصيرها، وأعطى ما لا يملك لمن لا يستحق جزءً عزيزا من وطنه الذي ائتمنه على أرضه وسيادته وكرامة أهله، جاعلا من مدينة كربلاء، ومن العراق كله، قاعدةَ انطلاق متقدمةً لجيوش الاحتلال الفارسية الغازية، فارضا على شعبه المزيد من العداء والقطيعة والاحتراب مع ظهره العربي، والزج به في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل.
فبأي حق، وبأية ذريعة، ومن الذي فوضه بأن يضع الملايين من العراقيين، شيعة وغير شيعة، مسلمين وغير مسلمين، عربا وغير عرب، تحت تصرف دولة أجنبية ليكونوا دروعها البشرية في حروبها وصراعاتها مع دول الجوار؟
ألم يتعلم من التاريخ أن قضم العراق من بحره العربي الكبير كان، وسوف يظل، حلم الجيوش الفارسية الذي لم يتحقق، لا قبل ظهور الإسلام ولا بعده؟
وألم يقرأ في التاريخ الدامي الطويل أنها كانت، في جميع غزواتها، تعود مهزومة وذليلة، بل مستعبدة من قوى غازية أخرى أقوى منها، وأشد عنادا وغرورا وجهالة؟.
ثم ألم يعرف أن نهايته، هو وحزبه وكل حشوده المسلحة، لن تكون إلا كنهاياتهأ؟.
ثم ألم يعرف كيف كانت عاقبة جميع خان وطنه، قبلَه، وأتبع هوى من غزاه، ودنس أرضه وماءه وسماه؟.
1767 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع