الدكتورعبدالرزاق محمد جعفر
استاذ جامعات بغداد والفاتح وصفاقس / سـابقا
قصتي بين ماض من الزمان وآت
ثانياً / قطار الصداقة:
عندما يرغب أي طالب الحصول على درجة الدكتوراه في أختصاص معين عليه أن يختارالأستاذ المشرف ويتحاور معه حتى يتم الأتفاق,...ويخطط الأستاذ المشرف الخطوات المهمة حتى نهاية البحث وكتابة الأطروحة والمصادقة عليها من قبل لجنة مختصة يعينها القسم وتحصل على موافقة عمادة الكلية ورآسة الجامعة , ألا أن ما حدث معي شكل ثان !,...فقد لعبت الصدفة لعبتها في أختيارالأستاذ المشرف! فما أن أنهيت مُقرر اللغة في أيلول(سبتمبر)1961حتى أكملت الوثائق المطلوبة لمرحلة الدراسة العليا لنيل شهادة الدكتوراه في الكيمياء غيرالعضوية من جامعة موسكو الأولى"أم كو".
*** ذهبت الى كلية الكيمياء في جامعة موسكو لمقابلة مسؤل الدراسات العليا,وطلب مني أن أقابل العـمـيد,..وقادني وقدمني له , وبعد الترحاب والسلام قدمت له كافة الوثائق من الجهات الرسمية العراقية, وراح يدقق فيها , ثم سـلمها لسيدة متقدمة في السن في غاية الشياكة , تجلس على مقربة منه, ثم راحت بدورها تتصفح الملف, وتختلس النظرات لي أثناء التحدث مع العميد باللغة الإنكليزية والروسية (المكسرة)! , ثم راحت تلك السيدة ُتكلم العميد بصوت خافت وأبتسامة رقيقة طفحت على وجهها , وبعد لحظات قال لي العميد:
" الرفيقة فالنتينا موسويفنا"أقدم لك البروفوسورة التي ستشرف على دراستك المعمقة(العليا) لنيل الدكتوراه!, أصبتُ بالذهول والأرتـباك , فأنا مازالت في مقتبل العمر, ولم أعمل بمعية امرأة في حياتي , فقد علمونا منذ الصغر الأبتعاد عن الجنس الآخر,وهكذا,.. ولأول مرة أتقمص البطولة, ومن دون ان أدري توجهت نحو السيدة وصافحتها بكل حرارة كما يفعل ابناء القبائل, ومدت الأستاذة يدها مـرحبة بي,.. وســُـرَ العميد لذلك الموقف,..ثم هـَمت بتوديع العميد , وطلب مني أن أرافق الأستاذه, وودعته وخرجت برفقتها نحو قسـم الكيمياء.
*** صاحبت الأستاذة , وأنا في حالة مزرية, وبعد أستراحة في مختبر طلبة الدراسات العليا , شرحت لي طريقة العمل وأسلوب البحث العلمي ,... ثم قادتني إلى المختبر الذي سأعمل فيه مع طلبة الدراسات العليا، وشعرت بغبطة لا مثيل لها,.. لمشاهدتي مختبراً لأبحاث طلبة الدراسات العليا !,...وما أن دخلت, حتى قدمتني الأستاذة لهم , فرحب الجميع بي وتلقيت القبل من الطالبات كادت أن تفقد وعي,وأنا وسط هذه الباقة من الزهور في (الصدرية) البيضاء,.. كأنهن عرائـس !
*** زال الأرتباك عني, بعد أن غـُمرتُ بمودة لا مثيل لها, ثم سيطرت على عواطفي, وقدمت لهم موجزاً عن سيرة حياتي!
*** في نهاية السنة الدراسية سألتني أستاذتي , عن المكان الذي سأقضي فيه عطلتي الصيفية؟,فقلت لها: سأستمر بالعمل لأنهي أطروحتي بسرعة وأعود للوطن, فقالت له على الفور:
ســـوف لن تسـتطيع,..فتعجبت! ,..وقالت:
لأنك ستكون متعباً وتخطأ بالنتائج ونطلب منك أعادتها, وهكذا تضيع فرصة لكي تستمتع بالراحة وتعود للعمل بهمة ونشاط.
*** وعلى أية حال,أستوعبت الدرس وبدأتُ أتأقلم مع عادات الطلبة الروس, وشاركتهم الفعاليات الصيفية وأستلمت تذكرة الأ قامة والتغذية في قطار خاص يطلق عليه " قطارالصداقة" وركابه خليط من طلبة الجامعة الأجانب ومن كافة جمهوريات الأتحاد الســوفيتي ومن كلا الجنسين ومختلف القوميات !
*** في بداية العطلة الصيفية يخرج هذا القطار من موسكو, متوجهاً نحو كافة المدن في جنوب الأتحاد السوفيتي السابق, وتستغرق رحلته شهراً كاملا.
*** كنت ســعيداً بأختلاطي بتلك الجموع, وانبهرت لرؤيتي الأجسام الـشـبه عارية على"البلاج" ساحل البحر, وسـرحت بحلم اليقظة بمصاحبة غادة , او حورية حسناء قد تزيل عني الضجر وألم الغربة , متذرعاً بغطاء الرغبه لتعلم اللفظ السليم للغة الروسية من اهلها مباشرة, فقواعد اللغة الروسية اقرب الى العربية الفصحى, و لكن ليس فيها لغة عامية.
*** تحرك القطار من محطة موسكو, ليلأ,... وفي الصباح الباكر توقف عند أحد (بلاجات) ضواحي مدينة " سوجي", وبعد تناول الأفطار ,.. هبط الراغبون من الركاب الى ساحل البحر للسباحة, يمرحون حتى موعد الغداء,.. وعند المساء
لا يسمح لركاب القطار بالتجول بمحاذات ساحل البحر,..ولذا يستعدون للسهرة في مركزالمدينة آملين التعرف على صبية لترافقهم لمقهى أومطعم شعبي على قارعة الطريق!
***في احدى الأمسيات دخلت احدى المقاهي, ولفتت انتباهي صبية جالسة بمفردها بحـشمة , واستسمحتها الجلوس على نفس الطاولة, فهزت رأسها بالموافقة , وما ان تـمَ التعارف معها حتى سألتها عن سبب ارتدائها ملابس سوداء ؟ فقالت: أنا مسلمة واليوم هو عشرة عاشوراء, مقتل الحسين بن علي (ع ) وهكذا فهمت انها (شيعية)!
سـعدت الفتاة عندما علمت هويتي ,وأنني من "طينتها",... وعلى الفور طلبت مني تناول الغداء غداً في دارها لكي أشرح لوالدتها تفسيرآيات من القرآن الكريم , وأسـرد لها قصة مأساة الحسين (ع) , فوافقت , وفي اليوم التالي, تـمً اللقاء مع والدة الصبية وبلغة روسية ركيكة تمكنت ان أجيب على استفسارات الأم الدينية ثم نهظت الأم لأعداد المائدة, وبقيت أتبادل الحديث مع تلك الفتاة القوقازية !
*** تـمً اعداد الطعام , وجلس الجميع حول المائدة, وعليها بعض الأصناف, و من اهمها الأكلة الموسـومة بـ " البيتي", وهي اشبه (بالتشريب العراقي) وبعد فترة من الأطراء بكرم الضيافة, بدأت اشعر بمودة لهذه الفتاة ,,.. وأعلمتني من انها طالبة في السنة الثالثة في كلية الحقوق في جامعة موسكو,.. وستعود عند بدأ السنة الدراسية, ووعدتني باللقاء وكتبت لي اسم المقهى وتاريخ اللقاء, وودعتني .
*** تعثرالحظ كالعادة مـرًة اخرى,... حيث لم تطل تلك الفتاة وفق الموعد , ولام نفســه لعدم تسجيل عنوان سكنها او رقم هاتفها ولكن ما نفع الندم ؟ وهكذا, خسـرت فرصة لن تتكرر, وما زال خيالها يراودني حتى هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الذكرى، فما زلت أراها أتخيلها كلما سمعتُ صوت عجلات القطار , أو صفارته المميزة وصرتُ موقناً بأن:
القطارلا يقف لمن لا يجيد الصعود فيه، ولا يفتح أبوابه لمن لا يجيد فتحها !!,..مع محبتي
873 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع