التسامح.. قيمة وسلوك وحرية

                                                     

                             د. بشرى العبيدي*

                 
      ((الضعيف لا يغفر,فالمغفرة شيمة القوي))... غاندي

العنف والعنف المضاد أصبح من الأعمال المنتشرة في شتى مناطق العالم وهي تنطوي في عمقها على الانانية والتعصب والكراهية ودوافع الهيمنة لتفسد مناخ التعايش والأمن والمحبة.فيحرص من يمتلك القوة والسلطة والهيمنة الى الغاء الاخر عن طريق تدميره او اقصائه وتهميشه.وهذا بدوره يولد ردود افعال تتخذ في معظمها اشكالا ووسائل عنيفة ونتائجها مأساوية.
وأمام كل هذا اصبح شعار التسامح يطرح بقوة في اطار العمل على اطفاء البؤر المشتعلة وإزالة الاحقاد والكراهية التي خلّفت الكثير من الضحايا والدمار.فكانت الدعوة لتلافي كل ذلك عن طريق مدّ جسور التحاور والتفاهم والتواصل الايجابي كبدائل عن العنف,مؤسسين في ذلك اقرار كل طرف ,مهما كانت سلطته,بوجود الطرف الاخر وضمان حق الاختلاف وحرية التعبير واحترام الرأي المغاير وحماية الحقوق المشروعة والحريات الاساسية للجميع.وهذا هو الرأي المتشبع بقيم الديمقراطية وحقوق الانسان.فالتسامح يعني تهذيب السلوك واحترام الغير.
وقد عرّف اعلان مبادئ بشأن التسامح المعتمد من المؤتمر العام لليونسكو في 16/11/1995 في المادة الاولى منه التسامح بأنه ((الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا,ولأشكال التعبير,وللصفات الانسانية لدينا,ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد,وانه الوئام في سياق الاختلاف,وهو ليس واجبا اخلاقيا فحسب)) كما وبينت المادة نفسها بان التسامح لا يعني التنازل او التساهل,بل هو قبل كل شيء موقف ايجابي يقرّ بحق الاخرين في التمتع بحقوقهم وحرياتهم الاساسية,ولا يعني ابدا تقبل الظلم الاجتماعي او تخلي المرء عن معتقداته.
وتلعب الدولة دورا اساسيا في تحصين المجتمع ووقايته من الاسباب والعوامل التي تحول دون ترسيخ قيم ومبادئ التسامح وهذا ما بينته المادة (2) من اعلان المبادئ بان (التسامح على مستوى الدولة يقتضي ضمان العدل وعدم التحيز في التشريعات وفي انفاذ القوانين والإجراءات القضائية والإدارية,وإتاحة الفرص الاقتصادية والاجتماعية لكل شخص دون اي تمييز. فكل استبعاد او تهميش انما يؤدي الى العدوانية والتعصب). كما ورد في هذا الاعلان ان التسامح ليس واجبا اخلاقيا فحسب وإنما هو واجب سياسي وقانوني وان الاخذ به ليس تكرّم من طرف لصالح طرف اخر وإنما هو التزام يتقيد به الجميع. ولكي يتم تعزيز قيم التسامح فان ذلك يتطلب المعرفة والاتصال والانفتاح وحرية الفكر والضمير.ويعد التعليم انجح الوسائل لترسيخ التسامح ومنع العنف وهو ضرورة ملحّة ليتعرف الناس على الحقوق والحريات التي يتشاركون بها ويعطيهم ملكة الدفاع عنها وحمايتها لهم ولغيرهم.
ومن هنا نستطيع القول ان التسامح هو عماد السلم وحقوق الإنسان,وقد اصبح بمثابة اختيار حضاري لتجنب وتلافي الحروب والمواجهات العنيفة ووسيلة لنشر السلام وتحقيق التعايش والتعاون والتفاهم بين البشر وحماية كرامة الانسان وحقوقه وحرياته.

لماذا نسامح؟
نسامح لنتحرر من الماضي , ونحيا المستقبل.
فالتسامح يجعلنا احرار,يجعلنا نشعر بالتعاطف والرحمة والحنان لنحمل كل ذلك في قلوبنا,وألا نشعر بالغضب والمشاعر السلبية من الاشخاص الذين امامنا.بمعنى اخر انه يجعلنا نشعر بالسلام الداخلي ويخلّصنا من الكراهية والرغبة بالإيذاء والانتقام.فهو عطاء للشخص ذاته قبل ان يكون تنازلا للمتسامح له. فبقدر ما نسامح بقدر ما نكون اقرب الى انفسنا. وهو وسيلة راقية لتنقية النفس والسمو بها,لأننا عندما نتسامح فإننا بذلك نقوم بغلق باب الحقد ونزع فتيل الكراهية والتباغض.
التسامح يجعلنا نصفح حتى عن انفسنا ويحول دون ان يكون هناك صراع داخلي ويجعلنا نتوافق مع الاخرين. فالشخص العنيف هو الشخص الذي فقد التوافق الذاتي والتوافق مع الاخرين.بينما التسامح والصفح والمسالمة هو قمّة التوافق النفسي مع الذات ومع الاخر.
التسامح هو قيمة انسانية سامية ذات معاني ايجابية وأخلاقية راقية (فاعقل الناس, اعذرهم للناس).لان التسامح والعفو هو سلوك العقلاء والحكماء الذين استطاعوا ان يقرنوا القوة بالعقل والحكمة (فأولى الناس بالعفو, ر على العقوبة).اذ ليس من القوة او البطولة ان يبطش بعضنا ببعض, فالأقوياء حقاً يجعلون من اللجوء الى القوة آخر ادوات العلاج وليس اولها. فأولها لديهم هو العفو والتسامح (فالنفوس الكبيرة وحدها تعرف كيف تسامح). فالتسامح دليل قوة وثقة وليس ضعفا وتهاوناً. لان الاقوياء وحدهم من يمتلكون القدرة على التسامح وهم فقط القادرون على تنقية النفس والضمير بما يمتلكون من قدرة ذهنية على تفسير الامور بشكلها الايجابي والسلمي.
التسامح يمهد الطريق لسيادة دولة الحق والقانون التي تضمن تساوي الجميع امام القانون دون اللجوء الى الانتقام . وهذا بالضرورة يسترعي وجود قوانين عادلة وتطبق بشكل منصف ومتساو على الجميع دون اي شكل من اشكال التمييز. وهذا بدوره لن يتحقق إلا بوجود قضاء مستقل ونزيه وكفوء بما يضمن حقوق الانسان وحرياته,وينشر الاطمئنان وعدم الخشية من الظلم والجور ويشجع الناس على الاحتكام الى القانون لحل نزاعاتهم.
التسامح هو اساس بناء المجتمعات وعنوان رقيّها,ومن خلاله يُمنح الانسان فرصا اخرى عليه التمسك بها وجعلها منطلقا لحياته ومستقبله.ففي التسامح لا نبحث عن من الفائز ومن الخاسر,لان ليست هذه هي الاشكالية. فالإشكالية الحقيقية هي كيف نربح انفسنا ونعيش حياتنا في سعادة متوازنة. اذا ان حسابات الحياة تصبح ممسوخة اذا ما حسبناها فقط في لغة الارقام لنحسب من خلالها مقدار الربح (الفوز) والخسارة (الهزيمة). فالثراء الحقيقي يكون بوجود قيم اصيلة ومبادئ سامية.
والتسامح يسمح لنا بالتحرر من المعتقدات والاتجاهات السلبية ويحرر لدينا الطاقات النفسية والعاطفية بحيث يمكّننا من تطبيقها لخلق حياة افضل. فكلما تعلمنا ان نغفر ونسامح,كلما تحولت الطاقة ,التي كنّا نفقدها في الافكار والمشاعر السلبية والتي لا تجلب لنا سوى التعاسة,الى طاقة لخلق الحياة التي نريدها بعيدة عن المعاناة. وهذا بدوره سيولّد لدينا مواقف اكثر سعادة لكل من هم حولنا بما يجعلهم يعاملوننا ايضا بالمثل. وكلما تعلمنا التسامح كلما تغير جانب من جوانب حياتنا الى الافضل وسوف يجعلنا ناجحين في أعمالنا وكل ما يتعلق بحياتنا.
وفي النهاية نسأل:هل نحن ذوو نفوس كبيرة ونمتلك ثقافة انسانية صحيحة تعيننا على التسامح والمغفرة لكي تنطلق قدراتنا الحضارية الصالحة للآخرين ونتمكن من التعايش؟
((بما انني رميت سيفي, فان كأس الحب هو كل ما استطيع ان أهديه لمن يتعرّض لي)) غاندي
*اكاديمية وناشطة في حقوق الانسان

            

  

إذاعة وتلفزيون‏



الأبراج وتفسير الأحلام

المتواجدون حاليا

931 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع