مهند النابلسي
"صخرة نيرموندا" لبكر السباتين:
ذاكرة ضياع فلسطين والحنين الجارف ليافا الجميلةّ/
سرد روائي مدهش واستحواذي!
قصة حب "سعد الخبايا" لبلقيس المتوهجة، ومصير الطفلة البريئة الضائعة عبير في متاهات يافا الساحرة، رواية حافلة بالرموز الفلسطينية والصور الشعرية والحقائق الحياتية-اليومية، في اعادة صياغة "شبه-وثائقية" لواقع الحياة الحضارية بيافا الجميلة، تحفل بالدهشة والغبطة والحزن أحيانا، وتتدفق بالحنين الجارف، غارقة أحيانا بالتفاصيل اللافتة التي تنبض بالحياة، كما تستعيد صور الماضي التليد والمقاومة الباسلة، انها بمثابة استرجاع نابض للذاكرة الفلسطينية وتفاصيل "المآساة التراجيدية" التي صاحبت ضياع يافا وفلسطين...
لم اجد وسيلة كتابية "نقدية" للحديث عن هذه الرواية (المهداة لي من كاتبها) الا باستعراض بعض فقراتها المحورية التي تقودنا للغوص بتفاصيل الأحداث والاستمتاع بنمط السرد المتدفق البليغ الحافل بالايحاءآت والمدلولات والمجاز المعبر...
*يستشعر بأنفاسها المعبقة بأريج البرتقال تداعبه احلامه، فيدفن خوفه...
*...بل لأنك لا تفعل سوى الانتظار في زمن لا يتوقف لأحد!
*انها تلك الصخرة التي قيل عنها في أساطير المدينة انها أميرة يافا التي صمدت معاندة الأسر في وجه القراصنة ذات يوم غابر.
*كان ميدان الساعة مكتظا بالناس على اختلاف مللهم ومشاربهم، فيافا مدينة عالمية، تزدحم شوارعها الواسعة الأنيقة بالحافلات التي يصنع معظمها بمصنع "السروجي" بيافا،وسيارات"الفوردو الشفرليه" التي يتاجر بها آل طنوس (انها مجرد مؤشرات للتطور الصناعي والتجاري الذي وصلت اليه هذه المدينة)!
*فقال لها متأملا بعينيه الشبقتين سوق الصلاحي، والسيارات الجارية فيه، والناس المزدحمين في سوق البرتقال.
*"وهنا مربط الفرس يا جميلة يافا" حيث يستحوذ طائر الوقواق على العش، طاردا الحمامة التي تعبت في نربيته!
*واجمل ساعات عمله كان يغطي جلها وهو يتجول بآلته بين العائلات، التي كانت تقضي أجمل اوقاتها في موسم النبي روبين بشاطىء البحر، على امتداد الساحل من جنوب حي العجمي حتى شمال المنشية قرب تل الربيع، يتصفح الوجوه عله يعثر عليها، وهو يدب الصوت عاليا...مدللا على مهنته.
*الرجل ذاته، غادر والده يافا في شبابه الى تشيلي حينما كنا نخدم معا في السرايا الغثماني، وهاهو حفيده يعود لكي ينفذ وصيته التي تقضي بأن ينثر مسحوق عظامه بشوارع يافا في يوم عاصف حتى يتناثر في الأرجاء، لأنه لا يريد ان يدفن في المنافي.
رائحة البحر وأريج البرتقال وطائر الوقواق وكارثة الاحتلال وبسالة الأحرار وغزو الذئاب ويافا المزروعة في الوجدان...وماذا قال "أينشتاين" بعد زيارته لفلسطين؟!
في مجاز ذكي يشبه الاستيطان اليهودي الغاشم بطائر الوقواق:
*وفجأة جاءته عاصفة هوجاء حملت على متنها أسراب "طيور الوقواق" الجائعة، والتي أنشبت مخالبها مستنفرة في مناجزته، ثم انقضت عليه بشدة...تتنافس على تمزيق لحمه ومن ثم التهامه!
*"سأصعد الى شجرة تؤيني من غضب الوقاويق".
*ما الذي يخيف هذا الرجل من طائر يتعامل معه كأنه (يهوه)؟(ص.98)
*يتذكر سعد ذلك الحاخام المغربي الذي زار داود في محله خلسة ذات صباح، كانت شمس يافا تشطف الطرقات بالنور الوضاء، ويزكم الانوف خليط من أريج البرتقال القادم من البيارات، ورائحة البحر الخاصة.
*ويكمل حديثه واصفا مشاعر رجال المقاومة وهم يقبلون على الكنيسة القرمزية اللون، ببرجها الوحيد الذي تراه يافا من كل الاتجاهات ويدخلون رواقها آمنين وقد خلب جمال الكنيسة ألبابهم.
*علما بأن الاختباء في مسجد ابونبوت الكبير(معقل الثوار) كان يشكل خطرا داهما عليهم...فكل أحرار يافا كانوا متفقين على التنسيق بين الطوائف لجل انقاذ فلسطين من كارثة الاحتلال.
*فقط عليك الجلوس على صخرة "نيرمومدا" في ليلة مقمرة، وكشافات الفنار الشرقي تمسح سطح البحر!
*ماذا سيغعل ازاء كل ذلك سوى تأمل ما فات من ذكريات قريبة، كي يدخل الى جحيمها من جديد، فقد حلم سعد بأن يافا بدت له "كخربة كنعانية"...هكذا تخيلها عبارة عن بيوت غارقة في لون رنادي، اذ انتشرت "طيور الوقواق" في سمائها المكفهرة...خشية ان تتحقق الأحلام التي تنبأت بمقتله من قبلها، ما دعاه لاضرام النار فيها وهي في اقفاصها!
واخيرا ينهي الكاتب روايته بتصعيد "دراماتيكي" مؤثر وحزين:
*ثم تنتبه زكية! فقد كان الجيران قد اخلوا الطرقات للذئاب، وحي العجمي تدك بيوته المدافع العمياء...والموت يزاحم الأحياء في أرجاء المدينة...فيدخل عبد الجواد وبيده بندقية، تدافع الكلمات المرتبكة أنفاسه المتحشرجة.
*"درة العقد الفلسطيني الذي سطر عليه الغزاة".
*"من أجلك يا سحر لا بد أن نعيش هنا...يافا لن تغادرنا، فكيف نعيش دونها!؟".
وبعد يقال أن عالم النسبية اليهودي الشهير "أينشتاين" قد قال بعد زيارته لمدن فلسطين: لقد ضحكوا علينا!
مهند النابلسي
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
هامش تعريفي بالرواية:
في حوار صحفي خص به الحياة
السباتين : رواية "صخرة نيرموندا" تختزل الوجع الفلسطيني
الحياة- خريس القماز
*س: " صخرة نيرموندا".. فرصة كي نعرف القراء بأهداف هذه الرواية.. وفي أي سياق تدرج من حيث الرؤية والأسلوب؟
ج: تختزل الرواية الوجع الفلسطيني وتعود به إلى أسباب النكبة ما قبل عام ثمانية وأربعين.. لتعريف الأجيال اللاحقة بتداعيات الهزيمة من أجل تشخيص حالة التشرذم العربي وتهميش الحق الفلسطيني، ووضع اليد على الجراح بتوصيف ما يعانيه العقل العربي من هزيمة واضطراب..
وهذا استرعى مني كروائي جاد القيام بالبحث عن تفاصيل ومعالم مدينة عالمية كيافا لكي أسقط على النهر كل تداعيات الحدث وتياراته الحياتية الواقعية وصولاً إلى ذروة الشلال ليأخذها إلى بحر الذاكرة الذي تضج فيه الحياة..الرواية تحمل رؤية إنسانية من خلال بطلها سعد الخبايا الذي دأب طوال حياته يبحث عن الحب المستحيل ليذوب في الموت عشقاً بحب يافا الفاتنة.. وأميرتها الأسطورية "نيرموندا" التي أسرها الغزاة بربطها على صخرة حملت اسمها.. لتمنحه طاقة الانبعاث لكي يتمسك بحبه الواقعي لبلقيس التي خرجت له من خبايا الأرض.. وتبدأ رحلة البحث عن حبه من خلال تقصيه لحقيقة الطفلة عبير التي شحذ لها السكين لتخبره مرتعدة بأن "والدها يريد ذبحها بها".. فتتشعب رحلة البحث هذه لتغرق بطل الرواية في هموم المدينة وتداعيات سقوطها في يد الصهاينة، وخاصة أنه اتهم بثلاث جرائم مترابطة.. ويمكن إدراج الرواية في خانة (الواقعية السحرية) نظراً للغتها السردية المليئة بالصور الشعرية المبهرة.. واحتفائها بالأساطير والرموز الكنعانية واليهودية ذات الدلالات الإنسانية والتاريخية..وتوظيف طائر الوقواق في تحديد ملامح المحتل برؤية فنتازية ولغة سردية شعرية سهلت على الراوي (العالم) التنقيب في الأعماق ووصف مدينة أعدمت ملامحها.
740 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع