د. محمد عياش الكبيسي
من أكثر التوازنات الشائكة والقلقة والمثيرة للجدل التوازن بين حدّ الهويّة ومساحة الحريّة.
الهويّة إطار جامع، قد يتخذ طابع التمسّك بالدين والعقيدة أو العادات والتقاليد أو النظام السائد أو التراث والتاريخ، أو كل ذلك مجتمعاً.
أما الحرية فهي ذلك الفضاء الذي يلبّي رغبة الإنسان الفطرية في الانعتاق من كل قيد ولو كان قيداً ذهبياً أو حريريّاً، إنها نزعة ضاغطة للبحث عن المكان الذي يحمي خصوصية الإنسان ويتسع لأفكاره وآرائه دون وصاية أو رقابة.
الهويّة ضمانة لوحدة المجتمع، وتماسكه، وثباته بوجه المخاطر والتحديات، والحرية ضمانة لتحقيق إنسانية الإنسان وكرامته وتعبيره عن ذاته بآلامه وآماله وطموحاته وتطلّعاته.
وبين المساحتين توافق وتخادم، فالفرد القوي الواعي الواثق بنفسه مهيأ أكثر من غيره للإسهام بتطوير مجتمعه وحلّ مشكلاته، والمجتمع القوي المتماسك يحمي الفرد ويهيئ له أسباب تكوينه واستقراره وتطوير ذاته.
حينما يتحدّث القرآن في مجال حريّة الفرد يقول: (لا إكراه في الدين) وحينما يتحدث عن هويّة المجتمع يقول: (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)، بهذا السياق يمكن فهم الآيتين، فالإنسان لا ينبغي أن يُملَى عليه الدين إملاء، لأن الدين إيمان وتصديق واقتناع، إنه لا بد أن ينبع من ذات الإنسان، وإلا كان نوعا من النفاق الذي هو أضرّ على الدين من الكفر البواح، وفي الوقت ذاته فإن هذا لا يعني السماح بفوضى الأفكار والأخلاق التي قد تطيح بالمجتمع وتمحو وجوده من الأساس، وعليه فإن المجتمع من حقه بل ومن مسؤولياته المصيرية أن يحافظ على وجوده ووحدته وتماسكه.
إن التقاط الخيط الفاصل بين المساحتين سيبقى مثار قلق وجدل، فكلما توسّعت مساحة الاهتمام والتركيز على الهويّة شعر الناس بالخوف على حريّاتهم الشخصية، وكلما اتسعت مساحة الحريّة شعر الناس بالخوف من الضياع والتشتت والتفتت.
إننا إذاً أمام معادلة صعبة ومعقّدة، بيد أن الذي يمكن اعتماده موجّها من بين جملة الموجّهات مراعاة طبيعة المرحلة التي يمرّ بها المجتمع، فحينما يكون المجتمع في حالة من الاستقرار الثقافي والسياسي والأمني، فإن الحاجة تبدو ملحّة أكثر لفتح آفاق الحريّة لإحداث النهضة المطلوبة وتنمية الطاقات والقدرات و»إطلاق ممكنات الفرد»، أما حينما يكون المجتمع في حالة من الاختراق الفكري والاضطراب الأمني وتداعي معاول التفكيك والهدم داخليّا وخارجيّا فإن الأولوية بلا شك ستتجه نحو صيانة المجتمع وحمايته والمحافظة على وجوده.
إن منطقتنا اليوم تتعرّض لعدوان مركب وبعنوان الهويّة الصارخ، فإسرائيل تشكلت أساسا بمنطق ديني ثأري للانتقام من كل ما هو عربي وإسلامي، والشيء نفسه بالنسبة للمشروع الإيراني إن لم يكن الأشد خطرا والأكثر انتشارا، وكلاهما عدوان عابر للحدود والسدود، وفي مثل هذا الوضع لا يعقل أن تكون الأولوية لحرية التعبير والنقد المفتوح، خاصة ذلك الموجه تحديدا لتراثنا وتاريخنا.
إن الأمة اليوم بحاجة إلى استنهاض كل عوامل وحدتها وثقتها بنفسها وعقيدتها، ولن يستطيع أي فكر تجديدياً كان أو تقليدياً يمينيّاً أو يسارياً أن يجمع هذه الأمة ويمكّنها من الوقوف على قدميها إن لم يكن قد انطلق من ضمير الأمة وهويتها وانتمائها العميق.
858 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع