د. منار الشوربجي
سيسجل التاريخ انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2016 من أكثر من زاوية، فهي واحدة من مرات محدودة فى التاريخ لم يفز فيها بمنصب الرئاسة الفائز بأصوات الناخبين.
وهى انتخابات تمثل أهم حلقات الموجة اليمينية، التي تجتاح العالم الغربي تحديداً، وتؤذن بالانطلاق خارجه، ثم إنها انتخابات تمثل، فى تقديري، بداية النهاية للاقتصاد النيوليبرالى، وهي انتخابات تاريخية أيضاً لأنها عبرت ربما للمرو الأولى بمثل ذلك الوضوح عن حجم الفجوة الجيلية الواسعة، وكشفت ربما أكثر من أي وقت مضى، عن أن المعضلة العرقية والإثنية ظلت دوماً هي أهم المعضلات الأميركية.
فللمرة الخامسة فى التاريخ الأميركي، يفوز بالرئاسة المرشح الذي لم يحصل على أعلى أصوات الناخبين، ذلك لأن الرئيس الأميركي لا يتم اختياره عبر الانتخاب المباشر، أي تصويت الناخبين مباشرة للمرشح، وإنما هم من الناحية العملية يعطون أصواتهم لما يسمى «بالمنتخبين»، بكسر الخاء، الذين يقومون في ما بعد بالتصويت للمرشح.
و«المجمع الانتخابي»، الذي هو العدد الكلي للمنتخبين، هو الذي يحدد من يصبح رئيساً للولايات المتحدة الأميركية لا التصويت الشعبي. وهي طريقة للانتخاب غير المباشر تكون محصلتها أحياناً أنه لا يفوز بمنصب الرئاسة من حصل على النسبة الأعلى من أصوات الناخبين.
ذلك لأن أصوات الناخبين تتحدد قيمتها وفقاً للولاية التي يعطون فيها أصواتهم، ما يجعل شعار «نحن الولايات» أكثر دقة فى التعبير عن انتخابات الرئاسة الأميركية من جملة «نحن الشعب»، التي يبدأ بها الدستور الأميركي! وبلا شك، دخلت انتخابات 2016 التاريخ من هذا الباب.
فقد حصلت هيلاري كلينتون، وفق آخر إحصاءات، على 233 ألف صوت أكثر من ترامب، لكن هيلاري كلينتون فازت بالنسبة الأعلى من أصوات الناخبين، بينما فاز دونالد ترامب بأصوات المجمع الانتخابي والبيت الأبيض!
وقد حدث ذلك من قبل فى التاريخ الأميركى أربع مرات، ثلاث منها فى القرن التاسع عشر، والرابعة فى عام 2000 حين فاز آل جور بأصوات الناس، بينما فاز بوش الابن بالبيت الأبيض.
واليوم، وسط صدمة كثير من الأميركيين بعد إعلان النتيجة، صارت هناك حركة واسعة وقّع من خلالها الملايين على عريضة تدعو لإعادة النظر فى ذلك النظام.
وفوز ترامب بمنصب الرئاسة يأتي أيضاً فى إطار موجة يمينية أوسع تزداد تسارعاً فى عدد من الدول الأوروبية، وهي مرشحة للامتداد خارجها. والحقيقة أن دراسات علمية أثبتت مؤخراً أن موجات المد اليميني تأتي عادة بعد الأزمات الاقتصادية أو تتزامن معها. وهو الحادث في دول عدة بالعالم والولايات المتحدة لم تعد استثناء.
وهو ما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتوجهات الاقتصاد النيوليبرالى، الذي قامت عليه نوعية العولمة التي جرى صنعها فى العقود الأخيرة، فهو اقتصاد لا يقيم اعتباراً لإفقار المزيد من قطاعات المجتمع، واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء فى المجتمع، عندما يتم الحد بشكل قاس من أدوار الدولة الاقتصادية.
ومن المعروف فى ظل الأزمات الاقتصادية أيضاً أن سوء أوضاع الناس الاقتصادية يفاقم من المشكلات الاجتماعية، حيث يصب المقهورون اقتصادياً غضبهم على الأكثر ضعفاً وانكشافاً، فتبرز بقوة النعرات العنصرية والتعصب، ويأخذ الغضب طابعاً موجهاً ضد تلك الفئات أكثر من غيرها.
وحين يزداد الغضب فى أكبر اقتصاد رأسمالي فى العالم من محصلة النيوليبرالية يكون ذلك إيذاناً بنهايتها، فالغضب الذي عبرت عنه جماهير برني ساندرز على اليسار فى أميركا ودونالد ترامب على اليمين تجعل من أي مرشح فى المستقبل يفكر مرات قبل أن يعلن تبنيه اقتصادات نيوليبرالية كتلك التي تبناها الجمهوريون ونخبة الديمقراطيين منذ عهد بيل كلينتون.
والمد اليميني الذي يرفع شعارات ذات ملامح عنصرية لا تخطئها العين صار هو نفسه يزيد من الاحتقان فى مجتمعات كثيرة حول العالم.
لكن هذه الانتخابات كشفت أيضاً عن حجم الفجوة الجيلية فى الولايات المتحدة، فأغلبية الناخبين فوق الخمسين أعطوا أصواتهم لكلينتون، بينما الأقلية من أصوات من هم دون الثلاثين هي التي أعطته أصواتها. وهي فجوة جيلية صارت هي الأخرى ذات طابع عالمي تقصم ظهور مجتمعات كثيرة.
ولا يقل أهمية عن كل ذلك هو أن انتخابات 2016 تعتبر ذات أهمية خاصة، لأنها ربما الأكثر تجسيداً لزيف كل مقولات «نهاية المسألة العرقية»، والإثنية التي تم الترويج لها حين تولى أوباما الرئاسة عام 2008، فلعل هذه الانتخابات هي الأكثر كشفاً منذ فترة طويلة عن أن المسألة العرقية والإثنية كانت دوماً وستظل المعضلة الأهم التي تعاني منها الولايات المتحدة.
لكن الأهم من هذا وذاك هو أن الولايات المتحدة عادت من جديد كما كانت فى العقد الماضي أمة منقسمة على نفسها بقوة، وبالتساوي تقريباً. ومن هنا يصبح السؤال الأهم هو المتعلق بمدى قدرة ترامب على توحيد أميركا من جديد.
918 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع